رفيف الظل: ترفُ التفاخرِ بالخراب

رفيف الظل: ترفُ التفاخرِ بالخراب
TT

رفيف الظل: ترفُ التفاخرِ بالخراب

رفيف الظل: ترفُ التفاخرِ بالخراب

لا تخف من النهاية، ففيها سِيركُ الموتِ يبدأ. قضّ مخدعها المهاجرُ، وفضّ عفتها النقيض. خضّ أمانها ليلُ المسافر، رضّ الأرض تحت سريرها ورماها في الزمهرير.
احذر! فالذي يوشوش لك، يشوش عليك. وهذا استواءٌ آخر، عندما يتلهّى الجلاد بالجماجم، وتدحر النار طمأنينة الغافل. ومن ثقب إبرة يعبر الخيطُ الأبيض لليل.
فيجلسان؛ القاتل وظله، القتيل والسكين، لتولد نعرة الأقوياء بعد ضعف، وتتشرذم الأنساب ببطون مبقورة على فراغها.
ولكن: من قال شيئا عن الصبر؟ من أفتى بوأد وجوه الحقيقة وكلّها ذعر، ومن ألبس الأمل نعلَ الشيطان؟
القلوبُ مشاع مشاعر، والرحمة التي خسرتَها بالأمس قد تكون خلاصكَ الأحمر غدا. لست واحدا وإن قلّ امتثالك للأمثال، ولست وحيدا ولو تبدلتْ قمصانك في السر. وهذا العُري غطاءٌ لروحك ليس إلا، لأن الخطوة، في أي اتجاه مشيتَ، ﻻ تزال مكانها.
انظر. ها هو الأولُ يتأخر قبل النهاية. وها هو المسبوق يصير غرة الفرسان.
انظر، أو اطلع من دفاتر ماضيك، منتصبا كقلم، ولتكن البيضاءُ صحراءَ مجدك من جديد. خطّها وخطّ عليها تجاعيدَ نسلك واستعر بوحا، ولا تتزحزح حرفا حتى لو حاصرك الرافسون.
كم تدومُ الهنيهة؟ ربما ساعة في عمر الظنون، أو لحظة حتى ينتهي الوحش من لعق الفريسة. وبعدها، تسترسل النساء في عويل صامت، ويخدش الوجاهة وجهُ أقنعة سافرة، ويسبح الأطفال في بحر لعاب.
عجبا لبشر ينوحون منذ نوح. ليس هذا زمن الآتين، إنه ترفُ التفاخر بالخراب، بالتسيد على البراءة وفضّ طهارتها بالسم. هبّوا لليقظة زحفا من غرفة الجهل، وهذي السيوف اطعنوا غمدها. لن تنفعَ الحيطة السلحفاة. وللمواجهة، عليكم بنهب الحق. تلك هي نهاياتُ التجلي الأخير للوحش؛ هل قلت الوحش؟ ما الفرق؟ كنا نصدق أن الوقتَ معنا، فيما كنا نربيه بوصفه وحشا. لا السيوف تنال منه ولا الغمد ضنينٌ به. ننتهي مثلما يبدأ العاشقون. مثلما يصطفينا الجنون، محشودين في غصّة النائح، وليس في فمنا موالاة. ننتهي، بيننا آية نحن تفسيرها. وهو تفسيرٌ ذو أوجه عديدة، ولكن النوايا عذاب يتقد. خذ مثالا عتمة الضحى في بال السكران. نحن المعاجم، نعني نقيض الدلالات. نعني، كأن الرموز التي صاغها الله فينا تعينا. كلما ننتهي يبدأ هو غفرانه.
ينتابنا أننا ننتهي مثلما يتقد الضوء أو تستجير المرايا، مستباحة بلا أحد. السُكر جناحُ المجدف. لا هو يغفر، ولا قاربَهُ في وصول. نوشك أن نصدق أحلامنا. أن نرى الليل قبل الظلام. أن نغفو وأخطاؤنا جنة العاشقين.
ليس في الصمت غير ذاكرة سوف تنسي، فهدهدْ رؤانا كي ننام. لن يستقيم للنية قلب، فهذا المحل غدا موحشا كمرسمٍ جفّفه زفيرُ التعابير على أقمشة صامتة، بلا لون سوى النباهة وقد تغيّر جِلدُها.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.