لماذا نحب أن نقرأ الرسائل الأدبية؟

أفضل إشارة لدينا إلى النقاط الغامضة في عالم الفن

الرسائل تذكارات الحب
الرسائل تذكارات الحب
TT

لماذا نحب أن نقرأ الرسائل الأدبية؟

الرسائل تذكارات الحب
الرسائل تذكارات الحب

في عصر الإفراط في مشاركة المعلومات، والقصص الذاتية، تقدم قراءة المراسلات للمرء أفضل نافذة على كيفية تشكل النفس الأدبية. ورغم أن كتابة الخطابات طريقة عتيقة، فلا يزال لها وجود معاصر، بحسب ما كشفت مجموعات من المراسلات الأدبية أخيراً.
كتبت إليزابيث هاردويك، الروائية والناقدة الفنية في مقال نشر عام 1953 عن المراسلات الأدبية: «أهم ما في الرسائل هو أنها مفيدة كوسيلة للتعبير عن النفس العليا المثالية، ولا توجد طريقة أخرى من طرق التواصل تضاهيها في تحقيق هذا الغرض. في المحادثات تمثل تلك الأعين المثيرة للقلق التي تتطلع إليك، وتلك الشفاه المتأهبة للتصحيح حتى قبل أن تبدأ الحديث، رادعاً قوياً لعدم الواقعية، بل للأمل».
فقط في رسائلنا نستطيع التعبير عن النسخة الفضلى والأكثر ذكاء من أنفسنا، وطرح الأسئلة، وتقديم الأجوبة، والتعبير عن أنفسنا كما نشاء. وأمام الزيادة الكبيرة في عدد رسائل البريد الإلكتروني، كنا بحاجة على ما يبدو إلى وباء عالمي لنعود إلى الرسائل والخطابات التي يتم صياغتها في قالب «أرغب في الاطمئنان فحسب»، من أشخاص كنا نعرفهم في الماضي أفضل مما كنا نعرفهم في الوقت الحاضر.
وإذا كانت الرسائل الشخصية تمثل شكلاً من أشكال تصوير الذات، فربما يتساءل المرء عن السبب الذي يدفعنا إلى قراءة الرسائل الأدبية. يبدو أنها تتمتع بهذه المكانة والأهمية لأنها تكشف أكثر مما كان يريده المؤلف، ويمكن لها، كما تقول هاردويك، الكشف عن مواقفنا تجاه عملنا، وأحبائنا، وأنفسنا. كذلك يوجد عنصر درامي في الصياغة؛ حيث تقدم طريقة التنقل في السرد للأمام وللخلف في الرسائل أو رسائل البريد الإلكتروني، إثارة طبيعية، إلى جانب انتظار رد على الخطاب قد يغير كل شيء، وكذلك التوقف المؤقت، والجلوس وجمع وترتيب الأفكار، وإتاحة مساحة للتأمل والتفكير، وسياحة العقل الذي يبحث عن خلاص. وليس من النادر، أن نقرأ إضافة ملحوظة ذات نكهة ممتعة، فتبدو الصفحة البيضاء مثل درج (جارور) مرتب بجمال، موضوع داخله بعناية ذلك العالم الداخلي. سوف يفهم أي شخص كتب مسودة لرسالة بريد إلكتروني طويلة، وسمح لأفكاره بالتدفق بحرية، قبل أن يحذف أكثر ما جاء فيها بدافع الإحراج قبل إرسالها، السبب وراء تلك الرغبة. على الجانب الآخر لم يكن هناك في زمن الاستخدام الشائع للآلة الكاتبة أو القلم ما يقيد ويعرقل هذا الزخم من الإقدام، أو ما يصفه إي إم فورستر بعبارة «كيف يمكنني التعبير عما أعتقد حتى أرى ما أقول؟».
أعتقد أننا نقرأ مجموعات الرسائل إلى حد كبير لرغبتنا في الاستمتاع برؤية الجوانب الإنسانية الأخرى من أبطالنا من الشخصيات الأدبية مثل النميمة الخبيثة لهنري جيمس، ومشروعات الحياكة الخاصة بسيلفيا بلاث، وشبق جيمس جويس. إن مثل هذه الرسائل ناضجة من جميع الأوجه؛ حيث نجد عبارات مثل «يستيقظ الطفل من القيلولة ويبكي»، و«تنطلق صافرة إنذار الغارة الجوية»؛ كما تتسرب إلينا الأعراف الاجتماعية والديناميكية النفسية من حقبات أخرى. من الصعب تخيل أنه بعد 50 عاماً من الآن سوف نقرأ «مجموعة رسائل البريد الإلكتروني» لزادي سميث؛ ويبدو من غير المرجح أن يرغب أي مؤلف معاصر في هذا الأمر. لا تعدّ رسالة البريد الإلكتروني، التي باتت شكلاً قديماً بالفعل، بديلاً إلكترونياً للخطاب، لكنها شكل مختلف من أشكال التواصل أكثر سرعة، ويمكن أن يصبح قابلاً للتخلص منه بدرجة أكبر أو أقل في الوقت ذاته؛ فمن غير الحكمة أن يهب المرء نفسه لشفرة إلكترونية سوف تبقى موجودة عبر الأثير، ولن يتم إلقاؤها في الموقد.
أعتقد أنه من أجل تلك اللحظات من الانكشاف على العالم الداخلي ما زلنا نقرأ الرسائل الأدبية. لذا يمكن القول بإيجاز إن الأمر يتعلق بالتلصص؛ حيث لا يزال بعضنا يقرّ بأنه يقرأ رسائل أبطاله من الشخصيات الأدبية مثلما يشاهد البعض الآخر برامج تلفزيون الواقع، انتظاراً للحظات التي يعبر فيها شخص ما عن مشاعر ملتهبة. عندما نشرت «برينتسون» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعد مرور 50 عام على وفاة هيل «رسائل تي إس إليوت إلى إيميلي هيل»، التي تمت كتابتها على مدار 30 عاماً، تسبب الأمر في أن ينشر ورثة إليوت براءة من هذه الرسائل. لم يكن إليوت يحبها حقاً، بل كان يعتقد أنه يحبها، بحسب ما كتب. وجاء في الرسائل: «كانت إميلي هيل لتقتل الشاعر الذي بداخلي. لقد لاحظت بالفعل أنها ليست من محبي الشعر، وبالتأكيد لم تكن مهتمة كثيراً بأشعاري. لقد كنت أشعر بالقلق إزاء ما بدا لي دليلاً على تبلد مشاعرها، وذوقها السيئ»، كذلك أوضح أنه لم يقم علاقة حميمية معها.
أثار تعبير إليوت عن مشاعر الجحود والإنكار الذي جاء في غير وقته استياء جماعياً، لكن من المؤكد أن أي شخص يشعر بخوف من فتح صندوق الرسائل الواردة، خاصة الرسائل الأكثر مرارة، سوف يتفهم فزع إليوت من تخيل نشر رسائله، التي تعبر عن عدم الحب، حتى بعد مماته. من منّا يستطيع التظاهر بالاتساق في عواطفه إلى حد يجعلنا لا نريد حذف الأدلة على قصص الحب الأول الخاصة بنا. مع ذلك، كما يعلم المؤرخون وكتّاب السيرة الذاتية جيداً، كثيراً ما تكون مجموعة الرسائل، التي تتم كتابتها على مدار فترة من الزمن، أفضل إشارة لدينا إلى النقاط الغامضة في عالم الفن. عند إعادة قراءة «آريل» لبلاث في سياق رسائلها الأخيرة قبل وفاتها حين كان يتراجع الأسلوب البارع المثير، سيشعر المرء بالعجب من انتصار الإبداع في خضم الإحباط. وتكشف الرسائل، إن لم تكن عن «النفس الأصيلة»، عن توترات أساسية محددة تشعل القدرة على التعبير، أو ربما الكبت والقمع، في حالة الكاتبة أليس جيمس، التي تفوقت على شقيقيها هنري وويليام في القدرة على الملاحظة واختبار وتمحيص الذات. بناءً على رسائل إليوت، لا يسعنا سوى تخيل كيف كان حنينه إلى هيل بمثابة الشعلة التي ساعدته على كتابة أفضل أعماله التي ألّفها خلال فترة زواج غير ناجح.
ما يقابل فكرة هاردويك عن الرسالة الأدبية كتصوير مثالي للذات هو مراسلاتها مع زوجها الشاعر روبرت لويل التي امتدت لـ23 عاماً. لطالما كانت رواية لويل عن العلاقة معروفة، لكن لم تصبح رواية هاردويك عن هذه العلاقة معروفة إلا أخيراً؛ حيث تم نشر «رسائل الدولفين، 1970 - 1979» خلال الخريف الماضي، التي تغطي عقداً من الزمان، هجر فيه لويل زوجته وابنته هارييت من أجل الروائية الأرستقراطية الليدي كارولين بلاكوود، بحسب ما جاء تفصيلاً في ديوانه الشعري «الدولفين». وقد اقتبس لويل في ذلك الديوان الذي تم نشره عام 1973، والذي فاز بفضله بجائزة «بوليتزر» للمرة الثانية، بشكل مطول من رسائل هاردويك إليه، والتي تم كتابة كثير منها بحزن وأسى، لكن بعد مراجعتها وتنقيحها لتناسب غرضه.
عندما أرسل لويل المخطوطة إلى صديقته الشاعرة إليزابيث بيشوب، كتبت رداً عليه: «لقد غيّرت خطاباتها؛ إن هذا خداع على ما أعتقد، لكن لا يستحق الفن القيام بمثل هذه الأفعال». كذلك وصفت أدريان ريتش، التي تعد من أصدقائه المقربين، في مقال عن الديوان المذكور عام 1973، تعديله لرسائل هاردويك بأنها «من أكثر الأفعال انتقامية، ولؤماً في تاريخ الشعر». لقد أعربت هاردويك للويل عن قوة الفصاحة النابعة من مشاعر الألم والغضب، لكن أيضاً عن استمرار حبها له حتى مع علمها بأنه من الممكن قراءة الآخرين لخطاباتها يوماً ما.
لقد أشار ناقد نفسي، قام بتحليل نفسية كل من بلاث وزيلدا فيتزغيرالد، وسيدات مبدعات أخريات تشوهن نفسياً بسبب الرجال في حياتهن، بمحدودية الطرق الاعتيادية التي نروي بها قصصنا عن الآخرين، وتحديداً الطابع غير الموضوعي للانطباعات الشخصية، أو الجمود، أو الشطط في الحقائق الخاصة بالسيرة، وهي طرق غير كافية للنظر إلى التغير المستمر المعقد للكينونة الإنسانية.
ربما يتساءل البعض؛ ماذا إذن بشأن مستقبل الرسائل المجمعة في القرن الواحد والعشرين، أي رسائل سنختتم بها هذا المقال؛ رسائل فيليب روث، أم توني موريسون؟
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.