صرعات الموضة تستنزف الكوكب

صناعة الأزياء مسؤولة عن 10 في المائة من انبعاثات الكربون العالمية

صرعات الموضة تستنزف الكوكب
TT

صرعات الموضة تستنزف الكوكب

صرعات الموضة تستنزف الكوكب

خلال السنوات العشرين الماضية، تحولت دور صناعة الألبسة والأحذية العالمية إلى ما هو أبعد من تلبية احتياجات الإنسان الأساسية. ففي هذه الفترة، تضاعفت كمية الملابس المنتجة سنوياً، كما أصبحت العلامات التجارية الكبرى تقدم باستمرار مجموعات تصاميم جديدة خارج المواسم التقليدية الأربعة.
وفي غضون عشر سنوات، من المتوقع أن يرتفع الاستهلاك العالمي للمنسوجات بأكثر من 60 في المائة ليصل إلى أكثر من 100 مليون طن بحلول 2030. ويترافق هذا مع نمو قيمة سوق الملابس العالمية من 1.5 تريليون دولار في 2020 إلى نحو2.25 تريليون دولار في 2025.
وتترك هذه التغيرات المتسارعة في عالم الموضة أثرها الهام على موارد كوكبنا، الذي يواجه تحديات بيئية واجتماعية ملحة ناجمة عن تغير المناخ ونضوب الموارد. وفيما تتأثر اتجاهات الموضة بالحركات الاجتماعية والدين والسياسة والحرب، يحكم اللحاق بصرعات الأزياء الجديدة قرارات شراء الملابس والتخلص منها في المجتمعات الاستهلاكية، حيث تصبح الألبسة والأحذية منتجاً فائضاً في أقل من عام، بدل أن يكون هدفها سد حاجة أساسية للبشر.
هذا الاتجاه الجامح المتمثل في التخلص السريع من الألبسة والأحذية قبل أن تبلى، والتصنيع الكيميائي المكثف، واستخدام البلاستيك في الأقمشة والإكسسوارات، يتسبب في أضرار بيئية متعددة وخطيرة طويلة المدى.
صناعة الأزياء العالمية مسؤولة عن 10 في المائة من انبعاثات الكربون العالمية، أي أكثر مما تفعله جميع الرحلات الجوية الدولية والشحن البحري. وتنتج هذه الانبعاثات عن الطاقة المستخدمة خلال مراحل الإنتاج والتصنيع والنقل. فالألياف الاصطناعية (البوليستر والأكريليك والنايلون، وغيرها) يستهلك إنتاجها كمية من الطاقة تفوق بكثير تلك التي يتطلبها التصنيع من الألياف الطبيعية.
وتنتج معظم الملابس التي تستهلك عالمياً في الصين وبنغلادش والهند، وهي دول تعتمد على الفحم كمصدر أساسي للطاقة. كما تنبعث عن عمليات تصنيع الألياف الاصطناعية الرخيصة غازات مثل أوكسيد النيتروز، الذي يكافئ كل طن من انبعاثاته 300 طن من ثاني أوكسيد الكربون.
وتلعب صناعة الأزياء دوراً رئيسياً في تدهور التربة بطرق مختلفة، مثل الرعي الجائر من قبل الماعز الكشميري والأغنام التي تربى من أجل صوفها، والاستخدام المكثف للمواد الكيميائية لزراعة القطن، وإزالة الغابات للحصول على الألياف الخشبية مثل الرايون (الحرير الصناعي).
وفي كل عام، تدمر آلاف الهكتارات من الغابات القديمة والمهددة بالانقراض، وتستبدل بمزارع من الأشجار المستخدمة في صناعة الأقمشة ذات الألياف الخشبية كالرايون والفيسكوز. ويهدد فقدان الغابات النظام البيئي ومجتمعات السكان الأصليين، كما هو الحال في إندونيسيا، حيث شهدت الغابات المطيرة انحساراً على نطاق واسع خلال العقد الماضي.
ويشير تقرير صادر عن البنك الدولي في 2019 إلى أن صناعة النسيج مسؤولة عن نحو خمس تلوث المياه العالمي، مما يضع صناعة الأزياء في أعلى مراتب تلويث المياه. ومن دون معالجة المياه الملوثة الناتجة عن عمليات تنظيف الأقمشة وتبييضها وصباغتها، تقل تراكيز الأوكسيجين في الأوساط المائية التي تطرح إليها، وتشكل بالتالي تهديداً للنظم المائية والأنواع الحية التي تستوطنها.
وتصنف أجزاء واسعة من وسط وجنوب آسيا، لا سيما في الهند والصين وإندونيسيا وباكستان وبنغلادش، ضمن أكثر المناطق تلوثاً بسبب صناعة الألبسة. ويؤدي التخلص من المواد الكيميائية السامة المستخدمة في تصنيع الألبسة إلى جعل أجزاء كبيرة من الأنهار الرئيسية حول العالم، كنهر سيتاروم في إندونيسيا ونهر نويال في الهند ونهر اللؤلؤ في الصين، غير صالحة لعيش الأسماك والأحياء الأخرى. وفيما لا تزال الصين أكبر منتج للألبسة في العالم، فإن ثلث أنهار البلد مصنفة من قبل إدارة حماية البيئة الصينية على أنها «ملوثة للغاية لأي اتصال بشري مباشر».
ويدخل القطن كمادة خام رئيسية في صناعة النسيج، ويعتبر إنتاجه مسؤولاً عن 2.8 في المائة من استهلاك المياه السنوي حول العالم، إذ يستلزم إنتاج قميص قطني وبنطال جينز استهلاك نحو 20 ألف لتر من الماء. كما ينطوي إنتاج القطن التقليدي على استخدام عال للأسمدة ومبيدات الآفات، التي قد تلوث المسطحات المائية المحيطة. وتبلغ حصة زراعة القطن من المبيدات الحشرية 25 في المائة ومن مبيدات الأعشاب الضارة 10 في المائة من الاستخدام العالمي.
كما يطلق غسل الملابس نصف مليون طن من الألياف الدقيقة إلى المحيطات كل سنة. وتبتلع الكائنات المائية الصغيرة تلك الألياف الدقيقة، ثم تتناولها الأسماك الصغيرة فالكبيرة، وتصل في النهاية إلى جسم الإنسان عبر السلاسل الغذائية.
ويزداد تواتر التخلص من الملابس استجابةً لاتجاهات الموضة، ويترافق ذلك مع زيادة نفايات النسيج التي تمثل الألياف الاصطناعية الصعبة التحلل نحو 72 في المائة من مكوناتها. وفي الدول الغربية، ترمي الأسرة المتوسطة ما معدله 30 كيلوغراماً من الملابس سنوياً، ويجري تدوير 15 في المائة من هذه الكمية أو التبرع بها، فيما يذهب الباقي إلى مكبات النفايات أو يحرق. وفعلياً، يسجل العالم دفن أو حرق ما يعادل شاحنة قمامة واحدة من المنسوجات في كل ثانية.
ولا يقتصر التأثير السلبي لصناعة الألبسة والأحذية على البيئة فحسب، بل يمتد ليطال الحالة الاجتماعية. فمعظم إنتاج العلامات التجارية الكبرى يحصل في الدول الفقيرة، حيث يتقاضى العمال أجوراً زهيدة، ويجبرون على العمل لساعات طويلة في ظروف قاسية.
ولكن مع تزايد مطالبة المستهلكين بالتغيير، يبدو أن عالم الموضة آخذ في الاستجابة لكسر نموذج الهدر وتحسين ظروف الإنتاج. وتوجد الآن مجموعات عديدة تضم علامات تجارية كبرى لتبادل الخبرات حول أفضل السبل لحماية البيئة، وإخضاع الموردين ومواقع التصنيع للتدقيق، للتأكد من استيفاء اشتراطات صارمة تخص تصريف النفايات السائلة وظروف العمل.
ومع ذلك، تبقى المشكلة الأساسية في نموذج أعمال الموضة السريع التغير وذي النوعية الرديئة، حيث تعتمد الإيرادات على بيع المزيد من المنتجات. ومن غير الواقعي أن نفترض توقف المستهلكين عن التسوق على نطاق واسع، ولذلك فإن صناعة الألبسة والأحذية بحاجة لمزيد من التطوير والابتكار والجرأة لاعتماد أساليب إنتاج أكثر استدامة، مثل الصباغة الطبيعية من دون ماء، واستخدام المخلفات كمواد خام، والاعتماد أكثر على منتجات الألياف العضوية الطبيعية مثل الكتان، وتحسين النوعية لكي تدوم الملابس مدة أطول وإيجاد حلول لمشكلة النفايات الناجمة عن صناعة الملابس والتخلص منها، بتطويل مدة الاستخدام والتبادل وإعادة الاستعمال.


مقالات ذات صلة

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

يوميات الشرق المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد جانب من المؤتمر الصحافي الختامي لمؤتمر «كوب 16» بالرياض (الشرق الأوسط)

صفقات تجاوزت 12 مليار دولار في مؤتمر «كوب 16»

يترقب المجتمع البيئي الإعلان عن أهم القرارات الدولية والمبادرات والالتزامات المنبثقة من مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16).

عبير حمدي (الرياض)
يوميات الشرق تكريم الفائزين الثلاثة ضمن مبادرة «حلول شبابية» بالتزامن مع «كوب 16» (واس)

منصّتان وشركة... «حلول شبابية» سعودية مبتكرة لمختلف التحديات البيئية

لم تكن الحلول التي قُدِّمت في مؤتمر «كوب 16» للقضايا البيئية والمناخيّة الملحّة، وقضايا تدهور الأراضي والجفاف، قصراً على الحكومات والجهات الخاصة ذات الصلة.

غازي الحارثي (الرياض)
بيئة الاستفادة من التقنيات الحديثة في تشجير البيئات الجافة واستعادة الأراضي المتدهورة من أهداف المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير (تصوير: تركي العقيلي) play-circle 00:55

السعودية تستهدف تحويل 60 % من مناطقها إلى «غابات مُنتجة»

يواصل «المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير» استقبال الحضور اللافت من الزوّار خلال نسخته الثانية في العاصمة السعودية الرياض، بتنظيم من المركز الوطني لتنمية…

غازي الحارثي (الرياض)
الاقتصاد الوزير السعودي يتسلم رئاسة السعودية رسمياً لمؤتمر «كوب 16» في الرياض (الشرق الأوسط)

«كوب 16 الرياض» يجمع صناع السياسات لإعادة تأهيل الأراضي ومكافحة التصحر

اجتمع عدد كبير من صنُاع السياسات والمنظمات الدولية والدوائر غير الحكومية وكبرى الجهات المعنية، الاثنين، في الرياض، للبحث عن حلول عاجلة للأزمات البيئية.

آيات نور (الرياض) عبير حمدي (الرياض) زينب علي (الرياض)

ثلاثة أرباع أراضي العالم باتت «جافة بشكل دائم» خلال العقود الثلاثة الماضية

شجرة تذبل بسبب الجفاف في تشيلي (رويترز)
شجرة تذبل بسبب الجفاف في تشيلي (رويترز)
TT

ثلاثة أرباع أراضي العالم باتت «جافة بشكل دائم» خلال العقود الثلاثة الماضية

شجرة تذبل بسبب الجفاف في تشيلي (رويترز)
شجرة تذبل بسبب الجفاف في تشيلي (رويترز)

بات ما يزيد قليلاً على 75 في المائة من أراضي العالم «أكثر جفافاً بشكل دائم» على مدى العقود الثلاثة الماضية، وفق تقرير تدعمه الأمم المتحدة صدر، الاثنين، تزامناً مع مؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16) في السعودية.

وصارت الأراضي الجافة الآن تغطي 40 في المائة من مساحة اليابسة على الأرض، باستثناء القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، حسبما خلصت دراسة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، محذرة من أن هذا التحول يمكن أن يؤثر فيما يصل إلى خمسة مليارات شخص بحلول عام 2100، وفق ما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وأظهر التقرير الذي يشير إلى «تهديد وجودي» تفرضه مسارات يتعذّر تغيير اتجاهها، أن الأراضي الجافة، المناطق التي تصعب زراعتها، زادت بمقدار 4.3 مليون كلم مربع بين عامي 1990 و2020، وهي مساحة تعادل ثلث مساحة الهند.

تحذيرات من «القحط»

وجاء التحذير خلال اجتماع مؤتمر «كوب 16» الذي بدأ الأسبوع الماضي في الرياض ويستمر 12 يوماً، بهدف حماية الأراضي واستعادتها والاستجابة إلى الجفاف في ظل تغير المناخ المستمر.

ويحذّر التقرير من أن القحط، وهو نقص مزمن في المياه، يمتد الآن على 40.6 في المائة من كتلة اليابسة على الأرض، باستثناء القارة القطبية الجنوبية، مقابل 37.5 في المائة قبل 30 عاماً.

أشخاص يسيرون عبر جزء من نهر الأمازون تظهر عليه علامات الجفاف في كولومبيا (أ.ب)

كما يحذّر من أن المناطق الأكثر تضرراً تشمل الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط وجنوب أفريقيا وجنوب أستراليا وبعض مناطق آسيا وأميركا اللاتينية.

وقال الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، إبراهيم ثياو: «على عكس الجفاف -فترات مؤقتة من انخفاض هطول الأمطار- يمثّل القحط تحولاً دائماً لا هوادة فيه».

وأضاف أن «المناطق المناخية الأكثر جفافاً التي تؤثر الآن في أراضٍ شاسعة في جميع أنحاء العالم لن تعود إلى ما كانت عليه، وهذا التغيير يعيد تعريف الحياة على الأرض».

«أسوأ سيناريو»

وأضاف التقرير أن التغييرات تُعزى إلى حد كبير إلى الاحتباس الحراري العالمي الناجم عن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري التي تغيّر هطول الأمطار وتزيد من نسب التبخر.

وتشمل آثار نقص المياه المزمن تدهور التربة وانهيار النظام البيئي وانعدام الأمن الغذائي والهجرة القسرية، وفقاً للعلماء.

وحسب التقرير، يعيش بالفعل 2.3 مليار شخص في مناطق جافة تتوسع، مع توقعات تشير إلى أن «أسوأ سيناريو» يتمثّل في عيش 5 مليارات شخص في هذه الظروف مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب.

ولمواجهة هذا الاتجاه، حثّ العلماء الأعضاء على «دمج مقاييس القحط في أنظمة مراقبة الجفاف الحالية»، وتحسين إدارة التربة والمياه، و«بناء القدرة على الصمود في المجتمعات الأكثر ضعفاً».