التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

انتصارا للعلم.. وليس لشيخ الإسلام

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية
TT

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

* في تبريره لإجرامه الوحشي بحق الطيار معاذ الكساسبة، الذي لم يسبق إليه في الإسلام، حتى في عصر الخوارج الأول، لجأ «داعش» للإسناد المزور والملتبس والمدلس على شيخ الإسلام ابن تيمية.
وابن تيمية أكثر من تم تشويهه في تاريخ الفكر المتطرف والإرهاب المعاصر، دون تحقيق أو تدقيق واجب من مؤيديهم ومخالفيهم على السواء.
وتأكيدا على هذا التشوه المبكر نذكر أنه قد نشأ «فكر الجهاد المصري» ومجموعاته، التي وحدها محمد عبد السلام فرج، بعد أن وجد شاب عشريني مجموعة فتاوى بعنوان «ابن تيمية جهاديا» عام 1958! اختفى «الشاب الجهادي» بعدها، ولكن ظل تشويه ابن تيمية كما تم تشويه كثير من السلف والخلف باعتمادهم أصلا وسندا لهذه الأفكار والممارسات!

* تحول التشويه لابن تيمية واضحا مع رسالة «الفريضة الغائبة» محمد عبد السلام فرج، التي مثلت دستورا، وكذلك فتوى تنظيم الجهاد المصري لقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وهي في حقيقتها لم تكن غير هامش استطرادي مغالط، على فتوى التتار أو فتوى أهل ماردين لابن تيمية، لم يسأل المهندس فرج نفسه وهو يعتمدها للقتل، عن موضعها، كما لم يكلف نفسه تحقيق نصها الذي ثبت تصحيفه والغلط فيها، منذ نشرها الأول لفرج الله الكردي عام 1908، كما لم يراجع هل حارب صاحب الفتوى أهل ماردين أم لا وفي مواضع كثيرة يثني عليهم، كما لم يعتمد وصفه ونحته مفهوم الدار المركبة؟ كما لم يسأل كم مرة واجه التتار حربيا؟ أو غيرها من الأسئلة التي توجبها مسؤولية الفتوى ذاتها.
أبو الأشبال يصفهم بالخوارج ويعتبرونه مرجعية:
يذكر أيمن الظواهري في رسالته «التبرئة» الشيخ الراحل أبو الأشبال أحمد محمد شاكر كأحد مرجعيات السلفية الجهادية، استنادا لبعض تفسيراته العامة، ولفتواه الرد على استهداف الإنجليز للمدنيين المصريين في القناة، وأنه يجوز للمصريين ذلك في هذه الحالة، ولكن الظواهري يتجاهل مجمل خطاب الشيخ شاكر وفي مقدمتها تحريمه الاغتيال السياسي على أساس ديني، ورفضه اغتيال الإخوان المسلمين النقراشي باشا، في مقالة مشهورة بعنوان «الإيمان قيد الفتك» نشرتها جريدة «الأساس» في الأول من فبراير (شباط) سنة 1949، يصف فيها قاتلي النقراشي بالخوارج، ويقول: «لعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين؛ فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيل إلى الرجوع. وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤلاء الناس» لم يعلم الشيخ أن القائمة طويلة، وليس آخرها الشهيد «الكساسبة» الذي أحرقته «داعش» حيا في 3 فبراير الحالي.
لكن أمام التشويه والتزوير الكبير الذي ارتكبته «داعش» في تسجيلها المصور لإعلان قتلها وإعدامها الشهيد الكساسبة، نحن أمام حالة تزوير صريح على ابن تيمية (توفي سنة 728 هجرية)، وقطع لا يجوز علميا وأصوليا عن النص الأصلي (أصل الاقتباس) أو مجمل خطاب ابن تيمية.
إن ما نشرته «داعش» فقرة مختزلة من نص طويل مروي عن ابن تيمية، في كتاب «الفروع» لأحد تلامذته وهو القاضي شمس الدين محمد بن مفلح (توفي 763 هجرية) محاولة منها لشرعنة إعدامها الشهيد الطيار معاذ الكساسبة حرقا وهو حي، في 3 فبراير الحالي، رغم أن النص الأصلي تخالف مقدماته ومؤخراته ما اقتبسته «داعش»، وكان سردا لابن تيمية رحمه الله، وليس حكمه في مسألة قتل الأسير المحارب الكافر والتمثيل به، والكساسبة أسير مسلم، بوصف المدونات الفقهية بالأسير الحربي أو حتى المرتد، حسب منظومة «داعش» الفوضوية، وأحكامه ليست هذا الذي قالت به «داعش»!

* بين الاقتباس والنص الأصلي:
الفقرة المقتبسة التي أوردتها خوارج «داعش»، كما يسميهم شيوخهم في «القاعدة» الآن قبل غيرهم، في شريط إحراق الشهيد الكساسبة كانت كما يلي: «فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ, أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ, فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ».
نص مقطوع عن أصل يخالفه، وسرد لابن تيمية ينقله الراوي ابن مفلح لا يحمل رأيه، حيث كان كلام ابن تيمية رحمه الله عن الحرب، أردفه بحديث عما كان في أحد، خاصة وإذا كان الكفار يقومون بالتمثيل فيكون قصاص المسلمين استيفاء وأخذا بالثأر، كما كان في أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في أحد، ومن هنا أردف ابن تيمية بقوله: «والصبر أفضل»..
يتبين التدليس حيث لم يذكر الداعشيون الراوي من باب الإيهام بالثبوت عن ابن تيمية، خاصة وأن النص ليس موجودا في مجموع الفتاوى أو غيرها، وموضعه في كتاب ابن مفلح «الفروع» بعد أن تجاهلوا عنوان الفصل وما يرجحه ابن مفلح نفسه من عدم جواز قتل الأسير، ونور النص كاملا حتى يتبين اللبس والتدليس، يقول ابن مفلح في «الفروع»:
«قَالَ شَيْخُنَا (يقصد ابن تيمية): الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ, فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ, وهذا حيث لا يكون في التمثيل زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ, وَلا يَكُونُ نَكَالا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ».
الصبر أفضل، هذا رأي ابن تيمية في قتل الأسير الكافر وفي المثلة به، ولابن تيمية رأي آخر في الأسير المتأول والمسلم الحربي فله رأي آخر موجود في مجموع الفتاوى، حيث يفضل عدم قتله، ما نقله ابن مفلح، كما أن موضع الفتوى أو سياق كلام ابن تيمية أو روايته كما يتضح ما كان في معركة أحد من تمثيل الكفار حينئذ بجسد حمزة بن عبد المطلب عم النبي رضي الله عنه، ورغم رغبة وغضب النبي الثأر لعمه بعدها، إلا أنه لم يفعل صلى الله عليه وسلم، وعرف عنه إكرام أسرى طيء وعرف عنه العفو العام عند فتح مكة، كما يتجاهل الداعشيون وهو الأهم هنا ختم ابن تيمية رأيه بالقول: «فلهذا كان الصبر أفضل، وإذا كان المغلب حق الله تعالى فالصبر» هذا النفور من المثلة لم ينتبه له هؤلاء، وشردوا ما رأوه يناسبهم عن رأي صاحبه الفقيه الحنبلي وشيخ الإسلام رحمه الله.

كذلك تجاهلت «داعش» ما سبق هذا النص بسطر واحد، وفي نفس الصفحة، من رأي وموقف إمام المذهب أحمد بن حنبل رحمه الله (توفي 241 هجرية) من أنه لا يجوز تعذيب الأسير، وأنه إن مثل به أحد المسلمين كان جزاؤه التمثيل مثله! يقول ابن مفلح: «قَالَ أَحْمَدُ: وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ. وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ». هذا رأي إمام المذهب قبل رأي ابن تيمية بسطر واحد يتجاهله الداعشيون، فقد قال في حكم من يمثل بالأسير أن يمثل به!..
وهذا هو الأصل في أحكام الأسرى في الإسلام، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم ما قام خطيبا إلا نهى عن المثلة، رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني في الكبير، كما يتجاهلون نصا أورده ابن كثير في البداية والنهاية: «قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر ابن لؤي أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا».
ابن تيمية كره المثلة وإن كانت قصاصا:
إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ثبت عنه أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة، ووجد في عصر أزمة الحروب الصليبية والمغولية والطائفية واجتماعها، لم يتناول المثلة والتمثيل لأسير أو غيره إلا في باب القصاص، حيث يقول: «كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ كَالاقتصاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ. وَفِي الأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ». فلا يرى ابن تيمية مجاوزة العدل في القصاص، ولا يرى التحريق والتغريق والتوسيط في مسائل القصاص لأنه أشد إيلاما ويفتقد العدل، وليس كما يروي عنه الداعشيون, وجمهورهم! الذين اجتزأوا هذه الفقرة أيضا ونشروها مبررين بها ذبحهم وحرقهم، عن النص الأصلي في الفتاوى، حيث يقول رحمه الله:
«وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ قَالَ: لأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلامًا؛ لَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ؛ أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضُرِبَ بِالسَّيْفِ فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ. وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلافِ الأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ؛ إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ. وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ».
كما أن لجوءهم لروايات ضعيفة بل منكرة في التمثيل بعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضى الله عنه، أو قتل خالد مالكا بن نويرة في حروب الردة، فهو ما لا يصح عند ابن تيمية، وتعليقا على ما روي عن خالد: قال ولم يقم به أبو بكر! أي يقرر أنه كان خطأ، كما رأى عمر، لا يجوز الاستنان به!

* ابن تيمية: يرفض حرق النمل:
وفق الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه قالَ: بَعَثَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم في سريةٍ فقالَ: «إنْ ظفرتُم بفلانٍ وفلانٍ فأحرقوهما بالنار» حتَّى إذا كانَ الغدُ بعثَ إلينَا فقالَ: «إني قد كنتُ أمرتُكُم بتحريقِ هذينِ الرجلينِ ثُم رأيتُ أنهُ لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعذّبَ بالنارِ إلاَّ اللَّهُ، فإنْ ظفرتُم بهما فاقتلوهُما» رواه ابن أبي شيبة (28877) والدارمي (2461).
كذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عمن تسلط عليه ثلاثة: الزوجة، والقط، والنمل؛ الزوجة ترضع من ليس ولدها، وتنكد عليه حاله وفراشه بذلك، والقط يأكل الفراريج، والنمل يدب في الطعام: فهل لهم حرق بيوتهم بالنار أم لا؟ وهل يجوز لهم قتل القط؟ وهل لهم منع الزوجة من إرضاعها.
فأجاب: «ليس للزوجة أن ترضع غير ولدها إلا بإذن الزوج. والقط إذا صال على ماله: فله دفعه عن الصول ولو بالقتل، وله أن يرميه بمكان بعيد؛ فإن لم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل. وأما النمل: فيدفع ضرره بغير التحريق. والله أعلم.أ.هـ».

* تحرير ابن تيمية من تزوير «داعش» وأخواتها:
شوهت «داعش» وأخواتها كثيرا من فتاوى الإمام الحنبلي والفقيه الموسوعي أحمد بن تيمية، الذي لم يضع كتابا واحدا في الأحكام السلطانية، وفي عصر الدولة المملوكية، وفصلوه عن مجمل خطابه وفتاواه، واقتطفوا من أقواله وأجزائه أشلاء اعتبروها سندا لممارساتهم التي تفتقد الأصالة في أغلب الأحيان.
من يعتمدون فتوى التتار وقتلوا بها السادات ثم عادوا عنها ووصفوه بالشهادة، ولو رجعوا للتاريخ لعلموا أنه رحمه الله لم يكفر التتري قازان، وطلب مقابلته مرتين، قابله في إحداهما ومنعه في الأخرى وزيره الهمداني كما يروي ابن كثير، ولم يدخل في حرب مع التتار على شرعة الياسا، كما قبل حكم المماليك وتحرك في إطار مشروعية الناصر بن قلاوون بعض الوقت ضد بعض البدع في تصوره، ورفض أن ينتقم ابن قلاوون ممن امتحنوه ودخل بسببهم السجن أكثر من مرة، كالقاضي ابن مخلوف ونصر المنبجي وعطاء الله السكندري وغيرهم، من شيوخ الصوفية، كما لم يكفر عوام الطوائف وأكد اعتقادا أنه لا يقول بتكفير أحد من أهل القبلة، كما أكد أنه لا يقول بتكفير معين! لم يكن داعشيا يا من كفرتم المعينين كالكساسبة وكفرتم شيوخكم من شيوخ السلفية الجهادية و«القاعدة» الذين توالت كتاباتهم بوصفكم بالخوارج! كما كفرتم رفقاءكم السابقين كـ«النصرة» التي صرتم تصفونها بـ«الكسرة»، وتصفون «القاعدة» بأبناء الرافضة!
لكن كان ابن تيمية أكبر ضحاياكم، وقد كان الشيخ يحذر من أمثالكم حين كان يحذر من اختزال خطابه وقطعه عن نصوصه الكلية وعن سياقاته حين قال في منهاج السنة: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم».
كما أنه لم ير يا أهل الحاكمية والإمامة والخلافة مسألة الحكم والحاكمية أخص خصائص عقائد الألوهية كما تقولون ويقول شيوخكم، بل هذا التعبير محدث مبتدع، ولم يستخدمه أحد محققيكم كعبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى لعلمه بذلك، وأقر المودودي الندوي في رفضه له في سجال مشهور، ابن تيمية لم يكن يرى الحكم والإمامة قداسة تتيح الفتن والقتل والافتراق، بل رآها اجتهادية تقديرية، فيقول عن اعتبار الخلافة والإمامة أعلى مسائل الدين: «إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعيهم»..
هذا تحقيق وتدقيق مختصر، من باحث قد لا ينتمي لابن تيمية كمنظومة، بل ينتمي للفكر المدني والليبرالي تحديدا، ولكن ما كتبه هو إنصاف للحق وللحقيقة والتحقيق، كشفا لأزمة هذه الخطابات الداعشية الوحشية المنحرفة بالحاكمية نحو الخارجية عن تراث السنة ككل، وعن الوسطية انتصارا لتاريخ بريء منهم كما هو الواقع بريء من فظاعاتهم، نهدي ثوابها لروح الكساسبة الشهيد بإذن الله تعالى.
* كاتب مصري. صدر له أخيرا كتاب «من بوعزيزي إلى داعش.. إخفاقات الوعي والربيع العربي».

* هوامش بحثية:
ابن مفلح: «تصحيح الفروع» لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، طبعة أولى مؤسسة الرسالة سنة 2003- 1424 هجرية، الجزء العاشر/ صفحة 265.
- ابن تيمية: «مجموع الفتاوى»، 18/167.
- ابن تيمية: «الفتاوى» 32/273.
- ابن تيمية: «الفتاوى»، 19/238، وأيضا منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، سنة 1985، المجلد الخامس، ص 83.
- ابن تيمية: «منهاج السنة النبوية»، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1986، 1/75.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».