«سندباد عصري»... نواة أدب الرحلة العربي

مغامرات طبيب شاب في المحيط الهندي قبل 83 عاماً

«سندباد عصري»... نواة أدب الرحلة العربي
TT

«سندباد عصري»... نواة أدب الرحلة العربي

«سندباد عصري»... نواة أدب الرحلة العربي

لم تقتصر إسهامات الدكتور حسين فوزي (1900 – 1988) على بحوثه ودراساته الرائدة في علوم البيولوجي والبحار والطب، فضلاً عن الموسيقى والتاريخ، إنما امتدت كذلك إلى أدب الرحلات عبر كتابه الأشهر «سندباد عصري» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1938 ليضع النواة الأولى لهذا الأدب في السردية العربية الحديثة، ويستحق عن جدارة لقبه الأثير «سندباد العلوم والفنون».
الكتاب صدرت منه أخيراً طبعة جديدة في القاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «ذاكرة الكتابة»، ويضم مغامراته كأديب وطبيب شاب في المحيط الهندي، عبر رحلة بحثية على سفينة صغيرة مع مجموعة من الشباب أعضاء بعثات أجنبية استعاروا سفينة مصرية بضباطها وبحارتها واشتركوا مع بعض الاختصاصيين المصريين في دراسة مستفيضة لمياه البحر الأحمر والمحيط الهندي، وما تكنه من أسرار حية وجامدة. وكان من نصيب الدكتور حسين أن يركب هذه السفينة طوال رحلتها الهندية، وأن يشترك في بحوثها العلمية ويشرف على صحة ركابها. وهو يصف كتابه بأنه مستوحى من تلك الرحلة دون أن يكون له علاقة بالقصة الرسمية، وإنما هو صفحات ضمنها صوراً وخواطر أوحت بها جولاته في أنحاء المحيط الهندي، وحياته على ظهر السفينة «دون ادعاء أو حذلقة فنية».
كما يصف العمل بأنه بسيط العبارة يسرد الأحداث، ويصف الوقائع ليس تبعاً لقيمتها، بل تبعاً لما أثارته في نفسه من إحساس وفي ذهنه من تفكير.

مع التماسيح
من الوقائع والمشاهدات العجيبة التي يوردها الكتاب، ما حدث على نحو عشرة كيلومترات من مدينة كراتشي بالهند، حيث «مقام» لرجل مبروك حوله ينابيع ماء بارد وساخن وبركة يعيش في مياهها أكثر من مائة تمساح، وقد أحيطت بسور يطل منه الزائر على تلك الزواحف المفزعة وهي ممددة على شاطئ البركة كأنها جذوع أشجار لا تتحرك إلا حين تلقى إليها النذور من الأغنام المذبوحة. ويؤكد الدكتور حسين، أن من حسن حظه أنه لم ير يوم زيارته نذراً ولا ناذراً. لكن ما هي حكاية هذا الرجل المبروك؟ يقال إن اسمه «مانجويير»، وكان فقيراً هندوسياً، ويقال إن أصل التماسيح عائلة رجل شرير استولى على أموال اليتامى والأيامى إلى آخر ما هنالك من ضروب الشرور التي يظهر أنها كانت تلقى في العصور الخالية عقوبات أشد صرامة مما نعرف في عصورنا المادية، وجاء الشيخ مانجويير فدعا على المعتدي وأسرته أن يتحولوا إلى تماسيح وقد كان له ما أراد!

جزيرة عجيبة
يبرز أسلوب حسين فوزي الذي يتسم بأناقة مخيلة ورشاقة أسلوبية وروح مرحة، فيروي أنه هبط إلى مجموعة من الجزر المهجورة على مقربة من شاطئ حضرموت، المسكون منها واحدة فقط تسمى جزيرة «الحلانية»، لافتاً إلى أن مجموع سكانها نساء ورجالاً لا يتعدى أبطال حكاية «علي بابا والأربعون حرامي»، ويعيشون في بضع عشرة كوخاً من حجارة رص بعضها فوق بعض بغير خرسانة، وغُطيت سطوحها بأعشاب البحر المجففة لا زرع فيها ولا ضرع، وثمة عين ماء آسن لا ثانية لها تروي ظمأ عرب الحلانية، وبضعة حجارة تحيط بمصلاهم وأخرى تدل على موتاهم. لا هم في طريق قوافل أو بواخر، ولا هم يستطيعون التجوال خارج الحدود المحمية، حيث يصيدون السمك بالحراب، بينهم وبين العمار سفر أيام وليال تقل وتكثر تبعاً للريح حين تملأ شراع المراكب. الغرباء يمرون بهؤلاء السكان فيقايضونهم على أسماكهم الجافة بخبز وأرز.
بحس فكاهي يحكي مغامرته في تلك الجزيرة قائلاً «دخلنا ذات عصر بين جزر خوريا موريا وألقينا مرسانا أمام الحلانية، وكنت أراقب الشاطئ بمنظاري فرأيت راية حمراء وقف بجوارها رجل، نزلنا بأرض الجزيرة ولم تكن الراية سوى شال عمامة شيخ الحلانية نشره فوق عكازه واجتمع حوله بضعة أفراد حفاة نصف عراة واسعي المحاجر هابطي الوجنات تبرق عيونهم جوعاً. كانوا رجال حكومة الحلانية، فهذا الكبير الرأس المقطوع الأذن هو وزير الحربية، ولا ريب فهو قلق يكشر عن أنيابه بلا سبب واضح، أما هذا الربعة الحديد يحمل حربة الصيد فلعله وزير الاقتصاد، ويظهر أن الشيخ يجمع إلى رئاسة الحكومة وزرات الأديان والصحة والمعارف والخارجية. وقد اجتمعت حكومة الحلانية في أصيل هذا اليوم على شاطئ ثغرها المنيف لمفاوضات مهمة مع قبطان سفينتنا موضوعها رغيف عيش نتعشى به، وقمت أنا بمهمة الترجمة بين شيخ العرب وبين القومندان الاسكتنلندي. ولعل الذكاء المصري كان عوني على أعمال الترجمة أكثر من لغتي العربية؛ فهذا الشيخ أو هذا الرئيس للحكومة يتكلم العربية بلغة قحطانية أو حميرية أو حضرمية ولما كنت ضعيفاً نوعاً في فهم اللهجات فقد اعتمدت على نظري أكثر من سمعي في فهم ما يقوله الشيخ، ويقيناً كان يطلب منا رغيف عيش يتعشى به. وقد فهمت أنه مضى على آخر سفينة وقفت بجزيرتهم خمسون يوماً، وقد فرغ خبزهم وأرزهم فهم لا يأكلون منذ أسبوعين سوى السمك المشوي ويخشون أن تنبض بئرهم الوحيدة فيموتون عطشاً.
ويقارن بين تلك الجزيرة وبين ما أحس به حين كان في زيارة لجزيرة «سان» أمام ساحل فرنسا الشمالي الغربي؛ فقد رأى هناك جزيرة منخفضة يعيش بضعة آلاف من أهلها تحت رحمة موجة عنيفة من أمواج المد تجرفهم وتترك جزيرتهم لا أثر فيها ولا حياة، مشيراً إلى أن ثمة إحساساً ضيقاً يعتريه أمام هذا الفزع الخيالي ناشئاً عن عدم توصله إلى فهم الدافع لهذه البشرية أن تصر على العيش تحت سيف الخطر على مقربة من فوهات براكين غادرة مثل «سترومبلي» و«كاراكاتوا» التي تصب حممها المدمرة بين الحين والآخر!

فتاة بومباي
حين يصف الدكتور حسين فوزي بعض المدن يكتب ما يعتقده بصراحة ودون تجميل أو دبلوماسية. يقول على سبيل المثال «بومباي حاضرة كبرى اجتمع لها من ضروب السوء المعماري مما يكفي أن يطمس على جمال فلورنسا وروما وباريس وفيينا، ولو أن طيراً أبابيل تكلفت بعملية توزيع بعض مباني بومباي فحملتها وألقتها على هذه المدن فإنه يمكنك أن تقول يا رحمن يا رحيم على فن العمارة في حواضر الجمال! والسبب في ذلك يعود برأيه إلى أن العهد الفيكتوري في عمارتها امتزج أقبح امتزاج بالفن الإسلامي الهندي فكانت النتيجة تلك القباب والأعمدة التي تقذي العين بصلفها وغطرستها ولا منطقيتها.
ويمتدح الذوق والرقي لدى المرأة الهندية، معلقاً على فتاة رآها في بهو الفندق تنتمي إلى طائفة خرجت من إيران بعد الفتح الإسلامي واستقرت في مدينة سكانها أهل جاهٍ وثراء، فهم يمتلكون المصانع والمصارف والمتاجر في بومباي، وتتكون منهم أرستقراطية مالية في بلد المال، بيض الوجوه رقيقو الحاشية، تمتاز نساؤهم بحسن الذوق بملبسهن فلا يتخيرن تلك الألوان التي تتكالب عليها بعض النساء هناك هي والعطور والبخور لتوقعك في شبه إغماء مزمن من طول إقامتك في الهند.

أحفاد بن بطوطة
يتوقف دكتور فوزي بشكل خاص عند جزيرة المهل في مالي، والتي سبق وكتب عنها رحالة المغرب بن بطوطة قبله بستمائة عام قائلاً «ولقد زرت الجزر بعدك بستمائة عام فوجدت النساء محجبات يتوارين خلف الأبواب؛ إذ ما مر بها الغريب ويرمقنه بعيونهن الحوراء الحارة من فوق أسوار حديقتهن».
ويسهب في وصفه لتلك المغامرة قائلاً «لمست أقدامي الجزيرة وأنا أتحرق شوقاً لمشاهدة الجزر التي سبق وكتب عنها رحالة طنجة الفذ ابن بطوطة وأمنّي نفسي بلحظات هي ملك للفن الخالص حين أمتع سائر روحي برؤية الجمال الرائح والغادي في غير احتشام زائف وخجل متصنع. بدت لنا الجزيرة كالأحلام ونحن نراها على امتداد البصر زمردة في عقد الجزر المرجانية التي تحيط باللاجون. ميناء طبيعي تحيط به مجموعة من الجزر تتخللها منحدرات خطيرة لا سبيل إلى اجتيازها أو تتحطم السفن فيها تحطيماً ما عدا المعبر الوحيد الذي لا يسلكه إلا كل ملاح قدير».
ويخلص الدكتور حسين فوزي في كتابه الشيق المبكر إلى أنه ركب البحر كثيراً قبل أن يعيش تسعة أشهر بطولها على ظهر هذه السفينة العلمية فلم يعرف إلا القليل عن حياة البحر، ذلك أن المسافر بالبواخر الكبيرة يعيش داخلها أكثر مما يعيش على سطحها وهو في اللحظات التي يتمشى ويلقي نظرة عابرة على البحر مرة مقابل عشر نظرات فضولية للركاب من حوله. وهكذا لا يعرف البحر إلا من يكابده على ظهر سفينة صغيرة طولها لا يتعدى الأربعين متراً، وحمولتها ثلاثمائة طن.



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».