«القناة السرية» بين أميركا وروسيا في فيينا... تفاهمات عسكرية وخيبات سياسية

«الشرق الأوسط» تنشر تفاصيل المفاوضات غير العلنية بين الطرفين في السنوات الماضية

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما على هامش «قمة العشرين» في أوساكا اليابانية في يونيو 2019 (غيتي)
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما على هامش «قمة العشرين» في أوساكا اليابانية في يونيو 2019 (غيتي)
TT

«القناة السرية» بين أميركا وروسيا في فيينا... تفاهمات عسكرية وخيبات سياسية

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما على هامش «قمة العشرين» في أوساكا اليابانية في يونيو 2019 (غيتي)
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما على هامش «قمة العشرين» في أوساكا اليابانية في يونيو 2019 (غيتي)

دقائق، أربع أو خمس، فصلت بين إبلاغ الجيش الروسي وشن طائرات أميركية غارات على «مواقع إيرانية» على الحدود السورية - العراقية في 26 فبراير (شباط) الماضي. «المهلة» الأميركية لروسيا كانت سابقاً أطول. وصلت إلى ساعات، قبل قصف «مواقع سوريا» في أبريل (نيسان) 2017 أو 2018.
تتأمل روسيا، بعسكرييها ودبلوماسييها، هذا «العنصر السوري». مؤشر يُضاف إلى «سلة» العقوبات الأميركية بسبب قضية المعارض ألكسي نافالني وانتقادات رسمية تأتي من واشنطن. مرحلة جديدة في العلاقات بين موسكو واشنطن في عهد إدارة الرئيس جو بايدن عبر عنها في خطابه الافتتاحي، بالقول إن أميركا يجب أن «تكون موجودة في مواجهة تقدم الاستبداد، خصوصاً الطموحات المتزايدة للصين ورغبة روسيا في إضعاف ديمقراطيتنا». وزاد: «لقد قلت بوضوح للرئيس (الروسي فلاديمير) بوتين، وبشكل مختلف جداً عن سلفي، إن الزمن الذي كانت تخضع فيه الولايات المتحدة لأفعال روسيا العدوانية (...) قد ولّى».
كان بايدن يقصد، السنوات السابقة التي شملت لقاءات رسمية واسعة بين الأميركيين والروس في مقدمهم الرئيسان دونالد ترمب وبوتين ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظرائه المتعاقبين من هيلاري كلينتون وجون كيري إلى ريكس تيلرسون ومايك بومبيو. وللتركيز على الملف السوري، جرت لقاءات بين القادة العسكريين في «مسار فيينا» و«مفاوضات غير معلنة» بين الطرفين خصوصاً بين نائب وزير الخارجية الروسي ومسؤول الملف السوري السابق سيرغي فرشينين مع المبعوث الأميركي السابق جيمس جيفري في عامي 2019 و2020 وقبل ذلك، إضافة إلى اتصالات «المسار الثاني» بين مسؤولين وعسكريين ودبلوماسيين سابقين وخبراء من الجانبين في السنوات الماضية.
تنشر «الشرق الأوسط» اليوم خلاصة المفاوضات الرسمية وغير الرسمية في السنوات الماضية، مع دخول العلاقات بين الطرفين في نفق صعب منذ تسلم بايدن:
أميركا منذ عهد باراك أوباما، كانت محكومة بـ«عقدة العراق». تدخلت تحت مظلة دولية مثقوبة تخص أسلحة الدمار الشامل. غامرت بالعراق فملكته بمشاكله ومآسيه من دون مفاعيل «الدومينو» و«نشر الديمقراطية» في الشرق الأوسط. لم ينفع الجرح الأميركي، القيادة من الخلف لدى تدخل حلفائها واشنطن الغربيين في ليبيا. هاتان التجربتان، كانتا «عقدتين» لازمتا سلوك أميركا في سوريا. وإذا أضيف إلى ذلك، «هوس» فريق أوباما بالملف النووي لإيران دون بحث تمددها الإقليمي، تردد باراك أوباما باستخدام القوة بعد «مجزرة الغوطتين» في أغسطس (آب) 2013 كما كان تردد بقبول عروض إقامة منطقة آمنة. جاءه عرض الرئيس فلاديمير بوتين بعد «الكيماوي» على طبق من فضة وتوصلت الدولتان إلى اتفاق يتعلق بالبرنامج الكيماوي في سبتمبر (أيلول) 2013.
قبل ذلك، صاغ لافروف وكلنتون وآخرون «بيان جنيف» في يونيو (حزيران) 2012 ونص على تشكيل «هيئة انتقالية تنفيذية» لكنهما اختلفا على تفسيره. وفي مايو (أيار) 2013 اتفق لافروف وكيري على تسريع العملية السياسية لتنفيذ «بيان جنيف» وكلفا المبعوث الأسبق الأخضر الإبراهيمي الذي تسلم منصبه في سبتمبر 2012 خلفاً لكوفي أنان، عقد مؤتمر «جنيف 1» الدولي في مونترو في بداية 2014.
الاتفاق بين لافروف وكيري للتخلص من الترسانة الكيماوية في سبتمبر 2013. تطابق برنامج تنفيذه مع مواعيد دمشق للانتخابات الرئاسية في منتصف 2014. وترجم الاتفاق بالقرار الدولي 2118 الذي شرعن «بيان جنيف». هذا الاتفاق شكل نقطة انعطاف في أكثر من اتجاه، بينها اتساع سيطرة «داعش» في سوريا وتقهقر «الجيش الحر» مع بقاء برنامج سري أميركي بدعم إقليمي لتسلح المعارضة في الأردن وتركيا. الدعم الإيراني لم يسعف تراجعات قوات النظام التي تلقت ضربات في ربيع 2015. خسرت إدلب وريف درعا، واقتصرت مناطق السيطرة على نحو 15 في المائة من سوريا.
في منتصف 2015 استنجدت إيران، التي وضعت كل إمكاناتها لدعم النظام، بالجيش الروسي في وقت كان بوتين ينتظر اللحظة للانقضاض على «فريسته». هذا ما كان. تدخلت سوريا في سبتمبر 2015. وملكت سوريا ومفتاحها ومدت ذراعها في بطن الشرق الأوسط. بعدها باتت روسيا «الوكيل الحصري» للعملية السياسية وتبلور ذلك بإطلاق «عملية فيينا السياسية» بمشاركة جميع الدول المنخرطة بالنزاع، «المجموعة الدولية لدعم سوريا»، وتوصلها إلى مسودة القرار 2254 في نهاية 2015. انتزعت روسيا في هذا القرار «سلسلة تراجعات» و«اختراقات»، بعضها: الانتقال بالمرجعية السياسية من «الهيئة الانتقالية» إلى «الحوكمة» بفضل «صيغة ملتفة» روج لها المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، توسيع أطر تمثيل المعارضة السورية لتشمل منصتي القاهرة وموسكو وعدم الاكتفاء بـ«هيئة التفاوض»، وإدخال عنصر «محاربة الإرهاب»، الذي شكل أساساً لعمليات عسكرية واسعة ضد «معارضة معتدلة»، رغم أنه حدد الفصائل الإرهابية.
وصلت سوريا المتعبة من القصف والنزوح واللجوء إلى منتصف 2016. كان كيري لا يزال مهتماً بالتوصل إلى «تفاهمات» مع لافروف. توصلا إلى اتفاق وقف النار بعد مفاوضات ماراثونية. اتفاق تضمن الكثير من الألغام بينها إيصال المساعدات إلى حلب الشرقية المحاصرة، وتشكيل «خلية التنفيذ المشتركة» بين الجيشين الأميركي والروسي لوقف النار وتبادل الخرائط والمعلومات الاستخبارية لبدء استهداف «فتح الشام» (جبهة النصرة) قبل أن تصبح «هيئة تحرير الشام» وتنسيق الحرب ضد «داعش» وبقاء الطائرات السورية في قواعدها بالتوازي مع إطلاق مفاوضات السلام في جنيف. العنصر الأهم، كان غياب آلية الرقابة. مضى الوقت. استمر القصف والمعارك. وصلنا إلى نهاية 2016. فكان التفاهم الأبرز هو بين موسكو وأنقرة، بالتخلي عن شرق حلب مقابل توغل تركيا في جيوب شمال سوريا وتشكل «درع الفرات».
استعادة دمشق لحلب كان نقطة انعطاف أخرى في الصراع. تقدمت موسكو وأنقرة وطهران. تجلى ذلك، ببدء عملية آستانة في بداية 2017 بين «الضامنين» الثلاثة التي شكلت أربع مناطق «خفض تصعيد»، هي: غوطة دمشق، وريف حمص، وإدلب وجوارها، ودرعا وجوارها. هذا المسار وفر مناورة لاستعادة مساحات واسعة من مناطق معارضة كانت تئن تحت الحصار والقصف. مسار عسكري، ألبسته روسيا لبوساً سياسياً وإنسانياً إلى حد طغى على المنافس اللدود المتمثل في مسار جنيف، ذي الرعاية الأممية والكعب السياسي العالي، أعلى من سقف دمشق وموسكو.
- منع الصدام
اهتمام أميركا كان منصباً على منطقتين: شرق الفرات ضمن عمليات التحالف لمحاربة «داعش» وجنوب غربي سوريا القريبة من إسرائيل والأردن. اجترعت واشنطن لكل «داء» علاجاً. إضافة إلى اللقاءات العلنية بين وزيري الخارجية ثنائياً أو جماعياً خلال السنوات الماضية، كانت تعقد اجتماعات غير معلنة بين الطرفين أغلبها في فيينا (البعض في جنيف ونيويورك). هذه اللقاءات، كانت المصدر الأساسي للتفاهمات الكبرى التي حصلت بين الطرفين في الملف السوري. منها ولد التفاهم العسكري لـ«منع الصدام» في منتصف 2017 واعتبار نهر الفرات هو خط التماس بين الطرفين، بحيث جرى تأسيس خط عسكري لتبادل المعلومات وتزويد المعطيات لمنع أي أشكال بين طائرات البلدين خلال نشاطها في سوريا: شرق الفرات للتحالف الدولي بقيادة أميركا وغرب النهر لروسيا وحلفائها. هذا حصل بعد تجاوز عقبة قانونية في أميركا تحظر التعاون مع الجيش الروسي وريف «الجيش الأحمر» السوفياتي.
في يوليو (تموز) من عام 2017. أعلن ترمب وبوتين عن اتفاق وقف إطلاق النار بين القوات الحكومية السورية وقوى المعارضة. وكان ترمب - قبل إبرام ذلك الاتفاق - أوقف تماماً جهود وكالة الاستخبارات الأميركية (سي أي إيه) في تمويل قوى المعارضة السورية، مما يعد موافقة ضمنية من جانبه على السماح للجانب الروسي بالحفاظ على اليد العليا في الشأن السوري.
في مايو (أيار) 2017 قصفت القوات الأميركية في قاعدة التنف «فصائل إيرانية» وفي فبراير (شباط) 2018 قصفت أميركا شرق سوريا «مرتزقة فاغنر» الروسية. كانت المعلومات العسكرية يجري تبادلهما لمنع تصاعد الأمور عبر بنود «منع الصدام». كما هو الحال لدى الغارة الأميركية الأخيرة على «فصائل إيرانية» قرب البوكمال في 26 الشهر الماضي. غالباً، ما كان يتم «تبادل الرسائل» عبر القصف والتوتر الميداني خلال جولات التفاوض في فيينا.
أيضاً، أن «اتفاق الجنوب» في منتصف 2018. كان وليد «مسار فيينا» بين الطرفين ونص على عودة قوات الحكومة إلى ريف درعا والقنيطرة مقابل إبعاد ميليشيات إيران عن الجنوب واستئناف عمل «القوات الدولية لفك الاشتباك» (أندوف) في الجولان. وفي سبتمبر 2018، كشف الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية اللواء إيغور كوناشينكوف تفاصيل التفاهمات. وقال إن تم «انسحاب جميع القوات الموالية لإيران وأسلحتها الثقيلة من مرتفعات الجولان إلى مسافة آمنة بالنسبة لإسرائيل وهي 140 كيلومتراً شرق سوريا». وأضاف أنه انسحب من هذه المنطقة 1050 عسكرياً و24 راجمة صواريخ ومنظومة صاروخية تكتيكية تعبوية، و145 وحدة سلاح. كما سيرت «أندوف» دورية في 2 أغسطس لأول منذ عام 2012 برفقة الضباط الروس الذين وصلوا إلى خط وقف إطلاق النار المتفق عليه منذ عام 1974. في دلالة إلى عودة الترتيبات إلى قبل عام 2011.
في «مسار فيينا»، الذي شارك فيه مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيد والمسؤول الأميركي في التحالف ضد «داعش» بريت ماغورك والمبعوث الأميركي السابق لسوريا مايكل راتني مع نظرائهم الروس، وافق الجانب الأميركي على «تفكيك» قاعدة التنف ضمن عناصر «اتفاق الجنوب». لكن سرعان ما جرى التراجع عن هذا البند بسبب ضغوطات إسرائيلية. عليه، حتى عندما كان الرئيس ترمب يتحدث عن الانسحاب من شرق سوريا في 2018 و2019. كان مفهوماً أن «الانسحاب لا يشمل قاعدة التنف، التي ستبقى».
وبعد قرار ترمب سحب قواته من حدود سوريا مع تركيا ما أعطى الضوء الأخضر لتوغل تركي بين تل أبيض ورأس العين في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. جرت تغييرات كبيرة على انتشار القوات في شرق الفرات. صارت قوات الروس والأتراك والحكومة السورية موجودة هناك. جرت أكثر من ملاحقة عسكرية بين دبابات وآليات الطرفين. هذا الأمر استدعى الكثير من التفاهمات العسكرية بين الأطراف، إضافة إلى اتصالات بين القادة. كما استدعى أن تنشر أميركا معدات جديدة بينها آليات «برادلي» لحماية النفط وتجنب «التحرشات» الروسية. وفي النصف الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2019. عقد اجتماع بين رئيسي الأركان الروسي فاليري غيراسيموف والأميركي مارك ميلي في مدينة بيرن السويسرية لـ«منع وقوع اشتباكات بين بلديهما خلال تنفيذ العمليات العسكرية في سوريا».
- «المستنقع السوري»
بعد تسلم جيفري ونائبه جويل ريبرن الملف السوري بشقية السياسي والخاص بالتحالف ضد «داعش» (ماغورك كان المبعوث الخاص التحالف حتى 2018)، حصل تغيير في النهج الأميركي مع سوريا. كان هناك استئناف للمفاوضات الرسمية غير المعلنة في فيينا واستكمال لمسار خبره ماغورك، لكن أضيفت إليه بعض العناصر من ضمنها الحديث في ملفات سياسية وإنسانية ومحاولة طرح مقاربة «خطوة - خطوة» أو «كثير مقابل كثير، وقليل مقابل كثير». في إحدى الجلسات بين جيفري وفرشينين التي عقدت في فيينا في صيف 2019. قدم الأميركيون لأول مرة، أوراقاً ومقترحات خطية لبعض الخطوات المتبادلة التفصيلية، تتعلق بتجميد فرض عقوبات وتقديم مساعدات لمناطق الحكومة وإصدار بيان وتمويل نزع الألغام في سوريا وإقناع الأردن بتزويد جنوب سوريا بالكهرباء، مقابل طلبات مثل تبني قرار دولي للمساعدات الإنسانية عبر الحدود وتفعيل العملية السياسية وتشكيل اللجنة الدستورية وبدء عملها والاتفاق على معاير سلوكها (هذا حصل في نهاية أكتوبر 2019)، إلى ملفات جيوسياسية مثل تطبيق «تفاهم الجنوب» الذي يعود إلى منتصف 2018 بما يضمن إبعاد إيران عن «خط فك الاشتباك» في الجولان وحدود الأردن لمسافة 85 كلم والتزام اتفاق نزع السلاح الكيماوي الموقع بين لافروف وكيري في سبتمبر 2013. وكانت الورقة الأميركية تمهيداً لقمة بوتين - ترمب على هامش اجتماع «قمة العشرين» في اليابان في يونيو 2019.
حصلت خيبة متبادلة. توقف «مسار فيينا» في نهاية 2019 وعلى خلفية تدهور الوضع الاقتصادي وخروقات هدنة إدلب في بداية 2020. أبدى الروس اهتماماً باستئناف هذا المسار، وعقدت جولتان بين جيفري وفرشينين في فيينا في يوليو (تموز) وفي جنيف في أغسطس العام الماضي. (لم يشارك فرشينين في الجولة الثانية لأنه كان مصاباً بــ«كورونا» ثم بات الملف السوري في عهدة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف). الاهتمام الروسي، كان مدفوعا أيضاً بـ«خيبة» موسكو من نتائج زيارة لافروف إلى واشنطن في نهاية 2019. التي لم تفلح في تجميد «قانون قيصر» ومسار «العزلة القصوى» من واشنطن لدمشق.
في جولة يوليو، كان واضحاً أن الوفد الروسي كان مقتنعاً بعمق الأزمة الاقتصادية و«تحليل الوضع السياسي»، لكن أيضاً كان منزعجاً من بدء تنفيذ «قانون قيصر» في يونيو (حزيران)، إضافة إلى عرقلة واشنطن لمحاولات موسكو إقناع دول عربية وأوروبية عدة بـ«التطبيع» مع دمشق واستمرارها فرض العقوبات. واختلف الوفدان في تقييم نتائج أعمال «الدستورية».
بالنسبة إلى الوفد الروسي، كانت هدنة إدلب صامدة بفضل التعاون في تركيا في «مسار آستانة». ليست هناك أي ضرورة لعملية عسكرية شاملة من دمشق في إدلب. هناك تعويل من موسكو على التعاون مع أنقرة. وهناك تصعيد باللهجة من أن الوجود الأخير «غير شرعي» وتحذير من «الانفصاليين» الأكراد وقلق على وحدة سوريا.
سياسياً، تبلغ الأميركيون في أغسطس الماضي، رفض موسكو لمقاربة «خطوة - خطوة»، معتبرين أن اللجنة الدستورية السورية يمكن أن تواصل العمل لسنوات، وأنه لا أجندة زمنية لوصولها إلى نتائج. وقيل في صيف 2020، إن الانتخابات الرئاسية السورية منتصف عام 2021. هي فرصة، بالنسبة للروس، لعودة دول عربية وغربية كي تعترف بنتائج الانتخابات و«شرعية الأسد». هذه الانتخابات ستحصل بموجب الدستور الحالي لعام 2012. ولا علاقة بينها وبين أعمال اللجنة الدستورية في جنيف وتنفيذ القرار 2254.
في المقابل، واصلت أميركا أجندتها: تعزيز الوجود العسكري شرق الفرات لـ«ردع» روسيا وإيران، مبادرات لـ«ترتيب البيت الداخلي» للأكراد وبقاء التحالف الدولي لقتال «داعش»، إصدار قوائم من العقوبات الجديدة بموجب «قانون قيصر» لزيادة العزلة على دمشق والأزمة. منع التطبيع السياسي مع دمشق ومنع المساهمة بإعمار سوريا. استمرار الغارات الإسرائيلية. الرهان وقتذاك، أن هذه «الأدوات» ستجلب روسيا. في ذهن الفريق الأميركي، وخصوصاً جيفري، هناك إمكانية لتكرار تجربة الغرق الإيراني في جنوب العراق خلال الحرب بين 1980 و1988 وغرق الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، إذ إن الأميركيين بـ«قليل من الجنود والتكلفة المالية والبشرية، قادرون على تحقيق نتائج استراتيجية ضد إيران وروسيا وفي مجال العملية السياسية السورية». أي، أن روسيا أمام خيارين: «ملكية بلد مدمر ومنبوذ ومحاصر ومعزول أو التوصل إلى اتفاق مع أميركا يتضمن تنازلات جيوسياسية وحلاً للأزمة الداخلية».
لم يبق وقت لعقد جلسات من «مسار فيينا» نهاية العام الماضي قبل الانتخابات. خرج ترمب وفريقه. جاء بايدن وشكل جزءاً من فريقه السوري في وقت تجري مراجعة للسياسة السورية وتصعيد ضد روسيا.
إلى الآن، سوريا ليست أولوية للإدارة الجديدة التي لم تعين بعد مبعوثاً لسوريا كما كان الأمر سابقاً. واضح أنها تركز على «داعش» وملاحقة خلاياه. أيضاً، أن بعض العاملين في إدارة أوباما عادوا إلى إدارة بايدن. بعضهم حمل «خيبات» أوباما و«الدروس المستفادة» من السنوات السابقة. بعضهم آخر يتذكر «لسعات» الجانب الروسي في أميركا وسوريا والعالم.
ماغورك، كان مسؤولاً في إدارة أوباما وعاد لتسلم منصب رئيسي في إدارة بايدن ويلعب دوراً محورياً في مراجعة السياسة عن سوريا، ما يطرح سؤالاً كبيراً عن السياسة المرتقبة بين التركيز فقط على المصالح الأميركية خصوصاً محاربة «داعش» والهجرة والسلاح الكيماوي وهموم إسرائيل ومحاولات لخفض دور إيران والاكتفاء بتقديم المساعدات الإنسانية وبين التركيز على المسار السياسي وتنفيذ 2254 وطرح موضوع المساءلة ومعالجة «جذور الأزمة السورية».
الشيء الوحيد الواضح، أن «الفريق السوري الجديد» في إدارة بايدن عندما ترك هذا الملف في 2018، كان الحديث في دمشق وموسكو عن «انتصار عسكري كامل» واستعادة السيطرة على كامل البلاد و«تطبيع» سياسي وتدفق مالي من دول عربية وأوروبية وإعادة أعمار. هم عادوا إلى بلاد فيها ثلاث «مناطق نفوذ» وخمسة جيوش، أميركا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، وتعاني من انهيار اقتصادي وتحت عقوبات أوروبية وأميركية وبنود «قانون قيصر».
- عروض أميركية... و«غموض» روسي
> عقدت بين روسيا وأميركا في فيينا الكثير من جلسات التفاوض غير المعلنة عامي 2019 و2020، شارك فيها المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري ونائب وزير الخارجية سيرغي فرشينين، ولعل أبرز ما يميز هذه الجلسات التي عقدت آخر جلستين منها في فيينا في يوليو (تموز) وجنيف في أغسطس 2020 (غاب فرشينين عن آخرها بسبب فيروس «كورونا»).
وبعد قرار الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من قسم من شمال شرقي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول)، ما فسر الرئيس رجب طيب إردوغان أنه «ضوء أخضر» للتوغل بين تل أبيض ورأس العين، جرى تغيير كبير في خريطة انتشار القوات شرق الفرات، خصوصاً مع دخول قوات روسيا وتركيا وسوريا. هذا استدعى تفاهمات ميدانية بين الفرقاء بعد خفض حصة «قوات سوريا الديمقراطية» حلفاء أميركا شرق الفرات. عقد لقاء غير علني في فيينا في نهاية العام بين الطرفين، مهد لاجتماع بين رئيسي الأركان الروسي فاليري غيراسيموف والأميركي مارك ميلي في مدينة بيرن السويسرية في النصف الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2019. لـ«منع وقوع اشتباكات بين بلديهما خلال تنفيذ العمليات العسكرية في سوريا».
هذه المفاوضات، منذ إطلاقها قبل سنوات بمشاركة عسكريين وسياسيين ودبلوماسيين وأمنيين، تتناول أموراً عملياتية وسياسية وعسكرية. غالباً ما كان الجانب الأميركي يقدم المقترحات والأفكار والأوراق، كانت أبرزها ورقة قدمها جيفري في ربيع 2019. وتضمنت خريطة واضحة لمطالب أميركا و«إغراءاتها» لموسكو تمهيداً لقمة الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في «قمة العشرين» في اليابان في يونيو (حزيران) 2019.
ماذا تريد أميركا من روسيا؟ هي مهتمة بإخراج إيران وجميع القوات التي دخلت سوريا بعد 2011 عدا الروسية، ونزع أسلحة الدمار الشامل وخصوصاً «الكيماوي» ومحاربة «داعش» ودفع العملية السياسية وفق القرار 2254، وتحريك عملية اللجنة الدستورية، وقف نار شامل على مستوى سوريا، توفير إجراءات لعودة حرة وكريمة وآمنة للاجئين، ووقف الاعتقالات وإطلاق معتقلين.
ماذا تقدم في المقابل؟ إعفاءات من العقوبات، التوقف عن فرض عقوبات، رفع قيودها على التطبيع مع دمشق، أموال لإعادة الأعمار، تزويد سوريا بالكهرباء من الأردن، تقديم مساعدات لمناطق الحكومة السورية، تمويل عمليات نزع الألغام. أيضاً، تقدم إمكانية لتوسيع التعاون بين الجيشين رغم الشكوك الكبيرة والقيود القانونية في أميركا لأي تعاون مع وريثة الاتحاد السوفياتي.
المثير، أن الأفكار كانت تفصيلية بحيث تتضمن خطوات تنفيذية متبادلة وجداول زمنية. الرد الروسي، كان الاكتفاء بإعطاء إشارات غامضة وكلمات ملتبسة... و«وعود خلبية».
- «مناطق النفوذ»... نموذج روسي لسوريا و«العالم الجديد»
> في موازاة المفاوضات الرسمية بين روسيا وأميركا، كانت تعقد جلسات «المسار الثاني» بين الجانبين بمشاركة شخصيات قريبة من الكرملين ووزارتي الدفاع والخارجية ونظرائهم الأميركيين. بين هذه المسارات مبادرة من «مركز جنيف للدراسات الأمنية»، حيث أعلنت الباحثة الزائرة فيه منى يعقوبيان قبل أيام خلاصة عملها في مفاوضات بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) 2018. وقالت: «في ظل الافتقار إلى خيارات أفضل، يبدو أن روسيا تتبع نموذج (مناطق النفوذ) في نهاية لعبتها في سوريا، وهو النموذج الذي يتطلب تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ إقليمية تحت وصاية الرعاة الخارجيين المتنافسين، حيث ستسيطر موسكو على المنطقة الغربية وتركيا في الشمال، والولايات المتحدة في الشرق، وهو ما سيتم على مضض بالنسبة لروسيا». وزادت: «نظراً للطبيعة الأكثر سرية لنفوذها في البلاد، فإن إيران لن تمارس سيطرتها على مجال نفوذ إقليمي محدد، ولكن بدلاً من ذلك، فإن طهران ووكلاءها سيظهرون نفوذهم في مناطق استراتيجية تحت سيطرة نظام الرئيس السوري بشار الأسد». وقالت: «تبني هذا النموذج بمثابة ضرورة وليس اختياراً، حيث تؤكد الظروف الداخلية الروسية، لا سيما الاقتصاد المتعثر، بجانب الانتقاد الدولي الموجه ضد نظام الأسد، وتعقيد الصراع السوري، والانهيار الكارثي لاقتصاد دمشق، على الصعوبات الصارخة التي تواجه استراتيجية نهاية اللعبة الروسية».
بالنسبة إلى منى يعقوبيان، فإن «مناطق النفوذ» في سوريا هو «بمثابة نموذج لنهج موسكو الأوسع في الشرق الأوسط، وربما أبعد من ذلك أيضاً، فرغم أنه من غير المرجح أن تتكرر تفاصيل التدخل الروسي في سوريا في أي مكان آخر، فإن عناصر استراتيجية نهاية اللعبة قد تشكل نموذجاً لسياسة موسكو الخارجية في عالم القرن الحادي والعشرين الذي يزداد تعقيداً»، إذ يعتبر بعض المحللين الروس سوريا على أنها «أول نجاح لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي» كما ينظرون إليها باعتبارها حالة اختبار لعالم «ما بعد الغرب» متعدد الأقطاب الذي يتميز بتآكل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، كما تطمح استراتيجية «مجالات النفوذ» الروسية إلى تنفيذ رؤية «ما بعد الغرب» والتي تلعب فيها موسكو الدور المهيمن، وذلك جنباً إلى جنب مع القوى الإقليمية الأخرى (على سبيل المثال، تركيا وإيران)، وهي الرؤية التي يتضاءل فيها نفوذ الولايات المتحدة بشكل كبير.
لماذا إذن تتحدث روسيا عن «سيادة سوريا على كافة أراضيها»؟ تقول منى يعقوبيان: «كانت هذه ذريعة التدخل في سوريا، وهي أيضاً لإرضاء خطاب النظام السوري الذي يتحدث عن استعادة كل الأراضي».
من جهتها، كانت رندا سليم منسقة مشاركة للحوار الروسي - الأميركي الذي نظمه «معهد الشرق الأوسط» و«مركز الشرق الأوسط وجنوب آسيا» في الجامعة العسكرية لشؤون الدفاع منذ 2016 بمعدل جلستين كل سنة كانت آخرها في بداية العام الحالي، وبمشاركة نحو سبعة خبراء ومسؤولين سابقين من الطرفين.
وهي ترى أن الهدف من «المسار الثاني» مواكبة المفاوضات الرسمية، حيث كان التركيز على مناطق خفض التصعيد والوصول إلى «ترتيبات أمنية» في شمال شرقي سوريا وشؤون مكافحة الإرهاب واقتراح «آليات لتكريس التعاون» بين الطرفين، مع مناقشات حول تطوير نموذج اللامركزية في سوريا. وترى رندا سليم أن الروس مهتمون باستمرار «الحوارات الخلفية»، لكنهم غير معنيين بـ«اختبار ممرات جديدة للتعاون مع بايدن حالياً، خصوصاً في المجال السياسي وقبل الانتخابات الرئاسية السورية» نهاية مايو (أيار) المقبل.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».