كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول

عبء إعادة الحياة وتأهيل المرافق سيكون أثقل من عبء الحرب

كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول
TT

كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول

كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول

بات سكان مدينة عين العرب (كوباني) في سوريا على أعتاب خطر جديد يحدق بهم بعد الحرب التي دارت بين التنظيم والمقاتلين الأكراد في وحدات حماية الشعب والمرأة وقوات البيشمركة، فبعد معارك ضارية استمرت أكثر من أربعة أشهر، أصبحت كوباني مدينة مدمرة لم يبق فيها سوى أنقاض المباني والمنازل المهدمة.
وبحسب روايات سكان في المدينة وعناصر من القوات الكردية، فإنه ما زالت هناك المئات من جثث قتلى تنظيم داعش توجد تحت المباني المهدمة، والكثير من هذه الجثث بدأت في التفسخ، الأمر الذي سيتسبب في القريب في انتشار الكثير من الأوبئة والأمراض خاصة مع النقص الحاد في الغذاء بسبب قلة الإغاثة الإنسانية، وانعدام المياه الصالحة للشرب والخدمات الأساسية التي كانت تتمتع بها في الماضي.
الرائد عز الدين تمو، هو طبيب عسكري كردي رافق قوات إسناد بيشمركة إقليم كردستان العراق التي دخلت كوباني في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي لتقديم الدعم بالأسلحة الثقيلة لمقاتلي وحدات حماية الشعب والمرأة التي كانت تخوض معركة دفاعية ضد «داعش» الذي سلط كل زخمه العسكري من أجل السيطرة على المدينة. وقال تمو الذي يواصل مهامه العسكرية والإنسانية منذ أكثر من مائة يوم في كوباني، من خلال رئاسة اللجنة الطبية المرافقة لقوات الإسناد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك جثثا لقتلى (داعش) تحت كل مبنى مدمر، لكن بسبب الأجواء الباردة هنا لم نشعر بتفسخ هذه الجثث، لكن في الأيام المقبلة سيكون هناك وباء بسبب تفسخها خاصة مع ارتفاع حرارة الجو، لذلك يجب تدارك هذه الكارثة والتفكير في إزالة الجثث». وتابع تمو «عندما دخلت قوات البيشمركة إلى كوباني كان هناك مركز صحي صغير في المعبر الحدودي مع تركيا، يقدم العلاج لجرحى مقاتلي حماية الشعب والمرأة. الفريق الطبي المرافق للبيشمركة كان يحمل معه كمية كبيرة من كل أنواع الأدوية ولكل الأعمار، وما زالت حكومة إقليم كردستان العراق تقدم الأدوية والمستلزمات الطبية لهذه المدينة مع بدء كل وجبة من قوات البيشمركة لمهامها في كوباني، وأسس أبناء المدينة منظمة الهلال الأحمر الكردي وقدمنا جزءا من الأدوية التي وردتنا من كردستان العراق إلى هذه المنظمة».
المركز الطبي الموجود في معبر مرشد بينار الحدودي الفاصل بين المدينة والحدود التركية دمر بالكامل إثر هجوم بسيارة مفخخة لتنظيم داعش على المعبر، ففقدت كوباني المركز الصحي الوحيد لها بعد أن دمر مبنى مستشفى المدينة ولم يبق منه سوى هيكل منقوش بآثار الرصاص.
ويقول تمو «بعد تدمير المركز الصحي أنشأنا مستشفى ميدانيا في قبو أرضي تحت إحدى المدارس غرب المدينة التي كانت أقل دمارا من الأجزاء الأخرى لأنها كانت تحت سيطر القوات الكردية طيلة الحرب، هذا المستشفى يقدم خدماته لمقاتلي وحدات حماية الشعب وللمدنيين أيضا، ويعالج المصابين والمرضى بالاعتماد على المساعدات الطبية. كوادر المستشفى انقسموا إلى فريقين، أحدهما يشرف على المدنيين فقط والآخر على المقاتلين، حاليا الدواء الموجود كاف، لكن المشكلة ستكون بعد عودة السكان، لأننا سنحتاج في حينها إلى كميات كبيرة من الأدوية والمستلزمات الصحية، التي تتواكب مع العدد الهائل للسكان وكذلك ستكون هناك حاجة إلى كوادر طبية ومستشفيات وعيادات صحية أيضا لأن ما كان موجودا في كوباني في الماضي أصبح اليوم في عداد الأنقاض».
الواجب الذي يقع على كاهل الإدارة الذاتية في كوباني أو «كانتون كوباني» كما يسميه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا (بي واي دي)، سيكون أثقل من الحرب التي خاضها مقاتلوه في الأشهر الماضية، فالمناطق الجنوبية والشرقية وحتى الشمالية من كوباني مدمرة بالكامل، ولم تبق ملامح المدينة سوى في قسمها الغربي الذي تعرض هو الآخر لشبه تدمير خلال المعارك، لذا عملية إعادة الإعمار ستكون صعبة في ظل غياب الدعم الإنساني الدولي والإقليمي للأكراد في سوريا.
يقول إدريس نعسان، نائب رئيس العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لـ«كانتون كوباني»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «نتيجة حصار (داعش) لكوباني الذي دام قرابة العامين والحرب التي استمرت أكثر من أربعة أشهر ونزوح معظم أهالي المدينة إلى تركيا، انهارت الحياة بالكامل وتهدمت البنى التحية في كوباني. حاليا هناك نقص حاد في المواد الغذائية، والمدينة تعتمد على بعض الكميات الصغيرة من الإغاثة التي تدخل إلى كوباني عبر تركيا بصورة غير رسمية، بالإضافة إلى الاعتماد على ما بقي من مخزون غذائي في مستودعاتها ومؤن المنازل، أما مياه الإسالة فهي مقطوعة، لذا يضطر الموجودون من أهاليها إلى الاعتماد على مياه الآبار، وهذه المياه تلوثت بالمياه الثقيلة نتيجة قصف طيران التحالف الدولي الذي أحدث حفرا عميقة، فالمدنيون الموجودون في كوباني يعيشون بين الألغام والقذائف غير المتفجرة وركام الأبنية المهدمة، في ظل انعدام تام في مستلزمات الحياة الضرورية، إضافة إلى أن قطاع البنى التحتية والخدمات هو الأكثر تدميرا في المدينة».
ومضى نعسان بالقول «نحاول الآن جذب أنظار العالم لما يحدث من كارثة إنسانية في كوباني بعد الحرب. المدينة بحاجة إلى جسر إنساني دولي عبر تركيا لتوصيل الغذاء والدواء إلى المدنيين، لأن المنفذ الوحيد للدخول إليها يكون عن طريق معبر مرشد بينار مع تركيا، لكن ليست هناك أي خطوة جدية في هذا الاتجاه من قبل أنقرة، على العكس المسؤولون الأتراك يصرحون بين الفترة والأخرى بأنهم لن يشاركوا في إعمار كوباني، ويبقى هذا الحمل على عاتق المجتمع الدولي، فعلى التحالف الدولي الذي حارب (داعش) في كوباني أن يتحمل مسؤوليته الإنسانية تجاه هذه المدينة والضغط باتجاه فتح هذا الممر».
وينتظر نحو 200 ألف من اللاجئين الأكراد السوريين في تركيا العودة إلى مدينتهم كوباني، لكن حجم الدمار وقلة الخدمات والمخاوف الأمنية تحول دون السماح لعودتهم حاليا، وعن هذا الموضوع قال نعسان «تشهد المدينة يوميا عودة العشرات من أهليها الذين هربوا من المعارك إلى تركيا خلال الأشهر الماضية، وهم يتشوقون للعودة في أقرب فرصة، لكن نحن في الإدارة الذاتية الديمقراطية، قبل أن نسمح بعودة الأعداد الهائلة من السكان إلى كوباني، فيجب أن نجهز لهم مستلزمات الحياة، على الأقل أن نكون قادرين على إطعامهم، وتقديم الدواء لهم، وبالتالي نحاول أن نرسم هذه الصورة للعالم. حاليا عادت العائلات التي كانت موجودة في المنطقة المحرمة بين الحدود التركية وكوباني إلى المدينة خاصة في الأطراف الغربية، وهناك عودة يومية لمئات الشباب الذين يريدون الانخراط في عمليات تقديم الخدمات عن طريق الجهات الخدمية في المدينة التي بدأت فعليا بتنظيم أمورها لتنظيف المدينة وترتيبها وتوفير بعض المستلزمات فيها، ويوجد حاليا في كوباني 15 ألف مدني».
العشرات من شباب كوباني جمعوا التوقيعات مطالبين حكومة المدينة بعدم إعادة إعمار الجزء الشرقي منها، وإبقائه مدمرا ليكون متحفا حيا وشاهدا على ما تعرضت له مدينتهم من خراب على يد تنظيم داعش. وأشار نعسان إلى أن الإدارة الذاتية في كوباني شكلت هيئة لإعادة إعمارها، إلى جانب تشكيل سبع لجان لتقييم الأضرار الواقعة في القطاع العام، لا سيما الخدمية منها، فبعد توثيق أضرارها سينتقلون إلى قطاع آخر ومن ثم المباني المدنية. وعن دور قوات البيشمركة في مجال إعادة الإعمار أكد نعسان بالقول «دور قوات البيشمركة حاليا مقتصر على تقديم الإسناد العسكرية لقوات حماية الشعب والمرأة، لكن هناك مؤشرات تدل على أن إقليم كردستان سيسهم في إعادة إعمار كوباني، أما حاليا فليس هناك أي شيء على الأرض».
وعن جثث قتلى التنظيم الموجودة تحت ركام الأبنية، وكيفية التعامل معها للحول دون انتشار الأمراض في المدينة بعد تفسخ العشرات منها مؤخرا، كشف نعسان بالقول «بدأ الهلال الأحمر الكردي وبالتعاون مع بلدية كوباني، في انتشال هذه الجثث، ودفنها، بطريقة لائقة، لأننا عندما نحارب هؤلاء الإرهابيين بلا شك لا نستهدف القضاء عليهم فقط، بل نستهدف أيضا القضاء على هذا الفكر الإرهابي الذي ننبذه. لذا ومن منطلقنا الإنساني نتعامل مع الإنسان كإنسان أيا كان نوع هذا الإنسان خاصة بعد الموت، حيث يجب أن يحترم، بالإضافة إلى أن قواتنا تتعامل مع الأسرى تعاملا قانونيا حسب الأعراف والمواثيق الدولية».
وتوصل المجلس الوطني الكردي السوري وحركة المجتمع الديمقراطي السوري إلى اتفاق لتوحيد الصف السياسي الكردي في سوريا، بعد مفاوضات استمرت عدة أيام برعاية رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني في مدينة دهوك في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتلتها اتفاقية أخرى بين وحدات حماية الشعب الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) وإقليم كردستان لإرسال قوة إسناد من البيشمركة إلى كوباني عبر الأراضي التركية للمساهمة في تحرير المدينة التي تمكن «داعش» من اختراق الخطوط الدفاعية فيها والسيطرة على معظم أجزائها، لكن مع دخول قوات إسناد البيشمركة إلى المدينة تغيرت موازين المعركة لصالح الأكراد بفعل الأسلحة الثقيلة التي أدخلتها البيشمركة والتي استطاعت وبإسناد من طيران التحالف الدولي أن تقدم الدعم اللازم لقوات حماية الشعب في الهجوم على تنظيم داعش وإرغامه على الانسحاب من مركز مدينة كوباني بعد أكثر من أربعة أشهر من المعارك الطاحنة بين الجانبين.
بدوره، قال العميد مصلح زيباري، قائد قوات بيشمركة إقليم كردستان المرابطة في كوباني، لـ«الشرق الأوسط»: «بعد استعادة السيطرة على مركز مدينة كوباني بدأت المرحلة الثانية من المعارك، وهي مرحلة تطهير ريف المدينة من مسلحي (داعش)، حيث تمكنت القوات الكردية من تحرير ما يقارب 150 قرية من قرى ريف كوباني البالغة 400 قرية ومزرعة، والعمليات العسكرية مستمرة في كل اتجاهات الريف الأربعة. دورنا يقتصر على تقديم الإسناد لقوات حماية الشعب والمرأة، ونحن نقدم لهم الإسناد بالأسلحة الثقيلة الموجودة لدينا، وتمكنت القوات الكردية من أن تؤمن مدينة كوباني، وأن تنشئ خط أمان يمتد مسافة 20 كم حول أطراف المدينة من كل الاتجاهات»، مبينا أن «تنظيم داعش فقد قوته الهجومية في كردستان سوريا تماما، ومسلحيه بدأوا بالفرار من الريف، فيما بدأت القوات الكردية في مطاردتهم، والأيام المقبلة ستشهد الإعلان عن تحرير ريف كوباني بالكامل».
ووحدت الحرب في كوباني الأكراد، وكانت سببا في التقارب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا بزعامة صالح مسلم المقرب من حزب العمال الكردستاني في تركيا، وما آلت إليه من تنسيق على الأرض بين الوحدات الكردية في سوريا وبيشمركة إقليم كردستان العراق.
وقال زيباري، الذي يقود الوجبة الثالثة من البيشمركة في كوباني بعد عودة الوجبتين السابقتين إلى الإقليم «هناك تنسيق ميداني كبير بيننا وبين وحدات حماية الشعب وطيران التحالف الدولي. نحن في كوباني على اتصال مباشر مع غرفة تنسيق العمليات العسكرية في أربيل، وعند الحاجة إلى إسناد جوي نطلب مباشرة من الغرفة في أربيل ذلك لتباشر الطائرات بقصف مواقع العدو فورا»، مشددا على القول إن قرار عودتهم بعد الانتهاء من العملية العسكرية مرتبط بقرار من القائد العام لقوات البيشمركة الرئيس مسعود بارزاني.
بحسب إحصائية لقوات البيشمركة ووحدات حماية الشعب، فإن معارك كوباني خلفت 3710 قتيلا في صفوف مسلحي «داعش»، فيما بلغ عدد القتلى في صفوف المقاتلين الأكراد 408 قتلى، ودمرت القوات الكردية وطيران التحالف الدولي 87 عجلة عسكرية و16 دبابة وخمس سيارات مدرعة من نوع هامر وأربع مدافع رشاشة، واستولى الأكراد على مجموعة أخرى من الأسلحة التي وصفوها بالصالحة للاستعمال، إلى جانب وجود عدد آخر من أسلحة التنظيم الثقيلة تحت المباني المنهارة والتي تؤكد المصادر الكردية أن إخراجها يعتبر عملا صعبا حاليا لقلة الإمكانيات المتاحة في المدينة.
وكما هو معروف عن تنظيم داعش من استخدامه التفجيرات والمباني المفخخة في كل المعارك التي خاضها منذ ظهوره في سوريا قبل أكثر من عامين ودخوله العراق العام الماضي، فإن كوباني لم تكن بعيدة عن هذه المتفجرات التي زرعها «داعش»، حيث استخدم التنظيم خلال معاركه في كوباني وحدها أكثر من خمسين عجلة مفخخة، وفخخ مساحات واسعة من المدينة وأطرافها.
بدوره، قال العميد دحام غرغري، أحد قادة البيشمركة الرئيسيين في كوباني، لـ«الشرق الأوسط»: «تنظيم داعش زرع عددا كبيرا من العبوات الناسفة في مركز مدينة كوباني، أما في أطرافها فنستطيع القول إن العبوات الناسفة قليلة وغير موجودة في بعض المناطق. لا توجد لدى القوات الكردية في هذه المدينة أجهزة ومعدات خاصة بتفكيك العبوات الناسفة وإبطال مفعولها، فالمقاتلون الأكراد يستخدمون وسائل بدائية جدا للتطهير المناطق من الألغام، فيما زرع العدو هذه المتفجرات بطرق فنية، ولا يمكن إزالتها إلا باستخدام الأجهزة المتطورة، ويجب ألا ننسى أن طيران التحالف الدولي لعب دورا كبيرا في تدمير قوة داعش وإجهاض عملياته الانتحارية، ومن هنا نطالب المجتمع الدولي بتزويد القوات الكردية هنا بأجهزة كشف المتفجرات وإبطال مفعولها».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.