التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

انتصارا للعلم.. وليس لشيخ الإسلام

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية
TT

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

* في تبريره لإجرامه الوحشي بحق الطيار معاذ الكساسبة، الذي لم يسبق إليه في الإسلام، حتى في عصر الخوارج الأول، لجأ «داعش» للإسناد المزور والملتبس والمدلس على شيخ الإسلام ابن تيمية.
وابن تيمية أكثر من تم تشويهه في تاريخ الفكر المتطرف والإرهاب المعاصر، دون تحقيق أو تدقيق واجب من مؤيديهم ومخالفيهم على السواء.
وتأكيدا على هذا التشوه المبكر نذكر أنه قد نشأ «فكر الجهاد المصري» ومجموعاته، التي وحدها محمد عبد السلام فرج، بعد أن وجد شاب عشريني مجموعة فتاوى بعنوان «ابن تيمية جهاديا» عام 1958! اختفى «الشاب الجهادي» بعدها، ولكن ظل تشويه ابن تيمية كما تم تشويه كثير من السلف والخلف باعتمادهم أصلا وسندا لهذه الأفكار والممارسات!

* تحول التشويه لابن تيمية واضحا مع رسالة «الفريضة الغائبة» محمد عبد السلام فرج، التي مثلت دستورا، وكذلك فتوى تنظيم الجهاد المصري لقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وهي في حقيقتها لم تكن غير هامش استطرادي مغالط، على فتوى التتار أو فتوى أهل ماردين لابن تيمية، لم يسأل المهندس فرج نفسه وهو يعتمدها للقتل، عن موضعها، كما لم يكلف نفسه تحقيق نصها الذي ثبت تصحيفه والغلط فيها، منذ نشرها الأول لفرج الله الكردي عام 1908، كما لم يراجع هل حارب صاحب الفتوى أهل ماردين أم لا وفي مواضع كثيرة يثني عليهم، كما لم يعتمد وصفه ونحته مفهوم الدار المركبة؟ كما لم يسأل كم مرة واجه التتار حربيا؟ أو غيرها من الأسئلة التي توجبها مسؤولية الفتوى ذاتها.
أبو الأشبال يصفهم بالخوارج ويعتبرونه مرجعية:
يذكر أيمن الظواهري في رسالته «التبرئة» الشيخ الراحل أبو الأشبال أحمد محمد شاكر كأحد مرجعيات السلفية الجهادية، استنادا لبعض تفسيراته العامة، ولفتواه الرد على استهداف الإنجليز للمدنيين المصريين في القناة، وأنه يجوز للمصريين ذلك في هذه الحالة، ولكن الظواهري يتجاهل مجمل خطاب الشيخ شاكر وفي مقدمتها تحريمه الاغتيال السياسي على أساس ديني، ورفضه اغتيال الإخوان المسلمين النقراشي باشا، في مقالة مشهورة بعنوان «الإيمان قيد الفتك» نشرتها جريدة «الأساس» في الأول من فبراير (شباط) سنة 1949، يصف فيها قاتلي النقراشي بالخوارج، ويقول: «لعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين؛ فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيل إلى الرجوع. وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤلاء الناس» لم يعلم الشيخ أن القائمة طويلة، وليس آخرها الشهيد «الكساسبة» الذي أحرقته «داعش» حيا في 3 فبراير الحالي.
لكن أمام التشويه والتزوير الكبير الذي ارتكبته «داعش» في تسجيلها المصور لإعلان قتلها وإعدامها الشهيد الكساسبة، نحن أمام حالة تزوير صريح على ابن تيمية (توفي سنة 728 هجرية)، وقطع لا يجوز علميا وأصوليا عن النص الأصلي (أصل الاقتباس) أو مجمل خطاب ابن تيمية.
إن ما نشرته «داعش» فقرة مختزلة من نص طويل مروي عن ابن تيمية، في كتاب «الفروع» لأحد تلامذته وهو القاضي شمس الدين محمد بن مفلح (توفي 763 هجرية) محاولة منها لشرعنة إعدامها الشهيد الطيار معاذ الكساسبة حرقا وهو حي، في 3 فبراير الحالي، رغم أن النص الأصلي تخالف مقدماته ومؤخراته ما اقتبسته «داعش»، وكان سردا لابن تيمية رحمه الله، وليس حكمه في مسألة قتل الأسير المحارب الكافر والتمثيل به، والكساسبة أسير مسلم، بوصف المدونات الفقهية بالأسير الحربي أو حتى المرتد، حسب منظومة «داعش» الفوضوية، وأحكامه ليست هذا الذي قالت به «داعش»!

* بين الاقتباس والنص الأصلي:
الفقرة المقتبسة التي أوردتها خوارج «داعش»، كما يسميهم شيوخهم في «القاعدة» الآن قبل غيرهم، في شريط إحراق الشهيد الكساسبة كانت كما يلي: «فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ, أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ, فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ».
نص مقطوع عن أصل يخالفه، وسرد لابن تيمية ينقله الراوي ابن مفلح لا يحمل رأيه، حيث كان كلام ابن تيمية رحمه الله عن الحرب، أردفه بحديث عما كان في أحد، خاصة وإذا كان الكفار يقومون بالتمثيل فيكون قصاص المسلمين استيفاء وأخذا بالثأر، كما كان في أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في أحد، ومن هنا أردف ابن تيمية بقوله: «والصبر أفضل»..
يتبين التدليس حيث لم يذكر الداعشيون الراوي من باب الإيهام بالثبوت عن ابن تيمية، خاصة وأن النص ليس موجودا في مجموع الفتاوى أو غيرها، وموضعه في كتاب ابن مفلح «الفروع» بعد أن تجاهلوا عنوان الفصل وما يرجحه ابن مفلح نفسه من عدم جواز قتل الأسير، ونور النص كاملا حتى يتبين اللبس والتدليس، يقول ابن مفلح في «الفروع»:
«قَالَ شَيْخُنَا (يقصد ابن تيمية): الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ, فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ, وهذا حيث لا يكون في التمثيل زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ, وَلا يَكُونُ نَكَالا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ».
الصبر أفضل، هذا رأي ابن تيمية في قتل الأسير الكافر وفي المثلة به، ولابن تيمية رأي آخر في الأسير المتأول والمسلم الحربي فله رأي آخر موجود في مجموع الفتاوى، حيث يفضل عدم قتله، ما نقله ابن مفلح، كما أن موضع الفتوى أو سياق كلام ابن تيمية أو روايته كما يتضح ما كان في معركة أحد من تمثيل الكفار حينئذ بجسد حمزة بن عبد المطلب عم النبي رضي الله عنه، ورغم رغبة وغضب النبي الثأر لعمه بعدها، إلا أنه لم يفعل صلى الله عليه وسلم، وعرف عنه إكرام أسرى طيء وعرف عنه العفو العام عند فتح مكة، كما يتجاهل الداعشيون وهو الأهم هنا ختم ابن تيمية رأيه بالقول: «فلهذا كان الصبر أفضل، وإذا كان المغلب حق الله تعالى فالصبر» هذا النفور من المثلة لم ينتبه له هؤلاء، وشردوا ما رأوه يناسبهم عن رأي صاحبه الفقيه الحنبلي وشيخ الإسلام رحمه الله.

كذلك تجاهلت «داعش» ما سبق هذا النص بسطر واحد، وفي نفس الصفحة، من رأي وموقف إمام المذهب أحمد بن حنبل رحمه الله (توفي 241 هجرية) من أنه لا يجوز تعذيب الأسير، وأنه إن مثل به أحد المسلمين كان جزاؤه التمثيل مثله! يقول ابن مفلح: «قَالَ أَحْمَدُ: وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ. وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ». هذا رأي إمام المذهب قبل رأي ابن تيمية بسطر واحد يتجاهله الداعشيون، فقد قال في حكم من يمثل بالأسير أن يمثل به!..
وهذا هو الأصل في أحكام الأسرى في الإسلام، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم ما قام خطيبا إلا نهى عن المثلة، رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني في الكبير، كما يتجاهلون نصا أورده ابن كثير في البداية والنهاية: «قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر ابن لؤي أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا».
ابن تيمية كره المثلة وإن كانت قصاصا:
إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ثبت عنه أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة، ووجد في عصر أزمة الحروب الصليبية والمغولية والطائفية واجتماعها، لم يتناول المثلة والتمثيل لأسير أو غيره إلا في باب القصاص، حيث يقول: «كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ كَالاقتصاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ. وَفِي الأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ». فلا يرى ابن تيمية مجاوزة العدل في القصاص، ولا يرى التحريق والتغريق والتوسيط في مسائل القصاص لأنه أشد إيلاما ويفتقد العدل، وليس كما يروي عنه الداعشيون, وجمهورهم! الذين اجتزأوا هذه الفقرة أيضا ونشروها مبررين بها ذبحهم وحرقهم، عن النص الأصلي في الفتاوى، حيث يقول رحمه الله:
«وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ قَالَ: لأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلامًا؛ لَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ؛ أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضُرِبَ بِالسَّيْفِ فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ. وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلافِ الأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ؛ إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ. وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ».
كما أن لجوءهم لروايات ضعيفة بل منكرة في التمثيل بعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضى الله عنه، أو قتل خالد مالكا بن نويرة في حروب الردة، فهو ما لا يصح عند ابن تيمية، وتعليقا على ما روي عن خالد: قال ولم يقم به أبو بكر! أي يقرر أنه كان خطأ، كما رأى عمر، لا يجوز الاستنان به!

* ابن تيمية: يرفض حرق النمل:
وفق الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه قالَ: بَعَثَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم في سريةٍ فقالَ: «إنْ ظفرتُم بفلانٍ وفلانٍ فأحرقوهما بالنار» حتَّى إذا كانَ الغدُ بعثَ إلينَا فقالَ: «إني قد كنتُ أمرتُكُم بتحريقِ هذينِ الرجلينِ ثُم رأيتُ أنهُ لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعذّبَ بالنارِ إلاَّ اللَّهُ، فإنْ ظفرتُم بهما فاقتلوهُما» رواه ابن أبي شيبة (28877) والدارمي (2461).
كذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عمن تسلط عليه ثلاثة: الزوجة، والقط، والنمل؛ الزوجة ترضع من ليس ولدها، وتنكد عليه حاله وفراشه بذلك، والقط يأكل الفراريج، والنمل يدب في الطعام: فهل لهم حرق بيوتهم بالنار أم لا؟ وهل يجوز لهم قتل القط؟ وهل لهم منع الزوجة من إرضاعها.
فأجاب: «ليس للزوجة أن ترضع غير ولدها إلا بإذن الزوج. والقط إذا صال على ماله: فله دفعه عن الصول ولو بالقتل، وله أن يرميه بمكان بعيد؛ فإن لم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل. وأما النمل: فيدفع ضرره بغير التحريق. والله أعلم.أ.هـ».

* تحرير ابن تيمية من تزوير «داعش» وأخواتها:
شوهت «داعش» وأخواتها كثيرا من فتاوى الإمام الحنبلي والفقيه الموسوعي أحمد بن تيمية، الذي لم يضع كتابا واحدا في الأحكام السلطانية، وفي عصر الدولة المملوكية، وفصلوه عن مجمل خطابه وفتاواه، واقتطفوا من أقواله وأجزائه أشلاء اعتبروها سندا لممارساتهم التي تفتقد الأصالة في أغلب الأحيان.
من يعتمدون فتوى التتار وقتلوا بها السادات ثم عادوا عنها ووصفوه بالشهادة، ولو رجعوا للتاريخ لعلموا أنه رحمه الله لم يكفر التتري قازان، وطلب مقابلته مرتين، قابله في إحداهما ومنعه في الأخرى وزيره الهمداني كما يروي ابن كثير، ولم يدخل في حرب مع التتار على شرعة الياسا، كما قبل حكم المماليك وتحرك في إطار مشروعية الناصر بن قلاوون بعض الوقت ضد بعض البدع في تصوره، ورفض أن ينتقم ابن قلاوون ممن امتحنوه ودخل بسببهم السجن أكثر من مرة، كالقاضي ابن مخلوف ونصر المنبجي وعطاء الله السكندري وغيرهم، من شيوخ الصوفية، كما لم يكفر عوام الطوائف وأكد اعتقادا أنه لا يقول بتكفير أحد من أهل القبلة، كما أكد أنه لا يقول بتكفير معين! لم يكن داعشيا يا من كفرتم المعينين كالكساسبة وكفرتم شيوخكم من شيوخ السلفية الجهادية و«القاعدة» الذين توالت كتاباتهم بوصفكم بالخوارج! كما كفرتم رفقاءكم السابقين كـ«النصرة» التي صرتم تصفونها بـ«الكسرة»، وتصفون «القاعدة» بأبناء الرافضة!
لكن كان ابن تيمية أكبر ضحاياكم، وقد كان الشيخ يحذر من أمثالكم حين كان يحذر من اختزال خطابه وقطعه عن نصوصه الكلية وعن سياقاته حين قال في منهاج السنة: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم».
كما أنه لم ير يا أهل الحاكمية والإمامة والخلافة مسألة الحكم والحاكمية أخص خصائص عقائد الألوهية كما تقولون ويقول شيوخكم، بل هذا التعبير محدث مبتدع، ولم يستخدمه أحد محققيكم كعبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى لعلمه بذلك، وأقر المودودي الندوي في رفضه له في سجال مشهور، ابن تيمية لم يكن يرى الحكم والإمامة قداسة تتيح الفتن والقتل والافتراق، بل رآها اجتهادية تقديرية، فيقول عن اعتبار الخلافة والإمامة أعلى مسائل الدين: «إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعيهم»..
هذا تحقيق وتدقيق مختصر، من باحث قد لا ينتمي لابن تيمية كمنظومة، بل ينتمي للفكر المدني والليبرالي تحديدا، ولكن ما كتبه هو إنصاف للحق وللحقيقة والتحقيق، كشفا لأزمة هذه الخطابات الداعشية الوحشية المنحرفة بالحاكمية نحو الخارجية عن تراث السنة ككل، وعن الوسطية انتصارا لتاريخ بريء منهم كما هو الواقع بريء من فظاعاتهم، نهدي ثوابها لروح الكساسبة الشهيد بإذن الله تعالى.
* كاتب مصري. صدر له أخيرا كتاب «من بوعزيزي إلى داعش.. إخفاقات الوعي والربيع العربي».

* هوامش بحثية:
ابن مفلح: «تصحيح الفروع» لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، طبعة أولى مؤسسة الرسالة سنة 2003- 1424 هجرية، الجزء العاشر/ صفحة 265.
- ابن تيمية: «مجموع الفتاوى»، 18/167.
- ابن تيمية: «الفتاوى» 32/273.
- ابن تيمية: «الفتاوى»، 19/238، وأيضا منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، سنة 1985، المجلد الخامس، ص 83.
- ابن تيمية: «منهاج السنة النبوية»، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1986، 1/75.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟