الأعمال الأولى للكتّاب بين ارتباك الأسلوب وجموح البدايات

بعضهم عمد إلى حذفها بالكامل فيما شكلت للبعض الآخر سقفاً تعذّر تخطيه

محمود درويش - محمد الماغوط - أنسي الحاج - بدر شاكر السياب
محمود درويش - محمد الماغوط - أنسي الحاج - بدر شاكر السياب
TT

الأعمال الأولى للكتّاب بين ارتباك الأسلوب وجموح البدايات

محمود درويش - محمد الماغوط - أنسي الحاج - بدر شاكر السياب
محمود درويش - محمد الماغوط - أنسي الحاج - بدر شاكر السياب

لم تكن المسائل والقضايا المتعلقة بالأدب والفن محلاً لإجماع البشر، متذوقين كانوا أم نقاداً متخصصين، في أي حقبة من حقب التاريخ، ولن تكون كذلك على وجه التأكيد. فما دامت الحقيقة الفنية نسبيةً وحمالة أوجه، لن يكفّ المهتمون بالعثور عليها عن الاختلاف واتخاذ المواقف المتباينة إزاء كل ما يتعلق بطبيعة الإبداع وشروطه وآلياته وطريقة تلقّيه. ولم تتوقف السجالات المتعلقة بالفن عند حدود الأعمال المعنية بالدراسة فحسب، بل تعدت ذلك إلى أمور أخرى تتعلق بسير الكتّاب وسوسيولوجيا الظواهر الإبداعية والتحليل النفسي للأدب، وصولاً إلى الحديث عن البعد الكرونولوجي للتجربة الإبداعية، بما فيها من مؤشرات متصلة بذرى الزمن الإبداعي من جهة، أو بسفوحه ومنخفضاته وقيعانه من جهة أخرى. وكما الحال مع كل قضايا الإبداع الشائكة، فإن قضية الزمن النموذجي للإبداع لن تكون موضع اتفاق بين النقاد والدارسين. ليس فقط لأن اختلاف الأمزجة والمقاربات سيفضي إلى غياب الإجماع حول أي إصدار أو أثر يتركه هذا الفنان أو ذلك الكاتب في وقت من الأوقات، بل لأن لكل مبدع من المبدعين مساراً متعرجاً ومختلفاً عن سواه، بحيث يبلغ البعض ذروة إبداعه في مطالع شبابه، ثم يبدأ بعد ذلك بالتراجع، بينما يتدرج آخرون في بلورة تجاربهم وتعميقها بشكل تصاعدي، وصولاً إلى عمر معين يأخذون بعده بالتراجع. فيما قلة من الكتاب غير القابلين «للكسر» تمتلك العدة التي تؤهلها للصعود حتى نهاية الرحلة.
على أن ما أريد التوقف عنده في هذه المقالة، يتصل على وجه التحديد بالأعمال الأولى للشعراء والكتاب، وبما إذا كانت هذه الأعمال تكتسب قيمتها من كونها حجر الزاوية الفعلي لما سيليها من إصدارات، أم من كونها انعكاساً بالغ الدلالة لموهبة الكاتب الفطرية ولعلاقته البريئة باللغة والحياة. ولا بد من التساؤل، استتباعاً، عن المكانة الحقيقية التي تحتلها البواكير في سياق التجربة الطويلة للكاتب، وعن تنصل البعض من أعمالهم الأولى، وصولاً إلى حذفها بالكامل، بعد حين من الزمن. والحقيقة أن هذه التساؤلات، كغيرها من الأسئلة المتعلقة بقضايا الأدب والفن، لن تجد الإجابات نفسها عند النقاد والمهتمين، بل سنعثر على من يرى أن البواكير ما هي إلا مسوّدات أولية للنصوص التي ستعقبها، أو مجرد تمارين متعثرة على الكتابة، أو على من يرى بالمقابل أن في هذه البواكير قدراً من الصدق والالتصاق بالتجربة المعيشة، يصعب العثور عليه في الفصول المتأخرة من الحياة، حيث يحل الصنيع الحاذق محل البديهة، و«التصلب» التعبيري محل التوهج القلبي واندفاعة اللغة. فهل ثمة من سبيل للتوفيق بين الوجهتين؟ وهل نعثر بينهما على قواسم جامعة يمكن الركون إليها؟

الصبا المتفجر... والتجربة
لن يصعب على المرء، في معرض تصديه لمثل هذه الأسئلة، أن يكتشف أن كل واحد من طرفي السجال يأخذ النصف الذي يناسبه من الحقيقة، دون أن يرى في النصف الآخر ما يستحق الالتفات إليه. فالذين ينحازون إلى الأعمال الأولى للكتاب والمبدعين، يعوّلون في المقام الأول على الموهبة الخام التي لا تحتاج للكشف عن نفسها الكثير من التأجيل والإقامة في «ثلاجات» السنوات، بل هي تفيض عن كاتبها كما تفعل الينابيع والأعاصير وضوء الشمس، وسائر ظواهر الطبيعة. وهي تبعاً لذلك تجد في سن اليفاعة والصبا المتفجر، بما يجسده من عصف هرموني وغرائزي، الحقبة المثلى للتعبير عن نفسها على المستوى اللغوي والفني. ولعل هذه الاندفاعة بالذات هي التي عناها نزار قباني في إجابته المفاجئة عن سؤال يتعلق بالكتب والأسماء التي تأثر بها خلال مسيرته الطويلة، حيث قال: «إن أكثر ما أحرص على قراءته قبل الشروع في الكتابة هو الزاوية التي تطلق عليها الصحف والمجلات اسم (بريد القراء)».
أما السبب في ذلك، كما أوضح صاحب «طفولة نهد»، فهو أن أصحاب هذه النصوص يكتبون باندفاعة الدم ووجيب القلوب لا بالأصابع. وهو السبب نفسه الذي حدا بزياد الرحباني إلى اختيار أبطال مسرحياته من الهواة والشبان المغمورين، لأن الصلف الاحترافي والانبهار بالنفس، يوقعان النجوم والمكرسين، وفق قوله، في حبائل الكسل والأداء التقني البارد والنوم على حرير الماضي.
على أن الاضطرام العاطفي وقوة العصب اللذين يتسم بهما أدب البدايات، خصوصاً في جانبه الشعري، يقابلهما في معظم الأحيان افتقار الكاتب بحكم حداثة السن والتجربة إلى النضج الأسلوبي والمعرفي، كما إلى امتلاك أدواته اللغوية والتعبيرية التي تميزه عمن سواه. وهو ما يفسر قول الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت، إن الشاعر، أي شاعر، يستطيع أن يتكئ على عواطفه الجياشة ونزوعه الغنائي حتى منتصف ثلاثيناته، في أبعد الأحوال، ولكنه لا بد أن يقع في شرك الضحالة والإنشاء والدوران حول النفس، إذا لم تكتسب كتاباته اللاحقة العمق المعرفي والرؤيوي. ومع ذلك، فإن أي نظرة متفحصة إلى بدايات الشعراء لا بد أن تكشف لنا عن أمرين متغايرين تماماً. إذ إننا نلاحظ عند البعض، بسبب التسرع في النشر أو التطور السريع الذي أصابوه فيما بعد، نوعاً من التفاوت الواسع بين أعمالهم الأولى وأعمالهم اللاحقة. وإذا كانت هذه الظاهرة لا تنسحب على بواكير شعرية تميزت منذ البداية بجرأتها ونزوعها التجاوزي، كما هو شأن خليل حاوي في باكورته «نهر الرماد»، وأحمد عبد المعطي حجازي في «مدينة بلا قلب»، فهو ينسحب بالقطع على بواكير بدر شاكر السياب «أزهار ذابلة»، وأدونيس «قالت الأرض»، ومحمود درويش «عصافير بلا أجنحة»، وعبد الوهاب البياتي «ملائكة وشياطين»، وممدوح عدوان «الظل الأخضر»، وعلى كثر غيرهم. وهو ما يفسر بالطبع لجوء البعض إلى سحب أعمالهم الأولى من التداول، كما فعل أدونيس ودرويش.

شعراء الوزن والنثر
لكن الأمر يكاد يبدو مغايراً تماماً مع قصيدة النثر، حيث بدت الأعمال الأولى لروادها بمثابة بيان شعري تأسيسي أو انقلاب جذري على الأعراف السائدة، كما هو شأن أنسي الحاج في مجموعته «لن»، ومحمد الماغوط في «حزن في ضوء القمر»، وأدونيس في قصائده النثرية، مثل «تحولات العاشق» و«مفرد بصيغة الجمع»، لا بل إن بعض هذه الأعمال بدت بالنسبة لأصحابها أشبه بالسقوف العالية التي صعب عليهم تجاوزها في الأعمال اللاحقة. أما التباين الواضح بين الأعمال المبكرة لكل من شعراء الوزن والنثر، فيمكن الاستدلال عليه بكثير من الأدلة والشواهد. ففي حين نقرأ لبدر شاكر السياب في باكورته «أزهار وأساطير» نماذج تقليدية من مثل «أنا لا أزال وفي يدي قدحي/ يا ليل أين تَفرّق الشرْبُ/ ما زلتُ أشربها وأشربها/ حتى ترنّح أفْقك الرحبُ»، يعمد أنسي الحاج في باكورته النثرية «لن» إلى تغيير قواعد اللعبة، وإلى الالتفاف على المنجز الشعري العربي برمته، عبر نصوص مغايرة من مثل «تمطر فوق البحر/ أناديك أيها الشبح الأجرد/ بصوت الحليف والعبد والدليل/ فأنا أعرف/ أنت هو الثأر العائد/ صلباً كالربا/ فاحشاً أخرس/ وخططي بلا مجاذيف». وحيث نقرأ لدرويش في مجموعته المبكرة «عصافير بلا أجنحة» التي ما لبث أن حذفها من ديوانه الشعري، نصوصاً من مثل «خذني إليكْ/ دعني أعيش حرارة الدنيا لديكْ/ دعني أروي شوقيَ الظامي إليكْ/ اضغط على جسدي الطريّ فقد نضجت»، نعثر بالمقابل في باكورة الماغوط «حزن في ضوء القمر» على نص من مثل «يا قلبي الجريح الخائن/ أنا مزمار الشتاء البارد/ ووردة العار الكبيرة/ تحت ورق السنديان الحزين/ وقفت أدخّن في الظلام/ وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار/ كنت أتدفق وأتلوّى/ كحبلٍ من الثريات المضيئة الجائعة».
وقد لا يختلف الأمر كثيراً على صعيد الكتابة السردية. ففي حين تبدو الأعمال الأولى لبعض الروائيين العرب مجرد إرهاص متعثر ومرتبك بما سيليها من أعمال ناضجة، تشكل بواكير البعض الآخر عصارة ما اختزنوه في دواخلهم من كنوز اللغة وذخائر التذكر وبروق الحيوات المستعادة. وقد يكون السبب عائداً في بعض مناحيه إلى قوة العصب وتوهج البدايات، أو التفاعل الثقافي مع الغرب، كما حال رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و«موسم الهجرة إلى الشمال»، أو إلى الشروع في كتابة الرواية في زمن النضج، كما حال «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، و«مريم الحكايا» لعلوية صبح، فالقاسم المشترك بين هؤلاء هو أنهم بلغوا في بواكيرهم ذروة منجزهم الإبداعي، ووضعوا لأنفسهم سقوفاً يصعب تجاوزها. وهو ما جعل أعمالهم اللاحقة تبدو بمثابة تنافس شرس مع النفس، أكثر من كونها تنافساً مع الآخرين.



غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.