القشعمي... الناظر إلى الحياة بعيون من شَرَر

سجل حتى الآن سيرة أكثر من 300 شخصية من مختلف أنحاء السعودية

محمد عبد الرزاق القشعمي
محمد عبد الرزاق القشعمي
TT

القشعمي... الناظر إلى الحياة بعيون من شَرَر

محمد عبد الرزاق القشعمي
محمد عبد الرزاق القشعمي

قبل عامين ونصف وبعد تقاعده من العمل مديراً للشؤون الثقافية في مكتبة الملك فهد الوطنية، لملم الباحث والمؤلف وكاتب السِّيّر محمد بن عبد الرزاق القشعمي، أوراقه الخاصة، ومنها لوحة ورقية صغيرة كُتبت كلماتها بخطَّي الرقعة والنسخ تحمل بيتاً لشاعر العربية الكبير أبي الطيب المتنبي:
أعز مكانٍ في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
حمل القشعمي وريقاته واللوحة التي سطر فيها البيت الشعري، وذهب إلى مملكته الصغيرة، مكتبة منزله شرق العاصمة السعودية الرياض، ومسح الغبار عن فضاء صغير في واجهة المكتبة وعلق اللوحة الورقية.
جلس على كرسيه الذي ملّ من «الصرصرة» والدوران طيلة عقود، ليتناول ورقة صغيرة ويكتب: «هنا سأقضي جُلّ وقتي وأكون رهين المحبسين: المنزل والكتاب»، موفراً وقتاً طويلاً كان في أمسّ الحاجة إليه منذ زمن لمواصلة الكتابة والبحث والتأليف والقراءة ليضيف إلى إنتاجه 70 مؤلفاً وبحثاً انجزها بمفردة أو بمشاركة آخرين، إضافةً إلى إشرافه على إصدار العشرات من الكتب وتقديمه لها، وكتابته مقالات ودراسات في الصحف والمجلات تناولت موضوعات أدبية وثقافية وسيراً لشخصيات ورصداً للتحولات في بلاده، وتاريخ الصحافة، فيما يمكن تسميته بالرصد البيبليوغرافي الموثق.
وفي مؤلفاته تناول الباحث القشعمي كل شيء، فكانت «بدايات» و«ترحال الطائر النبيل» و«سادن الأساطير»، وسير أخرى رصدت حياة ومسيرة مبدعين خرجوا من هذه الصحراء، لامس فيها المتاح والمحرم وألّف فيهما، ورصد المتغيرات في بلاده على المستويين الاجتماعي والثقافي، وقدم أعمالاً تناول فيها البدايات الصحافية في بلاده وروادها، كما قدم سيراً عن شخصيات أدبية وثقافية سعودية.
وكان آخر أعماله في مجال التأليف تناوله لنشأة مؤسسات المجتمع المدني في بلاده من خلال كتابه «بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية»، الذي تتبع فيه البدايات الأولى لنشاط المؤسسات الأهلية التي بدأت مع بداية الدولة واستمرت إلى اليوم، والتقط فيه نماذج من تجربة طويلة بخصوص تنظيمات المجتمع المدني في السعودية وتجارب الانتخابات في البلاد انطلاقاً من البدايات الأولى لانتخابات مجلس الشورى القديم، مروراً بالنقابات والروابط والمجالس البلدية والغرف التجارية والجمعيات، ومدى أهمية الانتخابات وإقامة النقابات والروابط بما يمكن تسميته الحراك الاجتماعي قبل قرن، ليعود مجدداً بدخول المرأة لأول مرة إلى مجالس الشورى وإدارات الأندية الأدبية. وفي معارض الكتب التي احتضنتها أمكنة الإشعاع الفكري في طول الوطن العربي وعرضه وفي صالونات مثقفيها كان القشعمي حادياً فيها وهادياً لروادها، وفي مخافر وأرفف الكتب قُدمت بلاغات وشكاوى ضده بتهمة زحزحتها عن أماكنها وتصويرها دون إذن مسبق من محارمها وتوزيعها على طالبيها في ساحات البحث والتقصي.
لاحق القشعمي رائحة الكتب واستظل بورقها وبحث عن عش ذلك الطائر الذي قطع 70 عاماً وهو يلتقط حبات الملح في مدنها ثم يلفظها، ويواصل مسيرته بحثاً عن ملح قريته قصيباء وسط نجد بعد أن رحل عنها والده قبل 62 عاماً. بحث القشعمي آثار عبد الرحمن منيف حتى وجدها، ووضعها في قفص زجاجي ليطّلع عليها كل من يتابع هذا الروائي الكبير الذي ترك «أرض السواد» كآخر محطة توقف فيها في رحلته مع التأليف الروائي.
القشعمي الذي أرعبه منظر السيارة وهو يشاهدها لأول مرة وهي تطوي أرض قريته «معقرة» وتصعد إلى كثيب رملي قريب من القرية فيهرب منها، ويحذّر أحد أبناء عمه من الاقتراب من هذا القادم الضخم الغريب منادياً بأعلى صوته: «ابعد عنها لا تعضك»! تحوَّل إلى مثقف وراصد مميز وكاتب سير، لدرجة أن كاتباً وشاعراً مثل محمد العلي قال في تعليقه على كتاب «بدايات» للقشعمي: «هذا الإصدار ليس فقط، كما يقول هو (فصولاً من السيرة الذاتية)، بل هو فصول من سيرة البلد الواقعية، هذا الكتاب الفريد لا شأن له بالبلاغة، ولا طلاء الوجه بالصور الشعرية، أو تقديم الواقع على طبق من أخيلة. لا، أبداً... إنه مَسْك الواقع من يديه ووضعه أمام القارئ عارياً. صور متلاحقة للحياة بنكهتها (الخام) يصبّها أمامك صباً، وبتدفق كتدفق نار»، مضيفاً: «السؤال الذي كان يخترقني، عند قراءة الكتاب من أول سطر إلى آخر سطر... هو السؤال التالي: كيف نجا هذا الإنسان (القشعمي) من المآسي؟ كيف نجا من العُقد؟! كيف لم يصبح عدوانياً وحاقداً وناظراً إلى الحياة والأحياء بعينين من جمر وشَرَر؟! إنها نعمة كبرى أن تهوي المعاول على إنسان ثم تبقى روحه شديدة الإضاءة».
قدرة على التقاط الأشياء الجميلة وتوظيفها لصالح شخصياته الذين رصدهم، فقد أنجز كتاباً توثيقياً عن حياة سليمان بن صالح الدخيل، أول صحافي من منطقة نجد، تتبع من خلاله حياة الدخيل ابتداءً من مسقط رأسه بريدة حتى هجرته إلى العراق التي يقول عنها القشعمي: «لعل من العوامل التي وفّرت له أسباب التزود بالعلم والمعرفة وجود عمه جار الله الدخيل المقيم في بغداد، إضافةً إلى الأجواء الفكرية المتوافرة، فكان أن برز الدخيل في ميدان الصحافة وأصدر جريدة في بغداد عام 1910 اختار لها اسم (الرياض) تيمناً بحاضرة نجد، الرياض، كما أنه أول نجدي يؤسس داراً للنشر في بغداد ثم يصدر مجلة (الحياة) وجريدة أسبوعية سماها (جزيرة العرب)».
ولعل من الصعوبة أن نرصد كل ما كتبه أو ألّفه الباحث محمد القشعمي الذي بقدر ما هدّه البحث والتعلق بالكتب والتواصل مع المثقفين، محليين وعرباً، فقد هدّه الترحال والسفر منذ أن عمل قبل نحو نصف قرن موظفاً في قطاع الشباب في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مروراً بإدارة مكاتب رعاية الشباب في كلٍّ من الأحساء وحائل والقصيم، ثم انتقاله للعمل في الإدارة العامة للشؤون الثقافية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، إلى أن تقاعد قبل عشرين عاماً مبكراً عن وظيفة مساعد مدير عام النشاط الثقافي في الرئاسة، ليتجه قبل سنوات إلى مكتبة الملك فهد الوطنية ويعمل فيها مديراً للشؤون الثقافية، وليكون قريباً من عشقه الأول والأخير؛ الكتاب، ليترجل قبل عامين ونصف من العمل الثقافي ويتفرغ لمواصلة التأليف والبحث والقراءة.
ولد محمد عبد الرزاق القشعمي عام 1945 في قرية «معقرة» إحدى قرى منطقة الزلفي داخل نفود الثويرات، وكانت تسمى القرى المحاطة بالرمال العُقل، ومفردها عقلة، والتحق وهو في الخامسة من عمره بكُتّاب القرية، وحصل على شهادة الثانوية العامة من معهد الرياض العلمي قبل 53 عاماً. ثم مارس العمل الحكومي موظفاً في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (رعاية الشباب) وتنقل في عدة مدن سعودية مسؤولاً عن مكاتب رعاية الشباب، وسكرتيراً للأسابيع الثقافية السعودية في عدة دول، ورأس القسم الأدبي بالشؤون الثقافية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب بالرياض قبل 33 عاماً. وبعدها أصدر سلسلة «هذه بلادنا»، وكُلف بعضوية الأمانة العامة لجائزة الدولة التقديرية للأدب، ومثّل بلاده في مناسبات ثقافية، والتحق بمكتبة الملك فهد الوطنية مسؤولاً عن الشؤون الثقافية فيها منذ 20 عاماً، وتبنى مشروع تسجيل «التاريخ الشفهي للسعودية» بلقاءات كبار الأدباء ورجال العلم والتعليم والمال والسياسة. وسجل حتى الآن سيرة أكثر من 300 شخصية من مختلف أنحاء بلاده.


مقالات ذات صلة

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».