نيتشه: لنحارب الوجود بالخطر

أوصى الإنسان أن لا يقف منتصف المنطقة الرمادية التي حاربها بكل أسلحته

نيتشه
نيتشه
TT

نيتشه: لنحارب الوجود بالخطر

نيتشه
نيتشه

بينما نيتشه يتوكأ على عصاه في أعالي الجبال، قبيل وميض الغسق، حين يحايث الليل النهار، ليجلو ضوء شمس النهار المتجسسة، رأى فجأة ظلّا لخيلٍ يركبها الإنسان الأعلى، وعلى وقع حوافرها تناجى النسر مع الأفعى لينطق زرادشت بالقوة والخطر، قادحا الشرر على صخر المفاهيم النيتشوية العتيدة: «العود الأبدي، التجاوز، موت الميتافيزقيا، أفول الأصنام، سيادة الإنسان» وما إن اقترب ظلّ الإنسان القوي إلا وصرخ نيتشه عبر لسانه الفلسفي «زرادشت» الناطق باسم الإنسان القوي الشرس: «المخاطرون، هم المنذرون بالصواعق»، فكمال الإنسان في سيفه وإقدامه. سرعان ما يحول الظلام بين عيون نيتشه المصابة بالمرض وغبش الرؤية حينها تشتعل في ذهنه شموع فلسفة الخطر، دليله النسر، وسلاحه الأفعى، ودابته الخيل المتبختر، يسير متجولا إلى غير هدى في دروب الغابة، وحين يتجمّد الجبل بالثلج والصقيع يقترب نيتشه من تخوم فلسفته، من البحث عن «جينالوجيا» لكل الأيقونات التي درجت عليها البشرية في الوجود والأخلاق والدين والفن والحرب والسلم.
بالخطر تبصر مفاهيمه النور، من دونه لا يمكن ممارسة التجاوز، أو استيعاب العود الأبدي، أو المصابرة ضد الوجود وحبّ الألم حتى لو أن للإنسان فرصة أن يموت ويعيش إلى ما لا نهاية فإن الإنسان القوي لن يرفض هذا. بالخطر يكون العيش المتماسّ مع قلق الوجود وتصاريفه وتموّجاته، ومن دونه يكون الإنسان «أعرق من القرود في قرديته». يوصي زرادشت إنسانه: «عليكَ أن تصلي نفسك كل يوم حربا، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر، أو تجني عليه جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك».
على الضدّ من المخاطرة الواجبة على الإنسان الأعلى ذلك الذي يقف وسط الطريق، تلك المنطقة الرمادية التي شنّع عليها نيتشه وحاربها بكل أسلحته الفتاكة، وفي بدء كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يكتب: «إن العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطرا، وفي الالتفات إلى الوراء، وفي كل ترددٍ وفي كل توقفٍ خطر في خطر». فلسفة الخطر لدى نيتشه ساحرة، إذ بها يتجاوز الإنسان تحديات اليوم التافه، أو ما يشغل الإنسان الجبان. الرقص مخاطرة، كما أن الحرب مخاطرة، وفي الكلمة مخاطرة.
عبد الرحمن بدوي، يروي في مذكّراته «سيرة حياتي» أنه حين نشر كتابه «نيتشه» في 1939 قرأه جمال عبد الناصر، وحين قرأ عبارة: «لكي تجني من الوجود أجمل ما فيه عش في خطر» صعق، وأثّرت فيه هذا العبارة أيّما تأثير. ربما كان التنازع الطويل والمحتدم بين المؤرخين للفلسفة حول تأثير فلسفة نيتشه على الأحزاب الشمولية الاستئصالية مثل النازية يعود إلى هذا الحشد الفلسفي نحو «المخاطرة» والوقوف بوجه الوجود، هذا فضلا عن آرائه الحادة تجاه اليهود، والضعفاء الذين يشكّلون عبئا على قشرة الأرض كما يقول في أكثر من كتابٍ له، غير أن هذا لا يعطي المسؤولية النيتشوية عن أي تيارٍ أو حزب دموي، كما يوضّح يورغن هابرماس في كتيبٍ له عن مسؤولية «هيدغر عن الانتماء للنازية»، وعلى ما يفصّل رودلف شتاينر في كتابه: «نيتشه مكافحا ضد عصره».
«إن حياة الإنسان محفوفة بالمخاطر. إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار، إنك لم تتحرر يا أخي، بل ما زلت تسعى إلى الحرية، وقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس». الخطر لديه عنفوان، على حافّة جبلٍ وعر، له هاوية سحيقة، يجب أن يرقص الإنسان الأعلى، وأن يمتطي الخيل على مجالها، من دون القلب المخلوع الباحث عن نهايات كل شيء لا يمكن أن يكون الإنسان قويا، وكما أن من يُشبع الآخرين يشعر بالقوة، فإن من يبتدر الخطر يشعر بقوة القوى.
وبعبارة أوضح فإن «الشعور بالخطر» هو نقطة البدء، ذلك أن: «في اللحظة التي يختلج فيها قلبكم تتكوّن فضيلتكم، لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم، فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة، كما يهددهم بأشد الأخطار». وبعض الحكمة لديه، أو السكون إنما يعارض «التجاوز» والحركة الدائمة، والصيرورة التي استمدّها من اهتمام كبير بفلسفة «هيراقليطس» والتي عبّر عنها نيتشه في كتبه كلها وعلى رأسها: «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، والبشرية عليها أن لا تضع «الحكمة» هي المعيار، بل بالجنون يمكن أن نخاطر، وأن نصل إلى مساحاتٍ أخرى من البدايات الدائمة، والأفكار التي لا تلبث عن تمارس أبديتها عبر ديمومة العوْد.
أثّرت أطروحة «الخطر» في فلسفة نيتشه على المجال السياسي والسينمائي والرياضي، وسرعان ما يشعر قارئه بالقوة، لأنه لا يضعك ضمن بشائر أو جموع، بل يغويك على ركوب ثبج المخاطرة والمغامرة، لأنه لا يريد للإنسان أن يسير إلا وحده، وأن لا يتناهى تقديره الأخلاقي والإدراكي والوجودي عند ما وصل إليه أجداده القدامى.
وحين يبزغ الضوء، والكوخ تعلوه صفائح الثلج، يصحو نيتشه فزعا، وتذكّر أنه كتب:
يا رجلا قد أيبستْه الرغبة،
لا تنسَ أنك أنت الحجارة والصحراء،
لا تنسَ أنك أنتَ الموت.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!