باسمة العنزي: لم تَعُد هناك قضايا مسكوت عنها في الأدب الكويتي

الروائية الكويتية تقول إن الجهود الفردية هي المحرك لا المؤسسات الثقافية

باسمة العنزي
باسمة العنزي
TT

باسمة العنزي: لم تَعُد هناك قضايا مسكوت عنها في الأدب الكويتي

باسمة العنزي
باسمة العنزي

قدمت الروائية والكاتبة الكويتية باسمة العنزي مجموعة من الأعمال السردية والروائية حققت نجاحاً في فترة قياسية. صدر لها حتى الآن ثلاث مجموعات قصصية، وثلاث روايات، وكانت روايتها الأخيرة بعنوان «قطط إنستغرام». في هذا الحوار، الذي أُجري معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدث عن تجربتها القصصية والسردية، وعن روايتها الأخيرة، التي بطلها قِطّ، رمزاً للقطط السمان، والفساد المستشري.
هنا نص الحوار:
> كيف ترين مسيرتك بين عالم القصة والرواية... في أيهما تجدين نفسك أكثر؟
- واقع الأمر أنني بدأت كقاصة وكاتبة مقال ثقافي ومن ثم اتجهت للرواية، كلاهما من أسرة واحدة. حالياً أجد نفسي أكثر ميلاً للقصة القصيرة، للكلام الموجز، للقالب المحكم وللفكرة الخاطفة الواضحة، ربما بسبب الوقت ومشاغلي اليومية ورتم حياتي السريع الموزَّع ما بين عدة أدوار.
> روايتك الأولى «حذاء أسود على الرصيف» تناولت قضايا حساسة في المجتمع، بينها قضايا «البدون» والمرأة والمهمشين... إلى أي مدى ترين أن مثل هذه القضايا مسكوت عنها في الأدب الكويتي؟
- روايتي الأولى «حذاء أسود على الرصيف» هي «نوفيلا» كتبتُها لغرض النشر لاحقاً، قدمتها كمخطوطة لجائزة الشارقة للإبداع العربي وحصلت على جائزة عام 2012، وبالتالي تمت طباعتها. لا أجدها قدمت «قضايا حساسة» بقدر ما كانت محاولة للاقتراب من أسوار عالم الوظيفة في مجتمعاتنا الخليجية، المكان الذي تتحاشاه الرواية والقصة، وما يتبعه من مواضيع ذات صلة كالبطالة، والتغيرات الاقتصادية والديموغرافية. وبما أن بيئة الرواية مكان العمل فمن الطبيعي وجود العناصر الأخرى المتعلقة به، التي هي انعكاس لمكونات المجتمع.
بالنسبة للقضايا المسكوت عنها، لا أتفق معك في ذلك. المرأة والمهمشون و«البدون» مواضيع مطروقة باستمرار في الأدب الكويتي.
> هناك روايات كويتية عالجت قضايا تشبه «حذاء أسود على الرصيف» وأخذت مكانها في الدراما العربية، مثل «ساق البامبو»، هل تساعد الدراما الكاتب على إيصال رسالته، هل تفقد الرواية بعضاً من خصائصها إذا تجسدت درامياً؟
- «ساق البامبو» للروائي سعود السنعوسي الحاصلة على جائزة «البوكر»، ناقشت أزمة الهوية، والعمل الروائي كان أكثر احترافية من العمل الدرامي. تجسيد الأعمال الروائية درامياً يخدم الأدب في المقام الأول ويسهم في انتشاره، وفي الوقت ذاته امتزاج الأدب بالدراما مؤشر جيد على حراك الثقافة وقدرتها على التأثير ووصولها لشريحة أكبر من المجتمع. على سبيل المثال رواية «النمر الأبيض» للكاتب الهندي المعروف آرافيند آديغا الصادرة ترجمتها باللغة العربية عام 2011 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدأ الكثير من القراء البحث عنها بعد تحويل «نتفليكس» العمل هذا العام لفيلم حظي بنسبة مشاهدة عالية.
> روايتك الأخيرة «قطط إنستغرام»، رغم صغر حجمها، فإنها حققت نجاحاً، والأهم أنها فتحت باباً للسؤال عن تأثير وخطورة مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة في اقتحام الخصوصيات الفردية، كيف ترين تأثير هذا الانكشاف على الوعي الثقافي خصوصاً؟
- مهتمة جداً بالقضايا المعاصرة في مجتمعاتنا الخليجية الحديثة؛ أن يكون الأدب في مواجهة الحياة، ولعل من أهم هذه القضايا دور مواقع التواصل الاجتماعي في بلورة فكر شريحة كبيرة من أفراد المجتمع. نحن ننتقل بخطوات سريعة في عصر التحول الرقمي كمستهلكين من خانة لأخرى، وفي خضم تلك التحولات تتلاشى فرديتنا وخصوصيتنا، نحن أما مؤثرون أو تابعون، وفي الحالتين لا يتم السيطرة على الأمر في فضاء مفتوح تم تأسيسه لأهداف عميقة التأثير، وتبعاً لاستراتيجيات بعيدة المدى.
> استخدمتِ قِطّاً ليكون بطل الرواية، هل كان القط «سبايس» رمزاً للقطط السمان، في إشارة لعالم الفساد المالي المستشري؟
- نعم، هو قط سمين في موقعه، حيث تُنشر صوره وتحتها تعليق صاحبة «الأكاونت» ذات الاسم المستعار. ظاهرة التعبير من وراء ستار منتشرة وتحمل من المواربة والخوف الشيء الكثير.
> هناك أيضاً مدلولات فكرية وسياسية عميقة. نلحظ ذلك من خلال شخصية «منصور لافي» الذي يحاول الصعود في عالم التجارة والسياسة عبر توظيف «السوشيال ميديا» لصناعة نجوميته، هل ترين أن هذه الوسائل أصبحت أدوات لتكريس الهيمنة على البسطاء عوضاً عن منح المهمشين صوتاً؟
- هي كما ذكرت أدوات - لم نصنعها ولن نعمل على تطويرها - نحن مجرد مستخدمين مخلصين لها. في التجارة ما دامت هناك سلعة، فهناك مائة طريقة لتسويقها، توظيف «السوشيال ميديا» شمل كل أنواع السلع؛ من الكتاب الذي يكررون عليك أهمية اقتنائه إلى رحلة الطيران الأمثل، مروراً بمئات السلع التي تلاحقنا حفلة التبشير بها. السياسيون يلجأون لمنصات التواصل الاجتماعي لتلميع صورهم ونشر خطابهم، كما يلجأ المهمشون لنشر معاناتهم، البسيط الذي نخشى عليه من الهيمنة امتلك حرية رأي افتراضية، وقدرة على التعبير عنه، ووصوله كأناس لن يصادفهم على أرض الواقع. كل شيء أصبح صالحاً للنقاش العام! المعادلة متوازنة للطرفين. رغم جانبها الاستلابي القائم على الإدمان عليها، حسب رأي المفكر زيجمونت باومان، وأنها جميعها ذاتية التدمير.
> تقول الرواية: «في مجتمعنا من السهل أن تكون مشهوراً»... هل هذه الشهرة تمثل «غزو الأغبياء»، كما يصوره الروائي والفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو حين قال: «إن وسائل التواصل أتاحت لجحافل الأغبياء أن يتحدثوا وكأنهم علماء»؟
- وسائل التواصل كشفت فقط قدرة الكثيرين على جعل حياتهم الخاصة منتجاً للمستهلكين. لا شروط للشهرة طالما تملك القدرة على أن تتحول حياتك لسلعة في رف بشري طويل، بإمكان الآخرين تفحص خصوصياتك ونقدك على مدار الساعة. أنت في مرمى هدفهم؛ يشتمونك، يواسونك، يسخرون منك أو يتعاطفون معك، أنت أيضاً في دائرة اهتمامهم الواسعة، وهذا الهدف من تسليعك وبالتالي إعادة تحويلك لمستهلك برغبات آنية لن يتم إشباعها. في «قطط إنستغرام» عرضت الصورة كاملة كما رأيتُها، لا كما تمنيت.
> هل ترين أننا نعيش في رواية افتراضية، تكتب فصولها وسائل التواصل، التي تنقل تفاصيل حياتنا اليومية في انكشاف مريع...؟
- وسائل التواصل تكتب اليومي المجرد من اللغة الأدبية، هي ذكريات اللحظة، المجردة من الخيال، رغبات التنفيس والبوح، خطوات على الرمال. عن نفسي أنا بعيدة عن أغلب منصات التواصل الاجتماعي التي يبذل صنّاعها الكثير لجني أعلى عائد اقتصادي منها.
> باعتبارك عضوة في رابطة الأدباء، كيف ترين مساهمة الرابطة في إنعاش الحياة الثقافية والأدبية في الكويت؟
- لا دور كبيراً للرابطة في السابق، والآن مع الجائحة تلاشت كل الأدوار. الجهود الفردية هي المحرك لا المؤسسات الثقافية.
> كيف ترين المشهد الثقافي في الكويت؟ هل تعاني الساحة الثقافية من قلة الأصوات الإبداعية؟
- العبرة ليست في الكثرة، إنما بالتميز. لست قلقة من شح الأعداد، إنما من القضايا التي كانت تُعدّ في سالف الزمان قضايا وما زلنا نكرر تناولها، ثيمات محددة تدور أغلب الأعمال حولها بإخلاص شديد منذ عقود. محلياً وخليجياً، خريطة التغيرات الراهنة التي نعيشها كمجتمعات شابة متنافرة مع نتاجنا الأدبي. أين نحن عن موضوعات باتت مقلقة مثل البطالة، الفساد الإداري، قلق ما بعد الحداثة السائلة، الفردية، منظومة التعليم، التلوث، وغيرها؟
> أين يذهب المبدعون الجدد...؟ لماذا هم نادرون ويتقدمون ببطء...؟
- كل كلمة وملاحظة وانطباع بالتأكيد تحملني مسؤولية جديدة، لذا أجدني مُقلّة في النشر. لا تأسرني فكرة الوجود سنوياً بعمل، فالتحدي الحقيقي أن أنشر ما يستحق القراءة والتداول بعيداً عن النمطية والدوران في الدائرة ذاتها.
> رغم تناول كثير من النقاد العرب لكتبك وحصولها على جوائز إلا أنها غير متوفرة بسهولة للقارئ، ما السبب؟
- بالنسبة لكتبي، فهي ليست متوفرة حتى في المكتبات المحلية. وأظن أنه من الصعوبة الحصول على نسخ سوى عبر بعض المواقع الإلكترونية. وبهذا يتحمل الناشر المسؤولية كاملة! النشر والتوزيع - أو بمعنى أدق الطباعة والتوزيع - في العالم العربي يمثل قصة محبطة للبعض وسعيدة للبعض الآخر، حسب المصالح، وأحياناً الحظ. لا أتوقف كثيراً عند هذه المسألة بسبب إدراكي لحجم الخراب.

> صدر لباسمة العنزي ثلاث مجموعات قصصية متتالية: الأولى عام 1998، تحت عنوان «الأشياء»، والثانية عام 2007 بعنوان «حياة صغيرة خالية من الأحداث»، أما الثالثة فصدرت عام 2010 بعنوان «يغلق الباب على ضجر»، كما صدرت لها روايتان: «حذاء أسود على الرصيف» 2012، و«قطط إنستغرام» 2015.
حصلت على جائزة الدولة التشجيعية للقصة القصيرة، عام 2007، عن مجموعتها «حياة صغيرة خالية من الأحداث»، كما اختيرت مجموعتها «يغلق الباب على ضجر» ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فرع المؤلف الشاب العام 2011. وفازت روايتها «حذاء أسود على الرصيف» بالمركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع العربي 2012. وحصلت على جائزة الدولة التشجيعية للقصة القصيرة عام 2013 عن مجموعتها «يغلق الباب على ضجر»، وتم تكريمها من قبل مجلس التعاون الخليجي عام 2016. وفازت بجائزة المرأة العربية عن فئة الأدب عام 2016.



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟