«ألف ليلة» والتوابل... توأما الدهشة

هل كانت موجودة عربياً وقت هيرودوت أم أنها تغذت من حكايات المؤرخين والرحّالة؟

غابرييل غارسيا ماركيز
غابرييل غارسيا ماركيز
TT

«ألف ليلة» والتوابل... توأما الدهشة

غابرييل غارسيا ماركيز
غابرييل غارسيا ماركيز

لمتجر البهارات الناجح الشكل نفسه في كل أنحاء العالم؛ حانوت بلا زينة، أرفف حتى السقف بلا بهرج، وعلى الأرض تتزاحم أجولة خيش وقنّب، حاويات فخارية، وسلال من سيقان الحناء متراصة على الأرض، وكلها مجللة بذروة هرمية مرتفعة فوق حافة الوعاء، توحي الأهرامات الصغيرة الملونة بالوفرة، ويوحي المتجر بالعتاقة. لا ينقصه إلا أن يرتدي البائع عباءة وعمامة علاء الدين!
من يجهلون قوانين السطوة يؤسسون متاجر بهارات بديكور حديث، وقوارير فاخرة على الأرفف وخزانات مغلقة كما في صيدلية أو محل عطور فاخر، فلا يلقون إلا الكساد.
للتوابل سطوة تجعلها قادرة على نفي الزمان والمكان، وجلب زمانها ومكانها الأصليين.
لا نأكل بهاراً؛ فكل ما نحتاجه منه رشات خفيفة على الطبخة، لكن عين المتسوق تأكل، ويجب أن يتمتع محل العطارة بمظهر الوفرة المغوية، إلى جانب فانتازيا المظهر الشرقي العتيق التي توحي بأن هذه الأعاجيب الحريفة الملونة جاءت في سفينة السندباد.
الشقيقة التوأم للبهارات هي «ألف ليلة». وقد سلكا طريقاً واحداً، من الهند والصين إلى فارس، ومنها إلى بلاد العرب، ثم إلى أوروبا. هكذا لم يحفظ العرب لأوروبا عقلها فحسب، بترجمة الفلسفة، بل حفظوا لها كذلك حواسها التي كانت معرضة للموت في عصور التحريم. تلك حلقة من تعاقب الحضارات، يحلو للبعض أن يعتبرها دَيناً تدين به أوروبا لنا وللشرق بعامة.
في وقت ما، كانت وفرة البهارات دليلاً على كرم المضيِّف ومكانته. لقد جلب المضيِّفُ الشرق الثمين والعجيب إلى ضيوفه! يذكر فريد كزارا في كتابه «التوابل... التاريخ الكوني، ترجمة إيزميرالدا حميدان» أن ثمن باوند واحد من جوزة الطيب في ألمانيا كان يساوي 7 ثيران عام 1393. وظلت لوقت طويل مجالاً لاستعراض الثراء على الموائد، فكانت تُعرض على صينية صغيرة مقسمة للأنواع المختلفة من أجل الضيوف الذين يريدون الاستزادة فوق البهارات الموجودة بالطبخة.
لكن تجارة البهارات كانت مزدهرة قبل ذلك بوقت طويل، لقد كانت أنفس ما تحمله السفن في العالم القديم، ويحدد كزارا امتداد هذا العالم من الصين جنوباً، إلى جنوب شرقي آسيا، وغرباً إلى الهند والجزيرة العربية، ولأكثر من 3000 سنة حافظ على بقائه، واتصل مع البحر الأبيض المتوسط من الجنوب الغربي، ومن الشمال الشرقي بواسطة طريق الحرير عبر آسيا الوسطى.
لكن توغل هذه المنتجات السحرية إلى العمق الأوروبي باتجاه الشمال بدأ مع بروز الإمبراطورية الرومانية من عام 27 قبل الميلاد. وصارت رحلات التوابل رهينة قيام وانهيار الإمبراطوريات، رهينة الحروب والسلام، وقد بلغت مجدها مرة أخرى مع قوة الدولة الإسلامية ودخولها إلى أوروبا في بدايات القرن الثامن الميلادي، فكان اتصال بغداد بالأندلس رابطاً قوياً، ثم بدأ صدام الحروب الصليبية في بدايات الألفية الثانية، فكان سبباً لتجديد الدهشة.
وظلت التوابل أهم عناصر صورة الشرق العجيب حتى تعرف الأوروبيون على «ألف ليلة» حين أنجز الفرنسي أنطوان غالان الترجمة الأولى لليالي ونشرها على أجزاء بين 1704 و1717.
لم تنتقل البهارات صامتة. قبل صخب المدافع صاحبتها رقة الحكايات التي رفعتها من مجرد ثمار أو لحاء أشجار ونباتات إلى مستوى الأساطير، وقد امتدت أساطير خلقِها لتصنع أساطير حول أثرها على الجسم، وخصوصاً أثرها على القوى الجنسية.
قبل حملات البرتغاليين على شرق آسيا في القرن الخامس عشر، كان لرحلة ماركو بولو للصين وشرق آسيا، ورحلة ابن بطوطة أوسع الصدى، بسبب تفننهما في وصف أعاجيب البهارات وأشجارها، وقد سارا فيما يبدو على خطى هيرودوت. كتب المؤرخ اليوناني عن استخدام الفينيقيين للقرفة التي أتت من جزيرة العرب، ناقلاً الزعم الشائع آنذاك بأن الطيور هي التي حملتها إلى هناك، ذلك أنها كانت تحملها إلى أعشاشها على حواف الجبال.
وصف هيرودوت لطريقة العرب في الحصول على القرفة خيالي. زعم أنهم يُقطِّعون الذبائح ويتركونها على الأرض للطيور، تحط عليها، تأكل وتحمل الكثير إلى أعشاشها؛ فيتسبب ثقل اللحم في انهيار العش وسقوط القرفة. لم يبتعد خيال الليالي عما وصفه هيرودوت. في مغامرات السندباد نجد حيلة مماثلة للحصول على الماس؛ حيث يلقي التجار بالذبائح من فوق قمة الجبل؛ فتهوي إلى وادي الماس السحيق وتلتصق بأحجاره، وتهبط النسور وتحمل الذبائح من القاع إلى القمة؛ فيخيفها التجار وينطلقون إلى اللحوم، يجمعون ما علق بها من الماس، ثم يبتعدون، فتعود النسور إلى وليمتها!
كذلك يتقاطع وصف الليالي لجزر التوابل وأشجارها العجيبة مع وصف ابن بطوطة، ويجب أن يكون ذلك محل تساؤل مؤرخي الأدب، هل كانت «ألف ليلة» موجودة عربياً وقت هيرودوت أم أنها هي التي تغذت من حكايات المؤرخين والرحّالة؟ لقد كتب هيرودوت تاريخه بين 450 و420 قبل الميلاد، أي قبل قرون كثيرة من التاريخ المعروف لـ«ألف ليلة» الذي يعود بجذورها الفارسية إلى كتاب «هزارا فسان - ألف خرافة»، وقد فُقد أصله، وحفظته الترجمة العربية. وربما كان رقم الألف خرافة، يعني الكثرة اللامنتهية وليس العدد بالتحديد، لأن المصادر ترجح أن حجمه لم يكن يتعدى بضع ليال مفردة؛ حيث يقتصر على القصة الإطار وقليل من الحكايات، وأنه أخذ شكله من القصص الشعبية العربية في خلافة العباسيين التي بدأت منتصف القرن الثامن الميلادي.
وفي كل الأحوال، هناك تطابق في الشكل بين الشقيقين التوأم؛ البهار والليالي.
سواء اتبعنا طرق التجارة المألوفة، أو صدَّقنا في الطرق الخيالية لانتقال البهارات؛ فلم يعد من الممكن الاستغناء عنها في الطبخ؛ فلولاها لبقي الطبخ عملاً بسيطاً لتليين الصلب، ولظل تناول الطعام عملاً لسد الجوع. هي التي جعلت منه فناً. بفضل حساسية كل طاهٍ في استخدامها بالكمية المناسبة في اللحظة المناسبة، تعددت الطبخات إلى ما لا نهاية، على الرغم من محدودية المكونات النيئة المستخدمة في الطبخ، لذلك كان طبيعياً أن يحتل هذا الاكتشاف المذهل مكانته العالية في العالم.
«ألف ليلة»، بعد أن أمتعت العالم بدهشتها، تحولت هي نفسها إلى توابل روائية لا نخطئ نكهتها في أعمال كثير من الكتّاب في مختلف اللغات، حتى إن أثرها يبدو في إبداع شكسبير الذي رحل قبل ترجمة الفرنسي أنطوان غالان بنحو قرن، وهي الترجمة المعتمدة بوصفها الأولى أوروبياً، لكن كل بداية في الأدب تسبقها بدايات. وقد عرفت أوروبا الليالي عبر كتابات جيوفاني سيركامبي (1347 - 1424) ولا يمكن أن ننسى عمل بوكاشيو «الديكامرون» الذي يبدو استنساخاً لليالي، وصولاً إلى الاستلهامات الأكثر عمقاً، كما لدى رمز فرنسا الأدبي مارسيل بروست الذي لم يخلُ عمله «البحث عن الزمن المفقود» من إشارات إلى قصصها، لكن استلهامه الكبير كان استلهام بنية توالد القصص المميزة لليالي. ولا يمكننا أن نتصور بورخيس بدون حكمة الليالي، ولا ماركيز؛ ملك البهارات المجلوبة من حكايات شهرزاد.
لم يقف أثر الليالي عند الكتابة فحسب، بل امتد ليشمل الموسيقى والتشكيل، ولم يكن خيال السينما ليصبح على ما هو عليه بدونها، ولم يكن لخيال سينما الأطفال ليصبح على هذا النحو من الخفة.
بدون الليالي، كان الأدب العالمي سيبدو ناقص الدهشة. وقد امتدت عجائبية الشرق لتشمل صورة شعوب الشرق التي تعيش على أرض واحدة مع تلك الأعاجيب. صار الإنسان الأصفر والأسود نفسه بمثابة تابل من بين توابل القصص لدى عشرات الكتّاب الأوروبيين. وكثيراً ما ساهم الجهل بالجغرافيا إلى خلط الشرق الأقصى بالأدنى، ولم يسلم العربي القريب من أوروبا، من الإزاحة إلى التركي أو الاختصار في المغربي أو السوري. إن شئنا الإنصاف، فكل شرق ينظر إلى الشرق الأبعد كما ينظر الغرب إلى كل الشرق.
كثيراً ما نطالع في «ألف ليلة» أوصافاً عجائبية لبشر آسيا وأفريقيا، إما أقزاماً أو عماليق، ولغاتهم أعجوبة أو مجرد همهمات، تحيلنا إلى رؤى الأنثروبولوجيين عن محاولات الإنسان الأولى في اختراع اللغة.
ولنتذكر أن أحد الاحتمالات التي يوردها السرد في قصة «حي بن يقظان» عن أصل الطفل أنه نبت من الأرض في تلك الجزيرة التي تسمح طينتها المتخمرة بذلك، والتي تثمر أشجارها نساءً!



الذكاء الاصطناعي يعجز عن حل مسائل الرياضيات الصعبة

تغطي هذه المسائل مجموعة واسعة من المواضيع في الرياضيات الحديثة (arXiv - 2024)
تغطي هذه المسائل مجموعة واسعة من المواضيع في الرياضيات الحديثة (arXiv - 2024)
TT

الذكاء الاصطناعي يعجز عن حل مسائل الرياضيات الصعبة

تغطي هذه المسائل مجموعة واسعة من المواضيع في الرياضيات الحديثة (arXiv - 2024)
تغطي هذه المسائل مجموعة واسعة من المواضيع في الرياضيات الحديثة (arXiv - 2024)

قام فريق دولي من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي وعلماء الرياضيات التابعين لعدة مؤسسات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتطوير مقياس رياضي، يسمح للعلماء باختبار قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي على حل مشاكل رياضية صعبة للغاية.

وأظهرت نتائج دراستهم المنشورة على منصة «أركيف بريبرنت (arXiv preprint)» للأوراق البحثية أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التي حققت درجات جيدة من قبل، وفق كثير من المعايير والمقاييس التقليدية، لم تتمكن من تسجيل درجات أعلى من 2 في المائة في تقديم حلول للمسائل الرياضية الصعبة، وفق مقياس الاختبارات الجديد.

ووفق بيان منشور، الثلاثاء، على منصة «ساينس إكس نتورك» فإنه على مدى السنوات القليلة الماضية، أصبحت برامج الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق مثل «شات جي بي تي (ChatGPT)» أكثر تطوراً، وبالتالي تبدو في بعض الأحيان وكأنها تتمتع بمستوى عالٍ جداً من الذكاء يجعلها قادرة على حل كثير من المعضلات في كثير من المجالات المختلفة. إلا أنه وفقاً لنتائج الدراسة الأخيرة هناك مجال واحد لا يزالون يفشلون فيه، حل مشاكل الرياضيات الصعبة.

ومع استمرار عمل مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي من أجل تحسين مهارات الرياضيات في نماذجهم، فقد طوروا عدداً من المقاييس لتكون بمثابة وسيلة لاختبار تقدمهم، ومنها اثنان هما الأكثر شعبية؛ MATH وGSM8K.

وبمرور الوقت، تحسنت برامج ذكاء اصطناعي إلى الحد الذي أصبحت فيه قادرة على تسجيل درجات تصل إلى 90 في المائة في هذه اختبارات تلك المقاييس.

ولكن كما لاحظ أعضاء فريق الدراسة، فإن مستوى صعوبة مثل هذه المقاييس ليس مرتفعاً بما يكفي، لذا قرروا أن هناك حاجة إلى مقياس جديد لاختبارات قدرات الذكاء الاصطناعي في حل المسائل الرياضية الصعبة، وعليه أنشأوا مقياساً جديداً يفي بهذا الغرض، أطلقوا عليه اسم FrontierMath، وهو الذي يقدم مقياساً مستمراً للتقدم في التفكير الرياضي المعقد للذكاء الاصطناعي.

ومن ثم تواصل فريق البحث مع بعض من ألمع العقول في مجال الرياضيات، وطلبوا منهم تقديم بعض مسائل الرياضيات الصعبة حقاً، وبالفعل تلقوا المئات منها.

وكما يقول الباحثون، فإن «مثل هذه المسائل ليست فريدة من نوعها فحسب، بل إنها تتطلب أيضاً مستوى عميقاً من الفهم للرياضيات. وقد يستغرق حل بعضها عدة أيام». كما تغطي هذه المسائل مجموعة واسعة من المواضيع، من نظرية الأعداد إلى الهندسة الجبرية (أحد فروع علم الجبر). وللحصول على درجات جيدة في معيار FrontierMath، يجب أن يتمتع نظام الذكاء الاصطناعي بالإبداع والبصيرة، وما يصفه فريق البحث بـ«الخبرة العميقة في المجال».

ويوضح الباحثون: «نجحت نماذج الذكاء الاصطناعي في حل أقل من 2 في المائة من المسائل الرياضية الصعبة فقط، مما يكشف عن فجوة هائلة بين قدراتها، وبراعة أفراد المجتمع العلمي الرياضي من العلماء والباحثين».

وأضافوا: «رغم تقدم أنظمة الذكاء الاصطناعي في محاولة للوصول إلى القدرات الرياضية نفسها على مستوى الخبراء والمتخصصين، فإن منصة FrontierMath تقدم اختبارات صارمة تستطيع أن تقيس مدى هذا التقدم».