القصيدة الجديدة بالسعودية تشتعل في الفضاء الحر

إبراهيم الحسين نموذجا

الشاعر والناقد عبد الله السفر و الشاعر إبراهيم الحسين
الشاعر والناقد عبد الله السفر و الشاعر إبراهيم الحسين
TT

القصيدة الجديدة بالسعودية تشتعل في الفضاء الحر

الشاعر والناقد عبد الله السفر و الشاعر إبراهيم الحسين
الشاعر والناقد عبد الله السفر و الشاعر إبراهيم الحسين

«الحريّة» هي العنوان الذي تُكتب في ضوئِهِ القصيدةُ الجديدة بالمملكة العربية السعودية. وباتت المدوّنات والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من «فيس بوك» و«تويتر» هي المنصّة التي تتجلّى فيها هذه الحريّة. ففي فضاءٍ مفتوحٍ ومُشرَعٍ على التنافذ، لم تعد الكتابة حبيسةَ الأدراج والغرف المغلقة أو رهنَ الانتظار تتحيّنُ فرصةَ النشرِ أو رحمتَه.
كما ولّى إلى غير رجعة دورُ الرقيب الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يفحصُ النصَّ ليتأكد من خلوِّهِ من علامات الخطر التي تقضُّ مضجع الأبويّة التي تريدُ الحياةَ - ومعها النص - منسجمةً مع العينِ المحافظة ونظرتِها التفقديّة تعزلُ ما تظنّهُ نشازًا أو غريبًا أو هذيانًا؛ يعكّرُ ماءَ الكتابة الذي كادَ يأسَنُ لفرط بقائِهِ في البحيرةِ ذاتها لا يتجدّدُ ولا يتّصلُ بمصبّاتٍ تقلبُ أعماقَهُ وترجُّ ركودَه. لقد تهاوَتْ بوّابةُ الناشر التقليديّة وترنّحتْ طاولةُ الرقيب.
ولم تكتسب الكتابة عبر وسيط النت طابَعَ السهولة والمواتاة في جميع الأحوال وحسْبُ. إنما تخلّقتْ، هذه الكتابة، بحسٍّ تجريبي اختباري مدفوعةً بنسائم الحريّة وتطامن السقوف وتلاشي القيود ومعها أيضا شفّتْ الحدود بينَ الأجناس الأدبيّة والفنيّة، وتعزّزت أكثر بالتدافُعِ الخلاّق يشتركُ فيه أكثر من اسمٍ ومن أعمارٍ مختلفة لا تحتكم إلى جيلٍ محدّد ولا يمنعُها من التواصل اختلافُ ذائقةٍ ولا أعباءُ شهرةٍ أو معازلُ جغرافيا.

* تجربة إبراهيم الحسين
وللتدليل وبناء نموذج، أمامنا تجربة الشاعر إبراهيم الحسين وهو كائنٌ مثالي للعزلة والانقطاع عن الإعلام الجديد حتّى عام 2013 الذي شهد انغماره في هذا الإعلام؛ العالم الجديد، فكتب خلاله ما يزيد على 400 نص منها 142 نصًّا في كتابه الأخير «على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي» (نشر مشترك: نادي الرياض الأدبي والمركز الثقافي العربي، 2014) وللمقارنة فإن الشاعر أصدر قبل هذا العمل أربعة كتب شعريّة يعود فيها تاريخ كتابة النصوص الأولى إلى عام 1989 والتي انتظمها إصداره الأولى «خرجت من الأرض الضيقة» (كتاب كلمات، البحرين، 1992) بواقع 67 نصا، يليه «خشب يتمسّح بالمارة» (دار الجديد، بيروت، 1996) بواقع 67 نصًّا أيضًا، ثم «انزلاق كعوبهم» (نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الدمام - 2007) بواقع 49 نصًّا، وأعقبَهُ بـ«رغوة تباغت ريش الأوراق» (النادي الأدبي بالجوف، سكاكا، 2011) بواقع 37 نصًّا، بما مجموعه 220 نصًّا كُتبّت في بحر 22 عامًا. وهذا يعني إحصائيّا أنّ إبراهيم الحسين تدفّقَ شعريًّا في عامٍ واحد بما يكافئ عمرَهُ الإبداعي السابق نحو مرتين.
الأمر الذي نترجمه إلى أربعين عامًا فيما لو استمر بالإيقاع ذاتِهِ الذي كان عليه قبل قيامتِه من عزلته، وانخراطه بكامل أعضائه وروحه، وانغراسه غرسًا في الشبكة العنكبوتيّة؛ ممّا دعاه إلى أن يهدي كتابه الأخير إلى عائلته فردًا فردًا مشفوعًا برجاء «أن يغفروا لي ملاحقتي الكلماتِ المترحّلةَ وارتدائي ملابسَها الملوّنة، أكلي من طعامها، والنومَ في خيامها، وترديدي أغانيها.. الكلماتِ التي مرّتْ ذاتَ ليلٍ تحت نافذةِ بيتِنا بطبولِها ودفوفِها واجتذبتني بثيابِ النوم».‬‬‬‬
حافظَ إبراهيم الحسين، وعلى مدى عامٍ كامل، على إيقاع الكتابة وتواترها بطلاقةٍ نادرة وبانتباهٍ شديدِ الحساسيّة لالتقاط الحالة الشعرية ومعالجتها نصيًّا بمهارةٍ تشهدُ لها لغتُهُ التي لا تحتملُ إلا الشعر وتُقِرُّ بها تلك الظلالُ والزوايا، حيث النفاذ والظهور بمهارةٍ والتماعٍ وجِدّةٍ واختلافٍ وبِسِمَةٍ تقول إن هذا النص هو نص يخصُّ الشاعر وحدَه رغم المرجعيّات التي يتّكئ عليها بشكل مباشر وتشتغلُ مهمازًا يركضُ به إلى فردوس الكتابة، حيث انفتاح الذات الشاعرة يظلُّ متّصلًا ومندغمًا بالخبرة الشخصيّة التي تتبدّى منذ استيقاظِهِ بشهيّةِ متحفّزة يكون فيها الصباح أول الوافدين إلى مائدته إذ كتبَ عشراتِ النصوص عن صباحهِ وموسيقاه وقهوته وتبغه وشارعِه بعصافيره وإشارات السير.
إلى هذه الخبرة الشخصية تنضافُ الخبرةُ الخارجية المجلوبة من شتّى مصادر الجمال وجهاته؛ يتعالق معها بكفاءة. تحلُّ فيه ويحلُّ فيها، فـ«يتقاطع» معها تقاطعًا باهرًا سيّالًا بالشعر، كما يتجلّى واضحًا وبهيًّا في كتابه «على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي» الذي يتأسّس، في غالبية نصوصه، وبحسب عتبة التصنيف المصاحب للعنوان، على «تقاطعات» تستدعي إلى الوجدان وإلى الذاكرة نوعًا من الكتابة أطلق عليه «المعارضات الشعرية» التي تلتحم بأجمل القصائد في تاريخ الشعرية العربيّة؛ إحياءً واستلهامًا وتجديدًا، غير أن الأمر في هذا الكتاب مختلف، حيث الاستدعاء ليس تاريخيًّا ولا محدّدًا بأصل شعري هو القصيدة فقط. هنا الالتحام منفتح وعلى نحوٍ شديد الغزارة وفقَ صيغة العصر وما أنجزه عالم الاتصال من مساحة واسعة فتحتْها شبكة الإنترنت عبر ما وفّرتْهُ من وسائل التواصل الاجتماعي ومن مواقع إلكترونية تُعنَى بالشأن الإبداعي، وهذا، على التحديد، ما تقاطَعَ معه الكتاب. وكأنّ ثمة إعصارًا جماليًّا واجتياحًا إبداعيًّا تعرّضت له الذات الشاعرة؛ فجرى الاستبطان والتداخل وإعادة الإنتاج ليس على سبيل النسخ، بل بإنتاج «أصل» ينتمي لتلك الذات ويعبّر عنها.. فالمتعة التي جرى تحصيلها وتسرّبت إلى الحواس؛ تظلُّ ناقصة وتحتاج إلى اكتمالٍ يظهرُهُ القولُ و«التقاطع».
أتصوّر أن القصيدةَ الجديدة بهجرة مبدعيها إلى الإعلام الجديد في أشكالِهِ المتعدّدة إلكترونيًّا، قد عثرتْ على عالمِ «ما بعد الياء» في صِيَغِهِ المتكاثرة واللامنتهية والحافلة بالدهشة والمباغتات الجماليّة والمتجاوزة لأسوار التقليديّة وما ترتهنُ إليه من عاديّة إن في النظر أو أساليب الكتابة: (ما أبلغ الدهشة التي ستعتريك إذا ما حاولتَ المضي ما بعد «الياء» مطّلعًا على عوالم أخرى لا متناهية - سيوس: ما وراء الحمر الوحشية، نقلًا عن: عبد الستار إبراهيم، الإبداع.. قضاياه وتطبيقاته).
* ملخص لورقة قدمها الناقد
عبد الله السفر في حلقة النقاش النقدية «أسئلة القصيدة.. الشعر السعودي أنموذجا»، التي أقيمت ضمن البرنامج
العام لجائزة السنوسي الشعرية
في مدينة جازان الأسبوع الماضي



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.