من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي
TT

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف استطاع ملك إمارة «كين» المعروف باسم ينج زينج في غرب الصين الصعود إلى سدة الحكم والقضاء على كل المنافسة التي كانت أمامه، وكيف أنه استطاع أن يُحجم أمه وعشيقها ويقضي على محاولتهما وضع ابنهما في سدة الحكم بدلا منه من خلال انقلاب من داخل القصر، وهكذا أصبح الرجل هو الحاكم القوي والوحيد لهذه الدويلة. وكما تابعنا، فقد استطاع الرجل أن يجهز جيشه ويطوره بشكل فتح له المجال للبدء في تنفيذ حلمه بتوحيد الدويلات الصينية السبع تحت حكمه وأسرته من بعده، وهو الجهد العسكري الذي سمح له بتأمين حدوده مع دويلة «زهاو» الشمالية ثم قيامه بغزو دويلة «هان» الغربية، وهو ما بات يهدد باقي الدويلات بشكل مزعج للغاية، فتحالفت هذه الدويلات ضده بأسرع مما كان يتصور، ولكنه استطاع بهدوء ورجاحة عقل أن يستولي عليها الواحدة تلو الأخرى بمزيج من الدبلوماسية والقوة العسكرية، فلقد قام بشكل منظم بتوجيه جهده الحربي في المرحلة التالية نحو ولاية «ويي» الغربية التي أصبحت في أحضان دولته بعدما استولى على الدويلتين في شمالها وجنوبها، فصارت محاصرة وأصبح الاستيلاء عليها مسألة وقت لا غير. وقد اقترف الملك الكثير من المجازر خاصة مع السجناء لمحاولة كسر عزيمة المقاومة للجيوش التي أصبحت أمامه. وقد جاءت هذه المجازر بأثر عكسي على خطط الملك؛ حيث أصبحت الجيوش الأخرى تخشى أن تلقى المصير نفسه، فزادت من استبسالها وصمودها في مواجهة جيشه، ولكن قوته كانت أكبر واقتصادات بلاده كانت أقوى من منافسيه، خاصة بعد ضم 3 دويلات إلى دولته، فوجه جهده بعد ذلك إلى أقوى الدويلات المتبقية، ولكنها استعصت عليه في البداية وهزمته عسكريا في عام 224 قبل الميلاد، ولكنه استطاع حشد مزيد من القوات، وعاد لينتصر عليها، ثم دانت له ولاية «كيي» بعدما فقدت الأمل في أي مناصرة أو تحالف. وبهذا استطاع الملك أن يوحد الصين في عام 221 قبل الميلاد، فدانت له البلاد تماما وأصبح هو موحد الصين، وبمجرد أن حقق هذا الحلم، قرر الرجل أن يمنح نفسه لقبا إمبراطوريا وهو تشي هوانج داي.
وعلى الفور بدأ الرجل في اتخاذ سلسلة من القرارات الفورية الهادفة إلى السيطرة الكاملة على الدولة الجديدة، فلقد رفض الرجل استبدال إقطاعيين من رجاله وجنرالاته بقيادات نظام الإقطاع، فقد أصبح الملك يتشكك كثيرا فيمن حوله، وكان يخشى الانقلاب عليه أو منح رجاله الكثير من السلطة بما يمكنهم من الانقلاب عليه، خاصة بعد تجربته التعيسة مع أمه وعشيقها، لذلك آثر الاستبدال بهذا النظام نظام الحاكم المركزي الذي يخضع لإمرته المباشرة من خلال تقسيم الصين إلى محافظات وأقاليم وقرى.. إلخ، التي خضعت بدورها لحكمه من خلال تعيين المحافظين بشكل مركزي، ومع ذلك، فهو لم يستطع القضاء على النظام الإقطاعي بوصفه كيانا اقتصاديا، لا سيما على ضوء عدم وجود نظام بديل له، ولكنه طوعه بشكل مركزي قضى من خلاله على فرص القلاقل السياسية. وقد بدأ الرجل سلسلة من الإصلاحات الداخلية هدفت لشق الطرق لربط الإمبراطورية الجديدة بعضها ببعض، كما قام بكثير من الإصلاحات في مجال الري وشق القنوات وغيرها من المشروعات المهمة التي ضمنت نوعا من الاستقرار الاقتصادي.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الإمبراطور تشي هوانج داي رغم أن مشروعه التوسعي مصدره الأساسي شعوره بالعظمة ورغبته في إعلان نفسه إمبراطورا على الصين الموحدة، فإنه بشكل أو بآخر وضع اللبنة الأولى لوحدة الدولة الصينية من خلال كثير من الخطوات المهمة، وعلى رأسها قيامه بتوحيد الكتابة الصينية وتعميمها في كل ربوع الدولة الموحدة، ووضع نظام موحد للعملة الصينية، وكذا وضع نظاما موحدا للمقاييس حفاظا على الوحدة الاقتصادية والتكامل بين أجزاء الدولة الجديدة، وهو ما كان له أكبر الأثر في التوحد الصيني فيما بعد بعيدا عن الأنظمة المختلفة التي تبعته.
وإمعانا في تأمين هذا الهدف، فقد دأب الرجل على محاولة احتواء مملكته الجديدة من خلال بناء سور الصين العظيم الذي كان يمثل فاصلا بين دولته والعالم الخارجي، خاصة أمام القبائل المتنقلة، وهنا استخدم الرجل ما يقرب من مليون عامل صيني بالسخرة أو العبودية لبناء هذا الصرح الضخم في وقت قياسي، فبناء سور بارتفاع قرابة عشرة أمتار لمسافة تقارب خمسة آلاف كيلومتر لم يكن بالمشروع الهين، ولكن الرجل بأساليبه القسرية والعنيفة استطاع على حساب ما يقارب ربع مليون صيني أن يحقق هدفه الثمين.
وعلى الرغم من أن الإمبراطور استطاع أن يحقق حلمه وهو في سن مبكرة، تماما مثلما حدث مع الإسكندر الأكبر، فإن كل المصادر التاريخية تجمع على أن تاريخ الرجل وتجاربه باتت تؤثر على توازنه النفسي والانفعالي بشكل ملحوظ، فلقد بدأ الرجل يشعر بأن ما حققه ليس كافيا، خاصة إذا ما تلازم مع ذلك شعور بالعظمة الممزوج بنوع من «البارانويا» بسبب كثرة المؤامرات ومحاولات الاغتيال، وهو ما ساهم في تشكيل نفسية غير سوية مع مرور الوقت، فلقد بدأ الرجل يسعى مثل الإسكندر إلى تحدى الموت، وإذا ما كان الإسكندر قد اقتنع بأنه كان سيموت في عمر مبكر لأن الآلهة ستسمح له بتحقيق العظمة في سن مبكرة، فإن شيي هيوانج داي لم يكن على هذه القناعة نفسها، فلقد أراد الرجل أن يعيش عمرا أطول مما هو مكتوب له، فكانت محاولاته المستميتة لإيجاد وسيلة تسمح له بعمر مديد، وهو ما قربه من الروحانيين والعرافين الذين اقترحوا عليه كثرة معاشرة النساء لمد عمره فضلا عن تجرع جرعات من «الزئبق» التي كانوا يعتقدون أنها ستمد عمره، وهو ما أتى بنتائج عكسية تماما، حيث ساهم ذلك في إضعاف جسد الرجل تدريجيا إلى أن مات في عام 210 قبل الميلاد.
وهنا كرر التاريخ نفسه بعد موته، فسرعة التوحيد وعدم ترسيخ النظام الجديد لسنوات طويلة غالبا ما يكون من نتائجه تلاشي الحلم الذي بنيت من أجله الدولة الجديدة في وقت سريع، وهذا ما حدث؛ فلقد وقعت الدولة فريسة لمؤامرات القصر، حيث إن رئيس الوزراء لم يكن يميل لأن يتولى ابنه فوسو الحكم من بعد أبيه لأنه كان يأمل في أن يزيد من سلطاته من خلال السيطرة على الابن الأصغر للملك، ولكن في أقل من ثلاث سنوات انهارت الدولة الصينية الأولى، ولكن ليس قبل أن تكون قد رسخت في العقلية الصينية الدولة واللغة والثقافة والعملة الموحدة، وهي المكونات الأساسية التي تبنى عليها القومية في أي دولة.
أما على الصعيد الخاص بموحد الصين، فلقد ثبت من خلال تجربة هذا الرجل أن الاضطراب النفسي كثيرا ما يصاحب القوة التي لا يراجعها أحد والتي تتعرض للموت والمؤامرات، فسرعان ما حولت هذه العوامل الرجل إلى شخص مضطرب عانت من قيادته البلاد في أواخر أيامه أكثر مما استفادت، حيث بلغت به «البارانويا» آفاقا متقدمة، ولعل أكبر رموزها كان المقبرة العظيمة التي بناها الملك لنفسه تخليدا لحياته في العالم الآخر، وهي المقبرة التي تم اكتشافها في عام 1974 والتي احتوت في داخلها على خريطة مصنوعة للصين الموحدة، ومقبرة برونزية له، وما يقرب من سبعة آلاف تمثال لجيشه بالحجم الطبيعي، والمعروفة بالـ«Terracota»، مضافا إليها رفات كثيرين ممن شاركوا في بناء المقبرة والعالمين بمداخلها ومخارجها حفاظا على سرها، فضلا عن كثير من عشيقاته اللاتي آثرن الموت معه أو فرض عليهن الموت ليخففوا عن الملك آلام العالم الآخر وليوفرن له الاستقرار النفسي، وهذه من الحالات التي لم يأت فيها حب الملوك والتقرب منهم بفائدة عليهن!



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.