بلدة رويانة ومنطقة البحر هي الفضاء السردي في «هذه الضفاف تعرفني» للكاتب الشاعر والمسرحي السوداني فضيلي جماع، الذي استلهم بلدة «رويانة» كمحور ومنبع ومصب لمجرى الأحداث. ولكن كانت بيئة الحضر أيضاً حاضرة في تلك المدن التي لم يذكر أسماءها، غير أن الريف والبادية محفوران في وجدان الكاتب؛ فهو يستدعيهما بين الفينة والأخرى عبر تكنيك استرجاع الذاكرة، حتى تغطي على ما عداها.
يقول الراوي، لا يعرف متعة الحياة في تلك السهول والأنهار إلا من عايشها مثلي.
أما بالنسبة للشخصيات، فقد طغى عليها طابع الثنائية في علاقاتها العاطفية والإنسانية، وتكاد تكون أي علاقة لها رواية قائمة بذاتها؛ لما في هذه الثنائيات من حيوية ورمزية وغموض وتعقيدات إثنية واجتماعية.
الشخصيتان، مجاك وفارس، هما صديقا طفولة. مجاك ابن لأحد سلاطين قبائل الدينكا، وفارس من قبائل العرب الرحّل المشاركين للدينكا في المرعى وسبل كسب العيش فيما أسماه المؤلف بمنطقة البحر. واصل صديقا الطفولة رحلة حياتهما معاً، زمالة ورفقة وصداقة حتى التخرج في الجامعة. يقول فارس عن مجاك «كان يحلم مثلي بوطن يسمو على نعرة العرق واللون! أمضينا سنوات من عمرنا لا تفرقنا سوى ساعات النوم».
وفي الرواية ثنائي آخر هما الدقم وفطين العسل. الدقم هو شقيق الراوي، الذي ربطته علاقة عاطفية بفطين العسل، لكن والده لا يسمح له بالزواج منها. وفي غمرة علاقتهما الحميمة تجاوزا العرف والشرع وأنبتا بذرة غير شرعية. تقول فطين العسل في تحدٍّ لمجتمعها القبلي الرعوي «بذرة الدقم الجواي ما برميها حتى لو قطعوا رقبتي!».
دلالات عميقة تجاوزت فيها فطين العسل العرف والتقاليد وتحملت ذلك بشجاعة، وتوجت علاقتهما بعد سنين برباط شرعي، رافقه اعتذار من أسرة الدقم وتسامح من أسرة فطين. حيث تقول والدة فطين «الدقم ولدي. طيش الشباب عفيتا ليا. بس يعرف قيمة بتي زين!».
من ثنائيات الرواية التي تجذب القارئ بتفاصيلها المثيرة قصة حب مجاك فيوت وسناء الفوراوية. ويقال عن سناء إن حياتها لغز. فقد عاشت معاناة كبيرة وهي تشب عن الطوق من دون أم. وحين تسأل أباها عنها، يلوذ بالصمت ولا يعطيها إجابة تشفي غليلها. وفي نهاية الرواية يميط الراوي اللثام عن ذلك اللغز لتلتقي سناء بوالدتها بعد رحلة محفوفة بالمخاطر والصعاب. ومن خلال كل ذلك، يكشف لنا المؤلف، عن واقع مليء بالتناقضات والتعقيدات والتداعيات الوجدانية والاجتماعية والعقائدية والإثنية، وصولاً إلى فظائع الحرب الأهلية، التي اندلعت بين الشمال والجنوب، وكان ضحيتها اغتيال مجاك على يد الميليشيات المسلحة، وهو في ريعان شبابه وقد قارب أن يحصل على درجة الدكتوراه. اندلعت هذه الحرب الطاحنة بعد ما كانت القبائل التي تعيش في منطقة البحر تنعم بالأمن والسلام جراء التعايش بينها لأكثر من قرنين. وقد نشأت بينهم روابط وأمشاج وصلة رحم، ولكن كل ذلك تهاوى بسبب انتهاج سياسات رعناء من قبل السلطة الحاكمة في المدينة الكبيرة. يقول الراوي «.....تجييش القبائل لتخوض حرباً لا تجني من ورائها إلا الموت المجاني».
أما فارس، فقد تعرض لتجربة الاعتقال والتعذيب بسبب معتقداته السياسية التي تتعارض مع آيديولوجيا النظام الحاكم. كان الاعتقال أهون عليه من الآلام والأحزان والتعاسة التي سببها لوالديه بوجوده في السجن. ومع ذلك أطلق السجن العنان لخياله «ليتخطى الجدران، ولينطلق في الفضاء الفسيح كطائر حر يجوب الفيافي والمدن دون جواز سفر».
من خلال كل هذه الأحداث الدرامية، تطرح رواية (هذه الضفاف تعرفني)، قضايا فكرية وسياسية وآيديولوجية واجتماعية عدة، في قالب فني سردي متماسك البناء، مشبع بالبوح العاطفي والتدفق الوجداني.
شخصيات معذبة تحلم بوطن يسمو على نعرة العرق واللون
الشاعر والمسرحي السوداني فضيلي جماع في رواية «هذه الضفاف تعرفني»
شخصيات معذبة تحلم بوطن يسمو على نعرة العرق واللون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة