التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

انتصارا للعلم.. وليس لشيخ الإسلام

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية
TT

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

* في تبريره لإجرامه الوحشي بحق الطيار معاذ الكساسبة، الذي لم يسبق إليه في الإسلام، حتى في عصر الخوارج الأول، لجأ «داعش» للإسناد المزور والملتبس والمدلس على شيخ الإسلام ابن تيمية.
وابن تيمية أكثر من تم تشويهه في تاريخ الفكر المتطرف والإرهاب المعاصر، دون تحقيق أو تدقيق واجب من مؤيديهم ومخالفيهم على السواء.
وتأكيدا على هذا التشوه المبكر نذكر أنه قد نشأ «فكر الجهاد المصري» ومجموعاته، التي وحدها محمد عبد السلام فرج، بعد أن وجد شاب عشريني مجموعة فتاوى بعنوان «ابن تيمية جهاديا» عام 1958! اختفى «الشاب الجهادي» بعدها، ولكن ظل تشويه ابن تيمية كما تم تشويه كثير من السلف والخلف باعتمادهم أصلا وسندا لهذه الأفكار والممارسات!

* تحول التشويه لابن تيمية واضحا مع رسالة «الفريضة الغائبة» محمد عبد السلام فرج، التي مثلت دستورا، وكذلك فتوى تنظيم الجهاد المصري لقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وهي في حقيقتها لم تكن غير هامش استطرادي مغالط، على فتوى التتار أو فتوى أهل ماردين لابن تيمية، لم يسأل المهندس فرج نفسه وهو يعتمدها للقتل، عن موضعها، كما لم يكلف نفسه تحقيق نصها الذي ثبت تصحيفه والغلط فيها، منذ نشرها الأول لفرج الله الكردي عام 1908، كما لم يراجع هل حارب صاحب الفتوى أهل ماردين أم لا وفي مواضع كثيرة يثني عليهم، كما لم يعتمد وصفه ونحته مفهوم الدار المركبة؟ كما لم يسأل كم مرة واجه التتار حربيا؟ أو غيرها من الأسئلة التي توجبها مسؤولية الفتوى ذاتها.
أبو الأشبال يصفهم بالخوارج ويعتبرونه مرجعية:
يذكر أيمن الظواهري في رسالته «التبرئة» الشيخ الراحل أبو الأشبال أحمد محمد شاكر كأحد مرجعيات السلفية الجهادية، استنادا لبعض تفسيراته العامة، ولفتواه الرد على استهداف الإنجليز للمدنيين المصريين في القناة، وأنه يجوز للمصريين ذلك في هذه الحالة، ولكن الظواهري يتجاهل مجمل خطاب الشيخ شاكر وفي مقدمتها تحريمه الاغتيال السياسي على أساس ديني، ورفضه اغتيال الإخوان المسلمين النقراشي باشا، في مقالة مشهورة بعنوان «الإيمان قيد الفتك» نشرتها جريدة «الأساس» في الأول من فبراير (شباط) سنة 1949، يصف فيها قاتلي النقراشي بالخوارج، ويقول: «لعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين؛ فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيل إلى الرجوع. وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤلاء الناس» لم يعلم الشيخ أن القائمة طويلة، وليس آخرها الشهيد «الكساسبة» الذي أحرقته «داعش» حيا في 3 فبراير الحالي.
لكن أمام التشويه والتزوير الكبير الذي ارتكبته «داعش» في تسجيلها المصور لإعلان قتلها وإعدامها الشهيد الكساسبة، نحن أمام حالة تزوير صريح على ابن تيمية (توفي سنة 728 هجرية)، وقطع لا يجوز علميا وأصوليا عن النص الأصلي (أصل الاقتباس) أو مجمل خطاب ابن تيمية.
إن ما نشرته «داعش» فقرة مختزلة من نص طويل مروي عن ابن تيمية، في كتاب «الفروع» لأحد تلامذته وهو القاضي شمس الدين محمد بن مفلح (توفي 763 هجرية) محاولة منها لشرعنة إعدامها الشهيد الطيار معاذ الكساسبة حرقا وهو حي، في 3 فبراير الحالي، رغم أن النص الأصلي تخالف مقدماته ومؤخراته ما اقتبسته «داعش»، وكان سردا لابن تيمية رحمه الله، وليس حكمه في مسألة قتل الأسير المحارب الكافر والتمثيل به، والكساسبة أسير مسلم، بوصف المدونات الفقهية بالأسير الحربي أو حتى المرتد، حسب منظومة «داعش» الفوضوية، وأحكامه ليست هذا الذي قالت به «داعش»!

* بين الاقتباس والنص الأصلي:
الفقرة المقتبسة التي أوردتها خوارج «داعش»، كما يسميهم شيوخهم في «القاعدة» الآن قبل غيرهم، في شريط إحراق الشهيد الكساسبة كانت كما يلي: «فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ, أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ, فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ».
نص مقطوع عن أصل يخالفه، وسرد لابن تيمية ينقله الراوي ابن مفلح لا يحمل رأيه، حيث كان كلام ابن تيمية رحمه الله عن الحرب، أردفه بحديث عما كان في أحد، خاصة وإذا كان الكفار يقومون بالتمثيل فيكون قصاص المسلمين استيفاء وأخذا بالثأر، كما كان في أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في أحد، ومن هنا أردف ابن تيمية بقوله: «والصبر أفضل»..
يتبين التدليس حيث لم يذكر الداعشيون الراوي من باب الإيهام بالثبوت عن ابن تيمية، خاصة وأن النص ليس موجودا في مجموع الفتاوى أو غيرها، وموضعه في كتاب ابن مفلح «الفروع» بعد أن تجاهلوا عنوان الفصل وما يرجحه ابن مفلح نفسه من عدم جواز قتل الأسير، ونور النص كاملا حتى يتبين اللبس والتدليس، يقول ابن مفلح في «الفروع»:
«قَالَ شَيْخُنَا (يقصد ابن تيمية): الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ, فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ, وهذا حيث لا يكون في التمثيل زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ, وَلا يَكُونُ نَكَالا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ».
الصبر أفضل، هذا رأي ابن تيمية في قتل الأسير الكافر وفي المثلة به، ولابن تيمية رأي آخر في الأسير المتأول والمسلم الحربي فله رأي آخر موجود في مجموع الفتاوى، حيث يفضل عدم قتله، ما نقله ابن مفلح، كما أن موضع الفتوى أو سياق كلام ابن تيمية أو روايته كما يتضح ما كان في معركة أحد من تمثيل الكفار حينئذ بجسد حمزة بن عبد المطلب عم النبي رضي الله عنه، ورغم رغبة وغضب النبي الثأر لعمه بعدها، إلا أنه لم يفعل صلى الله عليه وسلم، وعرف عنه إكرام أسرى طيء وعرف عنه العفو العام عند فتح مكة، كما يتجاهل الداعشيون وهو الأهم هنا ختم ابن تيمية رأيه بالقول: «فلهذا كان الصبر أفضل، وإذا كان المغلب حق الله تعالى فالصبر» هذا النفور من المثلة لم ينتبه له هؤلاء، وشردوا ما رأوه يناسبهم عن رأي صاحبه الفقيه الحنبلي وشيخ الإسلام رحمه الله.

كذلك تجاهلت «داعش» ما سبق هذا النص بسطر واحد، وفي نفس الصفحة، من رأي وموقف إمام المذهب أحمد بن حنبل رحمه الله (توفي 241 هجرية) من أنه لا يجوز تعذيب الأسير، وأنه إن مثل به أحد المسلمين كان جزاؤه التمثيل مثله! يقول ابن مفلح: «قَالَ أَحْمَدُ: وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ. وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ». هذا رأي إمام المذهب قبل رأي ابن تيمية بسطر واحد يتجاهله الداعشيون، فقد قال في حكم من يمثل بالأسير أن يمثل به!..
وهذا هو الأصل في أحكام الأسرى في الإسلام، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم ما قام خطيبا إلا نهى عن المثلة، رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني في الكبير، كما يتجاهلون نصا أورده ابن كثير في البداية والنهاية: «قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر ابن لؤي أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا».
ابن تيمية كره المثلة وإن كانت قصاصا:
إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ثبت عنه أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة، ووجد في عصر أزمة الحروب الصليبية والمغولية والطائفية واجتماعها، لم يتناول المثلة والتمثيل لأسير أو غيره إلا في باب القصاص، حيث يقول: «كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ كَالاقتصاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ. وَفِي الأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ». فلا يرى ابن تيمية مجاوزة العدل في القصاص، ولا يرى التحريق والتغريق والتوسيط في مسائل القصاص لأنه أشد إيلاما ويفتقد العدل، وليس كما يروي عنه الداعشيون, وجمهورهم! الذين اجتزأوا هذه الفقرة أيضا ونشروها مبررين بها ذبحهم وحرقهم، عن النص الأصلي في الفتاوى، حيث يقول رحمه الله:
«وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ قَالَ: لأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلامًا؛ لَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ؛ أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضُرِبَ بِالسَّيْفِ فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ. وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلافِ الأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ؛ إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ. وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ».
كما أن لجوءهم لروايات ضعيفة بل منكرة في التمثيل بعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضى الله عنه، أو قتل خالد مالكا بن نويرة في حروب الردة، فهو ما لا يصح عند ابن تيمية، وتعليقا على ما روي عن خالد: قال ولم يقم به أبو بكر! أي يقرر أنه كان خطأ، كما رأى عمر، لا يجوز الاستنان به!

* ابن تيمية: يرفض حرق النمل:
وفق الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه قالَ: بَعَثَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم في سريةٍ فقالَ: «إنْ ظفرتُم بفلانٍ وفلانٍ فأحرقوهما بالنار» حتَّى إذا كانَ الغدُ بعثَ إلينَا فقالَ: «إني قد كنتُ أمرتُكُم بتحريقِ هذينِ الرجلينِ ثُم رأيتُ أنهُ لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعذّبَ بالنارِ إلاَّ اللَّهُ، فإنْ ظفرتُم بهما فاقتلوهُما» رواه ابن أبي شيبة (28877) والدارمي (2461).
كذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عمن تسلط عليه ثلاثة: الزوجة، والقط، والنمل؛ الزوجة ترضع من ليس ولدها، وتنكد عليه حاله وفراشه بذلك، والقط يأكل الفراريج، والنمل يدب في الطعام: فهل لهم حرق بيوتهم بالنار أم لا؟ وهل يجوز لهم قتل القط؟ وهل لهم منع الزوجة من إرضاعها.
فأجاب: «ليس للزوجة أن ترضع غير ولدها إلا بإذن الزوج. والقط إذا صال على ماله: فله دفعه عن الصول ولو بالقتل، وله أن يرميه بمكان بعيد؛ فإن لم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل. وأما النمل: فيدفع ضرره بغير التحريق. والله أعلم.أ.هـ».

* تحرير ابن تيمية من تزوير «داعش» وأخواتها:
شوهت «داعش» وأخواتها كثيرا من فتاوى الإمام الحنبلي والفقيه الموسوعي أحمد بن تيمية، الذي لم يضع كتابا واحدا في الأحكام السلطانية، وفي عصر الدولة المملوكية، وفصلوه عن مجمل خطابه وفتاواه، واقتطفوا من أقواله وأجزائه أشلاء اعتبروها سندا لممارساتهم التي تفتقد الأصالة في أغلب الأحيان.
من يعتمدون فتوى التتار وقتلوا بها السادات ثم عادوا عنها ووصفوه بالشهادة، ولو رجعوا للتاريخ لعلموا أنه رحمه الله لم يكفر التتري قازان، وطلب مقابلته مرتين، قابله في إحداهما ومنعه في الأخرى وزيره الهمداني كما يروي ابن كثير، ولم يدخل في حرب مع التتار على شرعة الياسا، كما قبل حكم المماليك وتحرك في إطار مشروعية الناصر بن قلاوون بعض الوقت ضد بعض البدع في تصوره، ورفض أن ينتقم ابن قلاوون ممن امتحنوه ودخل بسببهم السجن أكثر من مرة، كالقاضي ابن مخلوف ونصر المنبجي وعطاء الله السكندري وغيرهم، من شيوخ الصوفية، كما لم يكفر عوام الطوائف وأكد اعتقادا أنه لا يقول بتكفير أحد من أهل القبلة، كما أكد أنه لا يقول بتكفير معين! لم يكن داعشيا يا من كفرتم المعينين كالكساسبة وكفرتم شيوخكم من شيوخ السلفية الجهادية و«القاعدة» الذين توالت كتاباتهم بوصفكم بالخوارج! كما كفرتم رفقاءكم السابقين كـ«النصرة» التي صرتم تصفونها بـ«الكسرة»، وتصفون «القاعدة» بأبناء الرافضة!
لكن كان ابن تيمية أكبر ضحاياكم، وقد كان الشيخ يحذر من أمثالكم حين كان يحذر من اختزال خطابه وقطعه عن نصوصه الكلية وعن سياقاته حين قال في منهاج السنة: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم».
كما أنه لم ير يا أهل الحاكمية والإمامة والخلافة مسألة الحكم والحاكمية أخص خصائص عقائد الألوهية كما تقولون ويقول شيوخكم، بل هذا التعبير محدث مبتدع، ولم يستخدمه أحد محققيكم كعبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى لعلمه بذلك، وأقر المودودي الندوي في رفضه له في سجال مشهور، ابن تيمية لم يكن يرى الحكم والإمامة قداسة تتيح الفتن والقتل والافتراق، بل رآها اجتهادية تقديرية، فيقول عن اعتبار الخلافة والإمامة أعلى مسائل الدين: «إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعيهم»..
هذا تحقيق وتدقيق مختصر، من باحث قد لا ينتمي لابن تيمية كمنظومة، بل ينتمي للفكر المدني والليبرالي تحديدا، ولكن ما كتبه هو إنصاف للحق وللحقيقة والتحقيق، كشفا لأزمة هذه الخطابات الداعشية الوحشية المنحرفة بالحاكمية نحو الخارجية عن تراث السنة ككل، وعن الوسطية انتصارا لتاريخ بريء منهم كما هو الواقع بريء من فظاعاتهم، نهدي ثوابها لروح الكساسبة الشهيد بإذن الله تعالى.
* كاتب مصري. صدر له أخيرا كتاب «من بوعزيزي إلى داعش.. إخفاقات الوعي والربيع العربي».

* هوامش بحثية:
ابن مفلح: «تصحيح الفروع» لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، طبعة أولى مؤسسة الرسالة سنة 2003- 1424 هجرية، الجزء العاشر/ صفحة 265.
- ابن تيمية: «مجموع الفتاوى»، 18/167.
- ابن تيمية: «الفتاوى» 32/273.
- ابن تيمية: «الفتاوى»، 19/238، وأيضا منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، سنة 1985، المجلد الخامس، ص 83.
- ابن تيمية: «منهاج السنة النبوية»، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1986، 1/75.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.