إسقاط الإدانات عن «لولا» يفتح نافذة أمل لليسار البرازيلي

في أول نكسة جدّية لرئاسة جاير بولسونارو

إسقاط الإدانات عن «لولا» يفتح نافذة أمل لليسار البرازيلي
TT

إسقاط الإدانات عن «لولا» يفتح نافذة أمل لليسار البرازيلي

إسقاط الإدانات عن «لولا» يفتح نافذة أمل لليسار البرازيلي

نهاية الأسبوع الماضي كان الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيغناسيو دا سيلفا، المعروف بلقبه الشائع «لولا»، يؤكد في حديث صحافي طويل أنه إذا كُتب له النصر في معركته القضائية ضد الحكم الذي جرّده من حقوقه السياسية وأدخله السجن في عام 2018، سيكون جاهزاً للترشّح إلى الانتخابات الرئاسية خلال العام المقبل ضد الرئيس اليميني المتشدد الحالي جاير بولسونارو. لكن «لولا»، الذي قاد البرازيل، (عملاق أميركا اللاتينية)، على امتداد ولايتين رئاسيتين متتاليتين من عام 2003 حتى عام 2011، وتغلّب على مرض السرطان ثمّ على فيروس «كوفيد - 19» وهو في السادسة والسبعين من عمره... لم يكن يتوقّع إلغاء الأحكام الصادرة بحقه بمثل هذه السرعة. وجاءت هذه الخطوة عندما أعلن أحد قضاة المحكمة البرازيلية العليا يوم الاثنين الفائت، أن المحكمة التي أدانت الزعيم التاريخي لحزب العمّال اليساري بجرائم الفساد وقطعت عليه – بالتالي – الطريق نحو الترشّح للانتخابات الرئاسية قبل أكثر من سنتين، ما كانت مخوّلة صلاحية البتّ في قضايا من هذا النوع.
لا شك في أن هذا القرار المفاجئ، الصادر على أساس إجازة النظام القضائي البرازيلي لعضو واحد من القضاة الأحد عشر في المحكمة العليا أن يتخذّه بشكل منفرد، يشكّل نصراً مبيناً لزعيم حزب العمّال الذي كان إبعاده عن المشهد السياسي مدخلاً لصعود بولسونارو وتياره اليميني المتشدد، وإسفيناً عميقاً في نعش اليسار البرازيلي الذي عرف مع «لولا» أبهى الانتصارات... وأصيب معه أيضاً بأقسى الهزائم. وإذا كان المراقبون يجمعون على أن إسقاط الأحكام التي تدين الزعيم اليساري بالفساد تشكّل أيضاً إشارة انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن أحداً لا يجازف بتقدير تداعياتها القضائية والسياسية التي ما زال يكتنفها ضباب كثيف لا يستبعد أن يحمل المزيد من المفاجآت.
التعليق الوحيد حتى الآن الذي صدر عن فريق المحامين الذين يدافعون عن الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيغناسيو دا سيلفا «لولا» في أعقاب الحكم التاريخي بإسقاط إدانته – وبالتالي، فتح الباب أمامه مجدداً للعودة إلى عالم السياسة –، كان اقتباساً حرفيّاً من تغريدة له، قال فيها «هذا القرار يؤكد عدم اختصاص العدالة الفيدرالية في (مدينة) كوريتيبا (جنوب البرازيل)، والاعتراف بأننا كنّا دائماً على حق في هذه المعركة القانونية».
وفي حين حرص «لولا» على تجنّب الكلام عن تحضيره لخوض المعركة الرئاسية المقبلة كمرشّح، كان الحذر أيضاً غالباً على الموقف الرسمي لحزب العمّال، الذي اكتفى بالقول في بيان رسمي مقتضب صادر عن رئيسته غليسي هوفمان «نحن بانتظار نتائج التحليل القانوني لقرار القاضي إدسون فاتشين، الذي يعترف متأخرا خمس سنوات بأن (القاضي) سيرجيو مورو لم يكن مخوّلاً محاكمة لولا». وكانت النيابة العامة قد أعلنت أنها تعدّ طعناً في القرار لن تُعرف نتائجه قبل شهرين أو ثلاثة.
- تعليق بولسونارو
أما الرئيس الحالي جاير بولسونارو، فقال، من جهته، إن الشعب البرازيلي لا يريد عودة «لولا» كمرشح للرئاسة، وإن القاضي الذي اتخذ القرار معروف بعلاقته الوثيقة مع حزب العمّال. غير أن رئيس مجلس النوّاب ارتور ليرا وضع الحدث في سياقه الصحيح المُحاط بالغموض والتساؤلات؛ إذ علّق قائلاً «... يساورني شك كبير أمام هذا القرار المنفرد لأحد أعضاء المحكمة العليا: هل يهدف إلى تبرئة لولا؟ أو لإنقاذ القاضي مورو الذي أصدر الأحكام بإدانته؟».
وحقاً، القرار الصادر عن قاضي المحكمة العليا فاتشين لا يخوض في حيثيات أداء القاضي سيرجيو مورو، الذي تولّى بعد ذلك حقيبة العدل في أول حكومة شكّلها بولسونارو، قبل أن يستقيل عندما ارتفعت أسهمه السياسية كمنافس للرئيس، ويتهمّه بالتدخّل لعرقلة تحقيقات تطال اثنين من أبنائه، ولا يبتّ في حياده أو انحيازه. وفي المقابل، يكتفي القاضي فاتشين في قراره المفاجئ بالقول، إن محكمة كوريتيبا، التي كان يرأسها القاضي مورو، لم تكن مخوّلة النظر في القضايا المرفوعة ضد «لولا». وهو ما يعيد الأمور إلى نقطة الانطلاق الأولى في سياق التحقيقات حول قضايا الفساد التي تجمّعت تحت عنوان «لافا جاتو» والتي أدت إلى سجن «لولا» لمدة 19 شهراً. وتجدر الإشارة إلى أن القضاء البرازيلي كان قد قّرر أخيراً طي ملفّ التحقيقات في هذه القضايا التي طالت عدداً كبيراً من المسؤولين السياسيين ورجال الأعمال، وما زالت تشغل النظم القضائية في بعض بلدان أميركا اللاتينية، حيث أدت إلى استقالة عدد من الوزراء وانتحار الرئيس الأسبق لجمهورية البيرو آلان غارسيّا.
ومن المؤشرات على عمق «الخضّة» التي أحدثها هذا القرار كان تراجع العملة البرازيلية بنسبة 7 في المائة مقابل الدولار الأميركي وانخفاضاً ملحوظاً في أسعار سوق الأسهم (البورصة) لأربعة أيام متتالية، في الوقت الذي تعاني البرازيل من خروج جائحة «كوفيد - 19» عن السيطرة بعدما تجاوز عدد الوفيّات 270 ألفاً، وزادت الإصابات المؤكدة عن 11 مليون حالة. وكان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس قد حذّر من أن الوضع الوبائي في البرازيل بات يشكّل تهديداً لأميركا اللاتينية بأسرها، بينما تشتدّ الانتقادات الموجّهة ضد بولسونارو بسبب استخفافه بالفيروس، وسوء إدارته للأزمة، وتقصيره في توفير اللقاحات الكافية، ومن ثم، إصراره على إنكار خطورة تفشي الجائحة رغم الأوضاع المأساوية التي يشهدها النظام الصحي البرازيلي وسقوط ضحية واحدة كل دقيقة.
- المسألة غير محسومة
في أي حال، لم يقل القضاء البرازيلي كلمته النهائية بعد في قضايا الفساد التي حاصرت «لولا» لسنوات. ولا تزال أنظار الملايين مشدودة إلى شاشات التلفزيون كلما انعقدت جلسة للمحكمة العليا التي تنقل وقائعها مباشرة وتبثّ على وسائل التواصل الاجتماعي. بل إن شهرة أعضائها الأحد عشر أصبحت تنافس شهرة لاعبي المنتخب البرازيلي لكرة القدم. وفي حين كان أعضاء المحكمة يناقشون في جلستهم يوم الثلاثاء الماضي موضوع «حياد» القاضي مورو أو «انحيازه» في محاكمة «لولا»، طلب أحد القضاة مزيداً من الوقت لدراسة الملفّ وتقرّر تعليق الجلسة حتى منتصف الأسبوع المقبل لاتخاذ القرار النهائي.
وهكذا، في انتظار معرفة وجهة المسار القضائي في أكبر قضية فساد عرفتها البرازيل ودول أميركا اللاتينية، تتضارب آراء المحللين حول ما إذا كان ترشّح «لولا» للانتخابات الرئاسية المقبلة سيزيد من حظوظ بولسونارو في تجديد ولايته أم العكس. وللعلم، فإن 30 في المائة من البرازيليين ما زالوا يؤيدون الرئيس اليميني الحالي رغم الفضائح والانتكاسات العديدة التي تشهدها رئاسته منذ بدايتها والفشل الذريع في إدارة الأزمة الصحية وتداعياتها.
وفي المقابل، بجدر التذكير بأن «لولا»، الذي عرفت شعبيته مستويات غير مسبوقة في البرازيل وبين أوساط اليسار في عموم أميركا اللاتينية، يواجه أيضاً قدراً من الحقد العميق الذي يكنّه له قسم كبير من مواطنيه الذين صوّت كثيرون منهم لبولسونارو من باب الغضب والخيبة، وثمة من يرى أنه لن يكون من السهل عليه أن يستردّ ثقتهم من الآن حتى موعد الانتخابات الرئاسية في خريف العام المقبل. ويضاف إلى ذلك أن ترشح «لولا» للرئاسة يحتاج إلى دعم مشكوك فيه حالياً من القوى اليسارية الأخرى وأحزاب الوسط، ويرجّح بعض المراقبين أن يؤدي خوض «لولا» المعركة الرئاسية المقبلة كمرشّح إلى تأجيج مشاعر الرفض ضد حزب العمّال الذي سيصبّ مجدداً في مصلحة بولسونارو. ولكن، لا يشك المراقبون في أن عودة الزعيم والرئيس الأسبق، المعروف بأفكاره ومواقفه اليسارية الواضحة، إلى المشهد السياسي... تشكّل تحديّاً ضخماً بالنسبة لمن يعتبرون أن هزيمة اليمين المتطرف الذي يقوده بولسونارو مستحيلة من غير مرشّح تدعمه قوى الوسط واليمين واليسار المعتدلة.
- «حماية» القاضي مورو
في مطلق الأحوال، بين المحللين الحقوقيين مَن يرى في قرار القاضي هدفاً استراتيجياً يتجاوز إسقاط الأحكام الصادرة بحق «لولا»، ويرمي إلى حماية القاضي سرجيو مورو وعدد من زملائه من احتمال إحالتهم للمحاكمة، في حال ثبوت انحيازهم المتعمد، وفصلهم من السلك القضائي. ويقول هؤلاء، إن ثبوت تهمة الانحياز على مورو من شأنه القضاء على كل ما أنجزه في أكبر محاكمة ضد الفساد عرفتها البرازيل عبر تاريخها. والمعروف، أن «لولا» يصرّ منذ خمس سنوات على القول إنه ضحيّة مؤامرة سياسية وقضائية جنّد لها خصومه الصحافة والأجهزة الأمنية ومراكز النفوذ الاقتصادي والمالي، وهو لم يكف يوماً عن اتهام القاضي سيرجيو مورو والشرطة الفيدرالية بالانحياز ضدّه وتلفيق الادلّة لإدانته.
من ناحية أخرى، عندما سئل «لولا» بعد قرار إسقاط الأحكام الصادرة بحقه حول ما إذا كان سيترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة، أجاب مباشرة «جو بايدن أكبر مني سنّاً، وإذا رأت الأحزاب اليسارية إنني الأنسب لتمثيلها فلا مانع عندي، لكن لدى حزب العمّال خيارات أخرى مثل فرناندو حدّاد الذي كان مرشّحه في عام 2018».
- الرفض الشعبي لـ«العمال»
مع هذا، يعرف الزعيم اليساري المخضرم أيضاً، أن الرافعة الأساسية لصعود بولسونارو المفاجئ ووصوله إلى سدة الرئاسة لم تكن شعبيته أو شهرته، بل الرفض العارم لحزب العمّال بسبب من الخيبات التي تراكمت تحت وطأة الفساد وعدم الوفاء بالكثير من الوعود التي توّجت «لولا» ملكاً شعبياً على البرازيل. كذلك يعرف أيضاً أن ذلك الرفض كان السبب الرئيسي في إحجام القوى اليسارية الأخرى وأحزاب الوسط عن تأييد فرناندو حدّاد مرشّح حزب العمال في الانتخابات الأخيرة. وفي ظهوره الشعبي الأول بعد قرار إسقاط الأحكام الصادرة بحقه، اختار «لولا» المقرّ الرئيس لنقابة عمّال الصُلب التي خرج من صفوفها ليعلن انطلاق حملة المواجهة الواسعة ضد بولسونارو في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مؤكدا أمام الجماهير التي توافدت للاحتفال بعودته «لا وقت عندي الآن للتفكير فيما إذا كنت سأترشّح عن حزب العمّال أو عن جبهة عريضة... المهم هو أن نتخلّص من بولسونارو قبل أن تنهار البرازيل على رؤوسنا جميعاً».
- معركة الـ«كوفيد - 19»!
ثم، بعدما وصف الرئيس اليميني الحالي بأنه «فاشل يحمل أفكاراً من العصر الحجري»، ولا يكترث لصحة مواطنيه وأوضاعهم المعيشية والاقتصادية ويدمّر البيئة، حذّر من سياسة بولسونارو التي تشجّع على حمل السلاح الذي يُستخدم ضد الفقراء والمزارعين والناشطين البيئيين. ونبّه إلى أن البرازيل قد تواجه خطر تكرار ما حصل أخيراً في الولايات المتحدة عندما أقدمت جماعات يمينية متطرفة على اقتحام مبنى الكابيتول - حيث مقر الكونغرس الأميركي - في واشنطن تأييداً للرئيس السابق دونالد ترمب واحتجاجاً على تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن.
وفي السياق ذاته، وبعدما أعلن «لولا» مجموعة من العناوين المطلبية لتكون أساس برنامج المرشّح القادم ضد بولسونارو في الانتخابات الرئاسية، دعا إلى مضاعفة الحد الأدنى للأجور الذي لم تطرأ عليه أي زيادة منذ سنوات، وتسريع حملة التلقيح، وإعداد «برنامج وطني للتوعية بمخاطر (كوفيد – 19) والتحذير من القرارات الحمقاء التي يتخذها الرئيس ووزير الصحة».
ويؤكد الذين تابعوا «لولا» في إطلالته الشعبية الأولى بعد القرار القضائي الذي أعاد له حقوقه السياسية، أنه رغم تجاوزه سن الخامسة والسبعين ما زال يتمتع بطاقة استثنائية لحشد الأنصار وتعبئة المؤيدين، وأن خطابه ما زال الأشدّ تأثيرا بين الفقراء الذين يشكّلون أكثر من نصف سكّان البرازيل (يقدر إجمالي تعداد السكان بـ212 مليون نسمة).
بيد أن هذا العامل الفقير الذي تربّى على يدي أبوين أمّيين ليقود نقابات بلاده ضد الديكتاتورية العسكرية ويتولّى رئاسة الجمهورية ثماني سنوات، نجح في قيادة البرازيل خلال فترة مكّنته من القضاء على الجوع الذي كان يعاني منه ثلث السكّان، ووضع هذه الجمهورية الضخمة من حيث المساحة وعدد السكان في الصفوف الأمامية من المشهد الاقتصادي والسياسي في العالم. وهذا، مع أنه ما زال يحمل عبئا ثقيلا من السجن والأحكام بالفساد وغسل الأموال، ويجرّ خيبة الملايين الذين ساروا وراءه في أيام العزّ والوعود والأحلام... ثم ابتعدوا عنه، حتى أن بعضهم لم يتردد في تأييد عسكري سابق ويميني متشدد من يحمل كل نقائض أفكاره.
- أزمة تشتت المعارضة
أخيراً؛ لأن «لولا» يدرك تماماً أنه على الرغم من تراجع شعبية بولسونارو بسبب فشله الذريع في إدارة الجائحة ما زال يتمتع بتأييد 30 في المائة من المواطنين البرازيليين حسب الاستطلاعات الأخيرة، ويعي أن المعارضة ما زالت مشتّتة وضعيفة، فهو يشدد على القول إنه لا ينوي منافسة أحد لكي يكون مرشّحاً للرئاسة... بل، يؤكد أنه لن يترشّح إلا إذا رأت قوى المعارضة أنه الأوفر حظاً. غير أنه، في الوقت ذاته، لا ينسى أنه على الرغم من فضائح الفساد التي حاصرته وأنهكت حزبه في السنوات الأخيرة ظل الشخصية الأوسع شعبية بين المرشحين في الانتخابات الأخيرة عندما صدرت في حقّه الأحكام التي جرّدته من حقوقه السياسية ومنعته من الترشّح، والتي اتخذها القاضي سيرجيو مورو، وهو – كما سبقت الإشارة – القاضي نفسه الذي أسند إليه منصب وزير العدل في الحكومة الأولى التي شكّلها جاير بولسونارو بعد انتخابه.
- «لولا» واثق من إنهاء عهد بولسونارو... وطي صفحة اليمين
> يؤكد الرئيس البرازيلي الأسبق «لولا» أن الرئيس الحالي جاير بولسونارو سيُهزم في الانتخابات المقبلة، وأن البرازيل ستعود لتنتخب «رئيساً تقدمياً». وبينما يشدّد الزعيم اليساري المخضرم على ضرورة توحيد المعارضة صفوفها والتوافق حول مرشّح واحد، فهو يتطلع أيضاً إلى استعادة الدور الطليعي الذي لعبته البرازيل على عهده ضمن أسرة دول أميركا اللاتينية. وحول هذه النقطة يقول «كنت أحلم، وما زلت، ببناء كتلة اقتصادية قوية في أميركا الجنوبية. العقد الأول من هذا القرن كان أفضل مرحلة عرفتها أميركا اللاتينية منذ نزول كريستوف كولومبوس على شواطئها، ولا بد اليوم من العودة إلى إقناع مواطنينا بأنه لا يجوز أن تبقى معدلات البطالة والبؤس والعنف في هذه المنطقة هي الأعلى في العالم».
وعندما يتحدّث «لولا» عن استعادة البرازيل دورها الطليعي في المنطقة والعالم، فإنه لا يتردّد إطلاقاً في القول، إن الولايات المتحدة هي أول المعارضين لهذا التوجّه. كلامه هذا يعني بوضوح سعيه إلى عودة الحياة والنشاط إلى «المحور اليساري» في أميركا اللاتينية الذي يشهد انبعاثاً جديداً مع التقارب الأخير بين المكسيك والأرجنتين، وصمود نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا أمام الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرضته عليه إدارة دونالد ترمب الأميركية السابقة.
وحقاً، حرص «لولا» في إطلالته الشعبية الأولى عند توجيهه الشكر إلى من ساندوه خلال الملاحقات القضائية، على تسمية الزعماء اليساريين «اللاتينيين»، من الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز إلى رئيس الوزراء الإسباني الأسبق الاشتراكي خوسيه لويس زاباتيرو ورئيسة بلدية العاصمة الفرنسية باريس آن إيدالغو (الإسبانية الأصل)، ليؤكد «استحالة معالجة مشاكل العالم من غير العودة إلى السياسة التي استقالت منها معظم الحكومات وسلّمت أمرها لمراكز المال والنفوذ الاقتصادي».



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.