ثلاثة أفلام عن السود والفهود والعدو اللدود

تعاملت الولايات المتحدة الأميركية مع العنصرية من دون أن تتعايش معها. وجدت نفسها منقسمة بين اتجاهين واحد عنصري والآخر ليبرالي مناوئ منذ قرار الرئيس إبراهام لينكولن تحرير الزنوج الذي تم استقدامهم من القارة الأفريقية من العبودية. أدّى ذلك إلى الحرب الأهلية في عام 1861 التي استمرت لأربع سنوات قبل أن تنتهي بانتصار الشمال الليبرالي على الجنوب المحافظ الذي أصر على الاستمرار باعتبار السود أقل شأناً ومرتبة إنسانية من البيض.
انتهت الحرب ولم تنته العنصرية، بل استمرت كون العنف بقي سائداً ليس في الجنوب الأميركي وحده، بل في العديد من الولايات الأميركية حتى في تلك التي حاربت ضد العنصرية.
تُظهر الإحصاءات الأميركية ارتفاع نسبة الحوادث العنصرية من 457 حادثاً سنة 1999 إلى 838 حادثاً في العام الماضي وذروة الحوادث حصلت سنة 2018 عندما بلغت 1007 حوادث. يدخل في الاعتبار هنا أن هذه الحوادث لا تشمل تلك الموجهة ضد السود (ولو أنها غالبة)، بل تتضمن تلك التي واجهتها فئات أخرى كالهنود الحمر وذوي الجنسيات الشرق أوسطية والجنوب شرقي آسيوية على حد سواء.
وقبل يومين نشرت صحيفة «يو إس أ توداي» تحقيقاً حول تزايد عدد الحوادث العنصرية الموجهة ضد الأميركيين ذوي الأصول الجنوب آسيوية، آخرها ما تعرّض له مواطن من أصل صيني في الحادية والتسعين من العمر من ضرب مبرح بعد أيام قليلة من مقتل رجل صيني في سان فرانسيسكو واعتداء على سيدة فيتنامية في سان جوزيه (كاليفورنيا) ورجل فلبيني في نيويورك.

- فيتنام وما بعد
في هذا الخضم توالى عرض ثلاثة أفلام من ثلاثة مخرجين أفرو - أميركيين تناولت قضية العنصرية من زوايا مختلفة. اثنان منها استندا إلى أحداث وشخصيات حقيقية والثالث هو تأليف يستوحي من الواقع ما يستوحيه في سبيل تجسيد قضيّته.
الأفلام الثلاثة، حسب ترتيب عروضها، هي «دا فايف بلودز» لسبايك لي و«ليلة واحدة في ميامي» لرجينا كينغ و«جوداس والمسيح الأسود» لشاكا كينغ (لا قربى بينهما).
البعض قد يضم فيلمين جديدين آخرين إلى هذه المجموعة «محاكمة شيكاغو 7» لآرون سوركِن و«مؤخرة ما رايني السوداء» لفيولا ديفيز كونهما يحتويان أيضاً على أكثر من ذكر للموضوع العنصري. لكن فيلم سوركن هو من إخراج سينمائي أبيض البشرة والموضوع يتجاوز العنصرية بحد ذاتها، وفيلم ديفيز يبتعد بشأنه الخاص كونه يعود في حكايته لمعالجة الوضع العنصري في شيكاغو العشرينات بينما تعالج الأفلام الثلاث المذكورة وقائع أقرب.
فيلم سبايك لي ينطلق من الستينات بلقطة وثائقية للملاكم محمد علي (بعد اعتناقه الإسلام) وهو يقول للصحافة بأنه يرفض الاشتراك في الحرب الفيتنامية مضيفاً إلى أن الفيتناميين لا يطلقون عليه كلمة Nigger (زنجي) قاصداً الإشارة إلى الكلمة المشاعة بين البيض العنصريين حيال الأفرو - أميركيين‪.‬
لكن أحداث الفيلم الميدانية تقع في فيتنام، ليس خلال الحرب خلال الستينات وجزء من السبعينات بل خلال الزمن الراهن. أبطاله خمسة من الجنود الأميركيين السود الذين حاربوا في فيتنام (يشير المخرج في فيلمه إلى الإعلام المقصّر في الإشارة إلى أن ثلث الجنود الأميركيين الذين خاضوا القتال هناك كانوا من السود) ويعودون الآن للبحث عن صندوق من الذهب يعلمون بوجوده مطموراً في بعض أدغال البلاد. في البال، في مطلع الأمر، استعادة الذهب الذي كانت القوات الأميركية بصدد نقله من فيتنام خلال انسحابها، وتخصيص معظمه لمساعدة العائلات الأفرو - أميركية في الولايات المتحدة عبر إعانات وصناديق دعم اقتصادية. لكن هذا لن يقع عندما يبدأ أحدهم (دلروي ليندو) بالإعلان عن أن نيّته هي استحواذ حصّته لنفسه فقط، ثم يزداد طمعه فإذا به يريد الكنز لنفسه عنوة عن الباقين. هذا في الوقت الذي تم لفيتناميين وعناصر أخرى رصد الخمسة واكتشاف ما هم في سبيل فعله ما يقود لمعارك دامية.
‫في الخطوط العريضة يبدو الفيلم كحكاية تشويقية. صراع على الذهب الذي يذهب بعقل أحدهم (كما في فيلم جون هيوستن «كنوز سييرا مادري»، سنة 1948. عندما يفقد همفري بوغارت رجاحة عقله حال يكتشف الذهب). لكن لي يوظف كل دقيقة ممكنة من الفيلم للإشارة إلى الواقع والتاريخ العنصريين في الولايات المتحدة إما عبر الحوار بين أبطاله وإما عبر مشاهد وثائقية.‬

- غضب مُشع
مع «ليلة واحدة في ميامي» نبقى في إطار الفيلم الداخلي معظم الوقت. مرّة أخرى نرى محمد علي (يؤديه إيلي غوري) إنما هنا كأحد الشخصيات السوداء الأربعة الذين يلتقون للاحتفال بنصره وحيازته لقب «وورلد شامبيون» في الخامس والعشرين من فبراير (شباط) سنة 1964. الآخرون الذين التقوا في شقة في فندق يرتاده السود فقط، هم الداعي مالكولم أكس (كينغزلي بن أدير) والممثل جيم براون (ألديس هودج) والمغني سام كوك (لسلي أودوم جونيور). لقاء كان من المفترض به أن يكون ودّياً سيعلن بعده كاسيوس كلاي اعتناقه الإسلام بعدما أقنعه مالكولم أكس بذلك. لكن اللقاء يتحوّل إلى نقاش حاد محوره الإسلام من ناحية ودور الأفرو - أميركيين في التصدي للعنصرية ضد عرقهم الأسود.
تدير المخرجة رجينا كينغ بمهارة الحدث موزّعة فصوله بين ما جرى في الواقع وما كان يجب إضافته من أحداث كشرط لإتمام فيلمها على نحو صحيح. توزّع النقاش بلا انحياز بين الأربعة خصوصاً بين مالكولم وسام كوك. الأول ينتقد الثاني كونه يغني أغاني الحب وحدها، مستفيداً من رسالة رومانسية تُعجب البيض، والثاني يكيل لمالكولم أكس مناهضته لإسلامه وللدور الذي يطلبه مالكولم منه. كل لديه حجة قوية ولكن قبل مقتل سام كوك بظروف غامضة بعد فترة ليست بالطويلة عقب هذا اللقاء (ومقتل مالكولم إكس اغتيالاً وسجن محمد علي لرفضه التجنيد) قام كوك بإطلاق أغنية عكس فيها قناعته بالتوجه لجمهوره من البيض والسود بأغنية تعكس المعاناة (I was Born By the River in a Little Tent).
أسلوب عمل سبايك لي خاص به، ورجينا كينغ تبتعد عنه باختيارها صوب سرد مبني على مشارف العمل المسرحي مع توزيع اللقطات وتنويع المشاهد كما يجب للفيلم أن يكون. وكلاهما، لي وكينغ يختلفان في عملهما عن أسلوب شاكا كينغ في «يهوذا والمسيح الأسود».
هذا الفيلم مستخلص أيضاً، كما «ليلة واحدة في ميامي» من أحداث واقعة: في أوج بزوغ حركة الفهود السود الأميركية نجد فرد هامبتون (دانيال كاليويا) يقود فرع مدينة إيلينوي (شيكاغو) للحركة. بغية التجسس على نشاطاته والكشف عن تحركاته ومساعيه تقوم FBI بزرع عميل أفرو - أميركي اسمه أو نيل (لاكيث ستانفيلد) للتجسس عليه.
المرجعية الدينية موجودة في العنوان، لكن تلك السياسية هي ما يتناوله الفيلم في طي أحداثه. هو الصراع بين قائد ثوري وجماعته المؤمنة به التي تم دس عميل فيها لكي يسهم في وأده والقضاء عليها. شاكا كينغ يستند إلى الأحداث أساساً ولا يحتاج لكثير من التغيير. يستعين بممثلين رائعين (كل المواهب الأفرو - أميركية المشتركة تمثيلاً في هذه الأفلام رائعة الأداء) ويسرد حكاية لا تكتفي بإعادة سرد تاريخ، بل تدفع به للالتقاء مع الوضع الحاضر.
هناك غضب مشع من الفيلم أقل تستراً من الفيلمين الآخرين يفهمه جميع المشاهدين (سود وبيض). السيناريو لول بريسون وشاكا كينغ ليس في وارد تمويه الأحداث لخاطر عملية إرضاء واسعة. لكن ميزته هنا هي إنه في الوقت الذي يجعل من شخصية هامبتون القيادة المُستنيرة سياسياً شخصية قيادية قوية، نجد العميل المدسوس أقرب لأن يكون ضحية الوضع أساساً (تم تهديده بالسجن إذا لم يلعب دوره جيداً) من دون أن يمنحه المخرج أي عذر أو تبرير.