وقف عبد الحميد دبيبة، رئيس حكومة «الوحدة الوطنية» الليبية المكلف، في أعلى منصة خصصت لمؤتمره الصحافي الأول، بفندق «كورنثيا باب أفريقيا» الشهير في العاصمة الليبية طرابلس، لإطلاع مواطنيه على جانب من ترتيبات المرحلة الراهنة، والتعهد بطي صفحة الماضي. في تلك اللحظات، حرص دبيبة أيضاً على تأكيد علاقته بتركيا، ما بدا لكثيرين - وخصوصاً في شرق ليبيا - أن الرجل، الذي لا يزال يتلمس خطاه بمواجهة عثرات عديدة، يسير على درب سلفه فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي لـ«حكومة الوفاق الوطني».
دبيبة (61 سنة) المعول عليه في إزالة ضغائن الحرب من طرابلس، لم يكن منغمساً في العمل السياسي بقدر ما كان منشغلاً بالاقتصاد وعالم المال والأعمال، لدرجة قول البعض إنه كان «قيد التصنيع» طوال السنوات العشر الماضية، قبل أن تحين اللحظة لتدشينه. ومع ذلك، يرجى منه مستقبلاً - إذا ما اجتاز اتهامات «استخدامه للمال السياسي»، ونال الثقة من البرلمان - أن يعمل مع فريقه خلال الأشهر المتبقية من العام الجاري على إنهاء الانقسام، وتجهيز ليبيا للانتخابات الرئاسية والنيابية يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، قبل أن يترك منصبه للسلطة الجديدة. وهذه هي المهمة التي ينظر إليها بـ«الأمر المستحيل» لأسباب عديدة منها جملة العثرات التي واجهها فقط أثناء تشكيل حكومته بعد مضي شهر من تكليفه؛ وما تردد عن تعرضه «للابتزاز» من برلمانيين وشخصيات معتبرة شاركت في «الملتقى الليبي» بجنيف، كي يوزر أعوانهم وأقربائهم، فضلاً عن تمسك كل فصيل سياسي بضرورة التمثيل في هذه الحكومة، وإلا فسيعترض عليها ولن يعترف بها!
في مصراتة، ثالث أكبر مدن ليبيا، ولد عبد الحميد محمد دبيبة عام 1959 لأسرة يعمل غالبية أفرادها بالتجارة والمقاولات. وتلقى تعليمه في مدارس المدينة، قبل أن يلتحق بجامعة تورونتو الكندية، وهناك درس الهندسة المعمارية وتقنيات التخطيط والبناء إلى أن حاز شهادة الماجستير في هذا التخصص.
وإلى مصراتة، الواقعة على بعد (200 كلم من العاصمة طرابلس) عاد دبيبة من كندا متحصناً بالعلم ليبدأ حياته العملية والانخراط في عالم التشييد والمقاولات. وفي هذا المجال عمل مع ابن عمه وصهره الملياردير علي دبيبة، الذي يرى سياسيون أنه لعب دوراً في وصول عبد الحميد إلى سدة الحكومة الجديدة بعد انتخابه من قبل المشاركين بـ«الملتقى السياسي» المنعقد في جنيف يوم 5 فبراير (شباط) الماضي بحصوله على 39 صوتاً. وهناك، في المدينة الساحلية، التي لعبت دوراً كبيراً في إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، تزوج دبيبة وأنجب ستة من الأبناء. ومن هذه المدينة باشر بناء إمبراطوريته الاقتصادية بهدوء وعلى مهل، بعيداً عن متاعب السياسة، التي لم يكن مسموحاً بالاشتغال بها قبل عام 2011. وحقاً، ما كان مكترثاً بما قد تسفر عنه الأيام، فالمال يسبق «الجاه والسلطان»، ولم لا وقد سبقه كثيرون تولوا مناصب سياسية واقتصادية مهمة في الحكومات الليبية المتعاقبة منذ استقلال البلاد في عام 1951.
- عهد معمر القذافي
لم يكن دبيبة بعيداً عن نظام القذافي، بل كان مقرباً منه، لدرجة أن البعض وصفه بأنه «عابر للأنظمة». ويرصد مقربون من عائلته حصولها على نصيب وافر من المشاريع الصناعية والاقتصادية التي شهدتها مصراتة - آنذاك - على خلفية الفورة النفطية وارتفاع أسعار البترول.
وبالتالي، ارتقى دبيبة، الذي كان يحلو لمقربين منه مناداته بـ«المهندس» في عدد المناصب الرسمية إبان هذه الفترة، من بينها تولي إدارة الشركة الليبية للتنمية والاستثمار، وهي أكبر الشركات الحكومية بالبلاد. كذلك، أسند إليه الإشراف على بعض مشاريع البناء التي أمر بها القذافي حينذاك، أهمها مشروع بناء ضخم في سرت، مسقط رأس الرئيس السابق، بالإضافة للإشراف على بناء المطارات والملاعب وتمديد شبكات المياه، وبناء مجمع إداري في منطقة الجفرة (وسط ليبيا)، وذلك ضمن المشاريع التابعة لجهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية، الذي ترأسه علي دبيبة بين عامي 1989 و2011.
ومع التنامي السريع لثروة آل دبيبة، تناقلت وسائل إعلام محلية تحقيقاً نشرته صحيفة «غلوب آند ميل» الكندية عام 2018 عن حجم ثروة علي دبيبة، رئيس جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية سابقاً في ليبيا؟ وتساءلت عن مصادرها. وللعلم، علي دبيبة، هو واحد من بين 75 مشاركاً في «ملتقى الحوار السياسي» الذي أطلقته الأمم المتحدة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، من تونس، وانتخب سلطة انتقالية جديدة من أربعة مسؤولين (رئيس وزراء ومجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء).
- تيار «ليبيا المستقبل»
ومثل كثيرين من الليبيين جمع عبد الحميد، رئيس الحكومة المكلف، ثروة من البناء والمقاولات والإشراف على المشاريع الكبيرة. ثم اتجه بعد إسقاط القذافي إلى العمل في السياسة، إلا أنه لم ينشط بالقدر الكافي كأقرانه الذين باتوا نجوماً في الحياة العامة، ما يعني أن الاقتصاد والنشاط التجاري كانا غالبين على أولوياته.
ولكن، في أعقاب «ثورة 17 فبراير (شباط)» عام 2011، أخذ عبد الحميد دبيبة يشق طريقه إلى عالم السياسة تدريجياً من خلال تأسيس تيار «ليبيا المستقبل»، الذي جمع فئات من الشباب والمهمومين آنذاك بنهضة ليبيا، وإن لم يترك بصمة حقيقية في الشارع، أو يتمكن من إحداث تغيير مقارنة بحركات مماثلة. ولذا ظل حضوره متواضعاً طوال السنوات العشر الماضية.
تيار «ليبيا المستقبل» هذا هو الواجهة التي تحرك من خلالها دبيبة منذ إعلانه اعتزامه الترشح لرئاسة الحكومة، وشارك بشكل رسمي في لقاءات دولية حول ليبيا، منذ انطلاقه، اعتمد على الاتصال بالأطراف كافة. وفي الوقت الذي بدا «التيار» داعماً المطالبة بالاستفتاء على الدستور - وهو الذي يمثل أحد أهم مطالب تيار الإسلام السياسي في غرب ليبيا -، نجده يتحالف مع «حراك شباب من مصراتة» القريب من القيادة العامة لـ«الجيش الوطني الليبي»، ما ينم بحسب متابعين، عن «توازن في المواقف وارتباط بالجميع».
واللافت أن مجلس النواب في مدينة طبرق (بأقصى الشرق الليبي) أصدر في يونيو (حزيران) عام 2017، قائمة ضمت أسماء 75 شخصاً وجهت إليهم تهم دعم الإرهاب، وتمويل الكتائب المسلحة، وتصدر يومذاك عبد الحميد دبيبة وابن عمه علي، القائمة التي احتوت أسماء مثل صلاح بادي قائد ما يسمى بـ«لواء الصمود» وزعيم عملية «فجر ليبيا»، بجانب بشير الفقيه، الموصوف بـالزعيم الروحي لتنظيم «القاعدة» و«الجماعة المقاتلة» في ليبيا.
- بين أنقرة والقاهرة
من ناحية ثانية، منذ اختيار دبيبة لترؤس الحكومة الجديدة، والبعض يحسبه على نظام القذافي تارة، وعلى الإسلاميين تارة أخرى. بيد أن الرجل الذي زار القاهرة والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أظهر حرصاً لافتاً، خلال مؤتمر فندق «كورنثيا باب أفريقيا» على رسم شكل علاقة حكومته مع أنقرة مستقبلاً، وتمسكه بالاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي أبرمتها «حكومة الوفاق الوطني» مع الجانب التركي، وتتعلق بترسيم الحدود البحرية، والتعاون العسكري والأمني.
رئيس الحكومة المكلف وصف تركيا بـ«الصديقة والحليفة»، ورأى أنها «بوابة الليبيين» بعد تونس. وهو ما أثار دهشة وقلق «المعسكر الشرقي» الممثل ببعض أعضاء مجلس النواب في طبرق، من الموالين للمشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي». ويرى هؤلاء أن أنقرة «لا تزال تشعل فتيل الحرب في بلادهم من خلال الدفع بشحنات السلاح»، فضلاً عن «دفعها بآلاف المقاتلين و(المرتزقة) الموجودين على محاور القتال بسرت والجفرة»... وبالتالي، أن دبيبة يسير على خطى «حكومة الوفاق».
غير أن دبيبة، ببحة صوته المعهودة، قال إن حكومته ستعمل على «طي صفحة الماضي وتأسيس دولة ليبيا المستقبل». وأردف «سيكون السلام شعارنا والمشاركة أسلوبنا، وازدهار المواطن وتحسين جودة الخدمات هدفنا، وتحقيق التداول السلمي على السلطة من خلال دستور وانتخابات وجهتنا»... وفي الاعتبار «الأبعاد التي عاشتها البلاد في الفترة الأخيرة وخروجها مؤخراً من حالة نزاع حاد وشعور الكثير من أبناء الأمة الليبية بالتهميش وغياب التمثيل، وكذلك إشكالية الشرعية السياسية والقانونية وانقسام المؤسسات».
وفور انتهاء دبيبة من مؤتمره الصحافي، أخذ متابعون يقرأون «لغة جسد»، وانقسموا بين من يراه بحاجة إلى مران في الخطابة يقيه اللعثمة، وبين مدافعين عنه على قاعدة «انصر رئيس حكومتك».
- حديث طبرق
في سياق آخر، عبر جولات بين أنحاء البلاد، ذهب دبيبة، ابن مدينة مصراتة، (غرباً) التي لعبت قواتها دوراً رئيسياً في صد هجوم قوات «الجيش الوطني» على العاصمة، إلى طبرق (شرقاً)، وقال لهم: «جئت إلى مدينة السلام، وفي قلبي السلام، وفي يدي السلام، ونريد السلام لجميع مناطق الوطن، وكفانا حروباً واقتتالاً... نريد بناء مشروعات لجميع الأجيال».
وحقاً، ألهب كلام دبيبة باللهجة المحلية، وهو يرتدي زياً وطنياً، مشاعر مشايخ وحكماء طبرق، لا سيما بتأكيده على ضرورة احترام السيادة والكرامة الليبية من جميع دول العالم. وقبل أن يشدد على أهمية طي صفحة الماضي، ذكرهم بموت الشباب على جبهات القتال «أولادنا ماتوا في الحروب، نريد أن ننظر إلى المستقبل ونبني المشاريع للجميع». ولكن، رغم الروح الحماسية التي أبداها دبيبة في شرق ليبيا، فإنه غادر المنطقة عائداً إلى العاصمة من دون لقاء حفتر، وهو ما عده البعض أمراً قد يعقد مهمته في بناء توافق على تشكيل الحكومة، بالنظر إلى أن حفتر لا يزال يمتلك جانباً من أوراق اللعبة السياسية.
كذلك، مع أن دبيبة نوه إلى أن زيارته إلى طبرق هدفت لقاء عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، فثمة من أرجع إحجامه عن زيارة حفتر في مقر القيادة العامة بمدينة الرجمة، إلى الانتقادات اللاذعة التي طالت رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي، عندما زار حفتر!
- مزاعم «الرشوة»
أمام تزايد الحديث عن شبهات بتوزيع «رشاوى» على عدد من المشاركين بـ«الملتقى السياسي» في جولته الأخير بجنيف - لاختيار شخصيات بعينها لمناصب بالسلطات الجديدة - دافع دبيبة عن نفسه، فقال إنه يعول على الليبيين واستيعابهم «لمدى التحديات والعراقيل الموضوعة أمام عملية توحيد المؤسسات وتحقيق المصالحة». وكانت هذه الاتهامات قد تصاعدت عقب تسريب حول تقرير رفعه خبراء بالأمم المتحدة إلى مجلس الأمن يزعم «شراء أصوات ثلاثة مشاركين على الأقل في الملتقى السياسي». ويتناول التقرير أنه خلال مباحثات تونس عرض اثنان من المشاركين «رشاوى تتراوح بين 150 و200 ألف دولار أميركي على ثلاثة أعضاء على الأقل في الملتقى إذا التزموا بالتصويت لدبيبة كرئيس للوزراء».
كما أفاد التقرير، الذي سيصدر رسمياً منتصف الشهر الجاري، أن أحد المشاركين «انفجر غضباً في بهو فندق فورسيزونز بتونس عند سماعه أن بعض زملائه ربما حصلوا على ما يصل إلى 500 ألف دولار مقابل منح أصواتهم إلى دبيبة، بينما حصل هو فقط على 200 ألف دولار»، لكن الأخير عدها «تشويشاً وعرقلة». وأكد من ثم على «نزاهة العملية التي جرى فيها اختيار السلطة الجديدة ممثلة في المجلس الرئاسي، ورئاسة حكومة (الوحدة الوطنية)». ومضى يقول «أطمئن كافة أبناء الأمة الليبية بأن إنجاز المرحلة الأولى من خارطة الطريق من خلال عملية منح الثقة للحكومة أصبحت قريبة، وأن مرحلة العيش في ظل انقسام سياسي ومؤسساتي وغياب الخدمات وسوء الأوضاع الاقتصادية قد قاربت على الانتهاء».
ولكن، لم يمنع دفاع دبيبة عن نفسه مخاوف البعض من وقوع ما سموه بـ«تزوج المال والسياسة»، وانسحاب ذلك مستقبلاً إلى منطقة «تضارب المصالح، وتقاطع العلاقات داخلياً خارجياً».