الشيخة مي آل خليفة لـ {الشرق الأوسط}: اكتشفنا خمسة في المائة فقط من آثار قلعة البحرين.. والباقي في باطن الأرض

وزيرة ثقافة البحرين: أولوياتي الاستثمار في الثقافة.. والدق والحفر والترميم لا يتوقف من أجل الكشف عن كنوز بلادي

الشيخة مي آل خليفة
الشيخة مي آل خليفة
TT

الشيخة مي آل خليفة لـ {الشرق الأوسط}: اكتشفنا خمسة في المائة فقط من آثار قلعة البحرين.. والباقي في باطن الأرض

الشيخة مي آل خليفة
الشيخة مي آل خليفة

حفرت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وزيرة الثقافة والإعلام بمملكة البحرين في صخرة الأيام والظروف الصعبة منذ عام 2002، حين كانت موظفة بدأت عملها للمرة الأولى بقطاع الثقافة والتراث الوطني التابع لوزارة الإعلام لمنع إعدام البيوت التراثية وإزالتها من الأرض في الشقيقة البحرين التي تحفظ كنزا تراثيا طبيعيا كبيرا من بين كل دول الخليج.
تقول لـ«الشرق الأوسط»: «حين كنت أبحث في أروقة المتحف الوطني ومخازن مخطوطاته قبل سنوات عن تفسير القرآن للزمخشري، وكان هذا المخطوط يعود لجدي الأكبر الشيخ إبراهيم وقت أن كان منفيا إلى الهند، وكان هذا المخطوط ضمن مكتبة آلت إليَّ بعد وفاة والدي، رحمة الله عليه، وكنت أبحث عن هذا الكتاب بالذات، وعلمت أن والدي كان قد أهداه إلى المتحف، فجئت أبحث عن المخطوط القرآني وسط كم هائل من الكتب والمخطوطات الإسلامية، ولم أعلم وقتها أن تفسير القرآن للزمخشري سيكون مدخلي للاهتمام بكنوز وتراث بلدي البحرين».
وتضيف: «لم أكن أعلم أنني بعد عشر سنوات، سآتي إلى هذا المتحف كمسؤولة عنه، وأن يتحول هذا المبنى الجميل إلى بيت لي، وقبل أن أصل إلى مكتبي كل صباح، يجب عليَّ المرور بقاعاته وأروقته، والمتحف اليوم هو المحطة الأولى لي في تجربة العمل الرسمي، وأنا التي لم أتدرج في وظائف ولا عملت بقطاع عام أو خاص، أجد نفسي هنا، وأكتشف أن امتداد البحث التاريخي والتنقيب في مدونات البحرين قادني لهذا الموقع».
منذ سنوات انشغلت الشيخة مي آل خليفة لحظتها في التركيز في تأسيس مشروعها الخاص في الاهتمام بالمراكز التراثية، فاهتمت بشراء البيوت من جيبها الخاص، كما أسست بنجاح مشروعا لم تعرفه المنطقة العربية من قبل اسمه «الاستثمار في الثقافة»، ففتحت باب التبرعات والتمويل من الشركات والبنوك والخيرين للشراء أو لعمليات الترميم، فأسست مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والفنون في مدينة المحرق القديمة، وأقامت وحدها أحياء كاملة وانتشلتها من برودة الموت الأبدي. وفي مدخل متحف البحرين الوطني، توجد لوحة كبيرة من الرخام محفور عليها أسماء أصحاب الخير من رجال الأعمال والمؤسسات التي أسهمت في رفعة تاريخ البحرين الوطني والتراثي. والشيخة مي آمنت بأن إعدام البيوت التراثية القديمة الحواري والمقاهي والمدارس القديمة جريمة رسمية، معلنة بحق ذاكرة الوطن والشعب بجميع أجياله.
بعد تأسيس المركز انشغلت الشيخة مي بترميم بيت الشيخ إبراهيم، وهو بيت جدها، وشراء وترميم بيت الشعر، وهو عائد للشاعر إبراهيم العريضي، وبيت «أبو الأرامل والأيتام» سلمان بن مطر، وبيت القهوة وبيت الكورار وهو للحرف القديمة، والشيخة مي آل خليفة لم تترب في طفولتها في بيت تراثي، ولم تزر بيت جدها الشيخ إبراهيم الذي توفي وترك بيته مهجورا، إلا أن حدسها وقراءاتها فيما بعد جعلاها تفتح عينيها للثروة المعمارية التي ما زالت متوافرة على الأرض في البحرين، ولديها أحلام كثيرة منها مشروع طريق اللؤلؤ، ولا تنسى ذكر الكثير من التمويل الذي حصلته من الشركات البحرينية ومن الكويت كبنك التمويل والشيخة حصة وزوجها الشيخ ناصر والشيخة سعاد الصباح، ما هو موضح في اللوحة العملاقة في مدخل المتحف الوطني البحريين.
* وجاء حوار «الشرق الأوسط» معها في قاعة كبار الزوار الملحقة بالمسرح الوطني المجاور لمتحف البحرين بعد إحدى حفلات الأوركسترا الفليهارمونية الملكية على هامش معرض الطيران في المنامة الأسبوع الماضي على النحو التالي:
* هل لك أن تحدثينا عن المشاريع التي قمت بها بمفردك بعيدا عن مساعدة الحكومة؟
- قمت بتأسيس المركز الأول للتراث، وبدأت في بيت جدي الشيخ إبراهيم، وقمت بشراء البيت ورممته، والداعم الأول لي كان زوجي بهذا المشروع، وبعد شرائي للبيت بأموالي الخاصة طرحته كمشروع وطني، ويجب أخذ الملاحظة أنني صحيح قمت بشرائه، لكنه لا يخص الأسرة، ولذلك قررت مدّ الجسور مع القطاع الخاص، وبالفعل قمت بدعوة الكثير من الشركات والبنوك وأهل الخير وأبلغتهم بأن المبنى مهدد بالإزالة التامة، كما أخبرتهم أنني قمت بشرائه وأحتاج لدعمهم لعملية الترميم. فلاقى الأمر استحسانهم وتلقيت مساهمات بسيطة في البداية، إلا أنني لم أيأس، فأكملت عملية الترميم من جيبي الخاص، إلى أن علم بالأمر ولي العهد، فقام مشكورا بتبني بقية عملية الترميم بأكملها. وهذا ما حفزني للانتقال في ترميم بيت آخر، وتوالت مشاريع الترميم كما فعلت مثلا في بيت محمد بن فارس وغيره. وبيت محمد زايد وبيت بن مطر، فبدأت بتقوية أواصر العلاقة الطيبة بمد الجسور مع المؤسسات الخاصة والشركات للمساهمة في استكمال عمليات الترميم.
* كيف بدأت فكرة الاستثمار في الثقافة التي يتحدث عنها أهل البحرين؟
- الاستثمار في الثقافة مدخل لمشروع كبير، وكنت وقتها وكيل مساعد للتراث والثقافة الوطنية، وكان الهدف في الأساس جذب القطاع الخاص لدعم المشاريع الثقافية، وبدأنا فيه بمشروع قلعة البحرين من الألف إلى الياء، وأكبر مشروع اليوم هو المسرح الوطني الذي نجلس فيه اليوم لإجراء هذا الحوار، بدعم خاص من ملك البحرين، وعندما اختيرت المنامة عاصمة للثقافة العربية، كنا نطالب ببنية تحتية تناسب هذا التوجه، وما نفعله في الاستثمار الثقافي يعود في الوقت ذاته بالترويج للسياحة الثقافية على بلادنا اليوم.
* ما نصيب الآثار والفنون الإسلامية من المتحف الوطني؟
- نصيب التراث الإسلامي في المتحف الوطني ربما ليس في حجم آثار فترة دلمون أو تايلس أو العهود السابقة للحضارة الإسلامية، ولكن الآثار الإسلامية الموجودة في المتحف، سواء أكانت مخطوطات قرآنية أو تحفا أو شواهد قبور، ترصد فترة مهمة من تاريخ البحرين، وخارج المتحف لدينا مسجد الخميس، وهو أقدم مسجد أثري في البحرين، وسيكون هناك متحف إسلامي بالقرب من مسجد الخميس يضم الكثير من القطع والآثار الإسلامية، وهذه المواقع الأثرية تشترط أيضا أن تكون بها مراكز خدمية للزوار ومقاهٍ ومرافق وأماكن استراحة من التجوال بالموقع.
* أول بعثة أثرية في البحرين كانت دنماركية عام 1954.. والمتحف افتتح عام 1988.. هل ما زالت هناك بعثات أثرية تقوم بالحفائر في أرض البحرين حتى اليوم؟
- اليوم هناك فريق حفائر فرنسي وآخر دنماركي يعملان في الكشف عن كنوز البحرين، والفريق الفرنسي لم ينقطع عن البحرين منذ السبعينات، واستمرت عمليات التنقيب السنوية برئاسة البروفسور لومبارد، وهو اليوم مستشار للآثار بالمتحف الوطني، وما اكتشف من آثار قلعة البحرين هو خمسة في المائة فقط مما يضمه الموقع، والذي يعد رصدا لكل الحقب التاريخية التي مرت بها المنطقة، ولم أتكلم هنا عن «تلال عالي» أو وادي السيل.
* ما الجديد بالنسبة للبيوت التراثية في المحرق؟
- هو مشروع أهلي ليس له علاقة بالدولة، 20 بيتا تتبع المؤسسة الأهلية التي تعتمد على ذاتها دون الحاجة إلى الدولة، إيمانا منها بدور القطاع الأهلي، والحكومة في البحرين تعطي الكثير للمواطنين من جهة الصحة والتعليم، وكله مجانا، والمؤسسة الأهلية كانت البداية الحقيقية للمشروع الأضخم للاستثمار في الثقافة، حيث أكملنا مشروع بيت الشيخ إبراهيم والبيوت الأخرى المتفرعة عنه، وبيت الكرار، وبيت فيهم وهو أحد أجمل بيوت المنامة، يعود تاريخ بنائه إلى 1921، وفيه نقوش خشبية لأحد صناع المشربيات المشهورين في العراق.
* بالنسبة للمسرح الوطني الذي نجلس فيه اليوم، والذي يعد كما يقول أهل البحرين أحد أبرز إنجازاتك في وزارة الثقافة وقصة نجاح.. هل جرى تحت راية مشروع الاستثمار في الثقافة؟
- جئت إلى وزارة الثقافة بروح البناء، ففي السنة الأولى التي باشرت فيها العمل الرسمي جئت بمشروعين، الأول المسرح الوطني، والثاني متحف قلعة البحرين، وحين تقدمت بالمشروعين للمسؤول آنذاك لم يكن المشروعان من أولوياته، فتركت العمل بوزارة الثقافة لمدة عام وثمانية أشهر، وكنت قد التحقت بالعمل في مايو (أيار) عام 2002 وتركته عام 2004، وعدت إلى الوزارة مرة أخرى في يونيو (حزيران) عام 2005، وبعد عودتي تبنيت مشروع الاستثمار في الثقافة، وجاء الدعم المالي من الملك للرسومات التفصيلية للمتحف، وبدأ وزير جديد ومعه عراك جديد، وعادت أحلامي ترى النور مرة أخرى بدعم كامل من ملك البحرين.
* ما الشعار الذي ترفعينه لدفع السائحين لزيارة آثار البحرين؟
- دائما نقول إن اختلاف البحرين عن دول الخليج الأخرى هو حفاظها على هويتها، وكذلك بالآثار التي في باطن أرضها والمعمار العمراني الشاهد الحي على عظمة وتاريخ هذا البلد الذي يميزه عن غيرها من البلدان، وهناك بيوت تعود للعشرينات أو الثلاثينات أو بيت يعود إلى 200 عام من قبل جرى ترميمه أخيرا يتزامن مع حكم الأسرة في مملكة البحرين، أي نحو عام 1796، وهو من أقدم بيوت المحرق، وهو بيت الشيخ سلمان، وكان بيت حاكم البحرين في القرن الـ18، وهذا البيت الآن موجود يشهد على تراث معماري يوضح هوية البلد وتاريخه، والمتلقي الأجنبي يحب أن يشاهد ما يميز كل بلد، أو ما تضمه أرضه من آثار وتحف فنية، وأحد الخبراء المصممين الذين جئت بهم لتطوير العروض المتحفية في البحرين، أكد لي أن أفضل ما في متاحفكم هو الموجود في الأرض، في أن بعض المتاحف تقوم على المقتنيات الموجودة فيها ربما لا تمت للأرض الموجودة بها المتحف، أي مقتنيات من الخارج، مثل المتحف البريطاني في العصمة لندن أو اللوفر الفرنسي.
* خلال خمس سنوات من توليك وزارة الثقافة بالبحرين تعدين المسؤولة الأولى عن تراث وآثار البحرين.. ما الدروس المستفادة من تلك التجربة؟
- الدروس المستفادة هي أن نواصل العمل، أي الحفر والدق والترميم بلا كلل أو ملل، نحن لا ننام، نحن نعمل ليل نهار، بحثا عن كنوز بلدي التي لا تنضب، وأنا مع نظرية التنقيب في عالم الآثار، وحفظ ما يكتشف في الأجواء الملائمة لها، والإشكال الوحيد هو التمويل، وكذلك الطاقة البشرية لدفع العمل دوما إلى الأمام، وما زال أمامنا الكثير من أجل المتلقي من أول خروجه من مطار البحرين من جهة الشوارع وتجميل المدن أيضا، ورغم أن بلدنا صغير الحجم، فإن هناك كثيرا من المعطيات الإيجابية لصالحنا. ولله الحمد، وثقت بي الشركات والبنوك بعد أن رأت أن تمويلها للمشروع التراثي أصبح واقعا على الأرض في نفس مواقعها بمدينة المحرق القديمة، وعلمت أنه «لا لعب بأموالها»، بل إنني أقدم لها مشروع الترميم كاملا وتكلفته، وعلينا الإشراف فقط، وهذا أكسبني الثقة.
* ما أبرز المشاريع الثقافية التي تشرفين عليها اليوم؟
- أشرف اليوم على 36 مشروعا في وقت واحد تتبع وزارة الثقافة، ما بين بيوت تحكي قصة البحث عن اللؤلؤ، وهذه البيوت في طريق طوله نحو ثلاثة كيلومترات، يتكلم عن هذا التراث الذي كان الحياة الاقتصادية في البحرين إبان ذلك الوقت، وهناك بيت للغواص يشرح طبيعة عمل الغواص ومقتنياته وآثاره، وكذلك بيت ربان السفينة، وطواش البحر، وكذلك التاجر المشغول الذي يجلب أخشاب السفن، أو حتى من يداوي المصابين في المهنة، وهناك دور للطرب أيضا، وكل هذا يمر بـ18 موقعا وبيتا، فيما يعرف بطريق اللؤلؤ في المحرق، إلى جانب خمسة أو ستة مواقع ومتاحف أثرية مؤمل إنشاؤها، أحدها المتحف الخاص بمسجد الخميس، وهو بدعم خاص من الأمير سلمان ولي العهد، وهناك أيضا مشروع «تلال عالي»، وهو ما بين متحف وتطوير صناعة الفخار، وتسليط الضوء على صناعة عمرها أكثر من خمسة آلاف عام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)