قراءة الفلسفة في زمن «تويتر»

حضور غير مسبوق لنصوص كلاسيكية في الفضاء العام

عالم النفس الألماني هيرمان إبنهاوس
عالم النفس الألماني هيرمان إبنهاوس
TT

قراءة الفلسفة في زمن «تويتر»

عالم النفس الألماني هيرمان إبنهاوس
عالم النفس الألماني هيرمان إبنهاوس

ليست قراءة الفلسفة في أيامنا بالمتناول القريب، بعدما انعزلت في أبراجها الأكاديمية العاجية، وصارت تتطلب حدوداً دنيا من التجهيز والتثقيف المتخصص قبل أن تُشرع أبوابها أمام محبي الحكمة لعبور النصوص الفلسفية، لا سيما كلاسيكياتها. ومن ذلك التجهيز معرفة بربط الأسباب إلى الاستنتاجات، وتتبع التغيرات في الطرح عبر رحلة الكاتب الفكرية، وفهم الفروق الدقيقة بين استخدام الكلمات ومعانيها في العصور المتتابعة، كما مآزق ترجمة المصطلحات الفلسفية بين اللغات، والاطلاع على تقييم الحجج والمفاهيم من المناهضين للكاتب قبل إشادات الأتباع.
ومع ذلك، فإن مسحاً على مواقع التواصل الاجتماعي اليوم يظهر تزايداً غير مسبوق لناحية حضور النصوص الفلسفية في الفضاء العام، وانتشاراً متصاعد الوتيرة لترجمة مقالات قصيرة من أعمال الفلاسفة الكبار، وعرضها عبر «فيسبوك» أو «تويتر»، كما تضخمت مشاركة الأصدقاء بمقاطع فكر فلسفي مبهرة، بصفتها وسيلة لبناء ذواتنا المفتعلة وحضورنا المتخيل على الإنترنت.
لكن الحقيقة أن ذلك الحضور ليس بمدعاة للاحتفال بتوسع قاعدة جمهور الفلسفة بقدر ما يجب أن يكون مصدراً للقلق من سوء فهم مقاصد الفلاسفة، وتشوه أفكارهم واختزالها أو توظيفها في ما لا تحتمل خارج سياقها وبيئتها. وهذا القلق مبرر من زاوية أنها، بخلاف الشعر أو الأدب أو أخبار العالم المادي، تتطلب بالضرورة اتخاذ موقف حول شأن أو آخر من شؤون الحياة، فيما يمكن تناول القصائد وقراءة الروايات والاطلاع على آخر الأنباء لمجرد الفضول أو إزجاء الوقت أو المتعة الشخصية.
لا يوجد في الفلسفة شيء كالقراءة الحرة بلا شروط. القراءة فلسفياً تتطلب تحديداً للتوجه، بمعنى أن تُؤتى النصوص من وجهة نظر محددة، بصفة فيلسوف مثلاً أو مؤرخ أو رسام أو صحافي أو رجل أعمال، إذ إن هنالك طرقاً مختلفة من الكتابة داخل كل مجال فلسفي، فيما لا توجد طريقة أحادية للقراءة. فهناك كتابة جدلية في الدفاع عن أطروحة معينة أو نفيها، فيما يقترب آخرون من المساحة المشتركة مع النقد الأدبي، فيطرحون تصورات ومفاهيم ذاتية حول المسائل دون تقديم استدلالات منطقية صارمة، ويكتب آخرون بصرامة الرياضيات ومعادلات الفيزياء، وهكذا.
ولعل الأمر المهم الآخر تحديد الهدف من وراء ارتياد النصوص الفلسفية، إذ إن الأسئلة موضع العمل، كـ«ماهية الوجود» و«معنى العدالة» و«إمكان المعرفة»، تتطلب ممارسة قد تكون مزعجة لتقصي الحقائق دون افتراضات مسبقة، وهي كثيراً ما تشكك في معارفنا القديمة، دون القدرة على تقديم إجابات شافية، وتحتاج التزاماً من قارئها لتقبل استنتاجات تتعارض بشكل جذري أحياناً مع القيم ومنظومة الأخلاق السائدة في إطار ثقافة محلية ما. وهذا القطع الفلسفي هو من الصعب بما فيه الكفاية، إذ قد لا يمتلك القارئ عدة ثقافية ومفاهيمية تحكم قبوله للقيم والأفكار الجديدة، ومن الخطورة بمكان تبنيه لها دون دقيق فهم لا يتوفر عادة في الترجمات المبتذلة والنصوص المجتزأة، ودون استيعاب موضع النص الفلسفي في سياقه الكلي، سواء تاريخياً أو في إطار تطوره مع المفكر المحدد أو المدرسة المعينة.
ومع أن المحاذير كثيرة، فبعضهم يصر على قراءة مواد فلسفية دون إعداد مسبق أو توجه محدد. ولهؤلاء ربما يكون لا مناص أمامهم من محاولة القبض على المسرح الكلي للنص، عبر إجراء بحث سريع على موسوعات الفلسفة السيبيرية عن مؤلفه، والمدرسة الفلسفية التي عمل (أو يعمل) في إطارها، وغايات النص، والانتقادات التي تعرض لها، كما التقاط بعض التضاريس المفاهيمية واللغوية والمصطلحات التي يعتمد عليها لتقديم أطروحته. وعند تولي النص ذاته، فمن الضرورة -كما يعلم تلاميذ الفلسفة- تتبع هيكل وصوت الحجة فيه. فالكتابات الفلسفية تتوصل عادة لاستنتاجات قد تتأخر في الظهور حتى الجزء الختامي من المقال، وغالباً ما تتضمن عدة نقاط تُجادل مفاهيم ونصوصاً أخرى، ولذا لزم ملاحظة التغيير في صوت الكاتب، والانتباه إلى تلك التحولات القصيرة المتضمنة في النص للحديث عن أفكار الآخرين، مثل «قد يجادل بعضهم بأن هذه الفكرة...» وما يعادلها، ومتابعة فوق العادة لعلامات الترقيم وترابط الفقرات.
والواقع أن النصوص الفلسفية لا تخلو غالباً من مقاطع شائكة قد تدفع بغير المتخصص لتجاوزها إلى ما بعدها دون تحقق. لكن القراءة في الفلسفة تتطلب تقدماً متمهلاً، وربما شديد تمحيصٍ لبعض الأجزاء، أو محاولة البحث عن معنى لها في قاموس أو موسوعة مناسبة. ولعل أفضل ما ينصح به الخبراء هنا رفقة ورقة وقلم، وتدوين فقرات أو جمل من المجادلة المركزية، للاحتفاظ بالسيطرة على مسار تقدم الفكرة. ولتكتمل الفائدة (والمتعة العقلية)، ربما يتعين كتابة ملخص مختصر تماماً لالتقاط محض استيعاب المتلقي الخاص للانتقالات الجدلية الرئيسية، وربما العودة إليه خلال أيام تالية، كي لا تتسرب الأفكار والاستنتاجات من الذهن، كما يحدث لمعظم المعلومات التي يتلقاها العقل البشري في أثناء ممارسة الحياة اليومية -تشير تجارب عالم النفس الألماني هيرمان إبنهاوس إلى فقدان 50 في المائة من المعلومات التي تمر بنا يومياً خلال 24 ساعة، وأكثر من 90 في المائة خلال 21 يوماً، ما لم يبذل المرء جهوداً إضافية لامتلاك أفكار المقال أو المحاضرة مثلاً.
وعادة ما تفتح النصوص الفلسفية نوافذ على أفكار أخرى متوازية أو متناقضة، وكذلك قد تشير إلى مفاهيم ومصطلحات جديدة أو موضوعة في سياق مغاير، وهو ما يفتح الأفق أمام القارئ للنفاذ من النص الذي بين يديه إلى عوالم فكرية تثير شهيته لمزيد من المعرفة. وحتى لو التقط مفتاحاً واحداً أو اثنين فقط من كل مقال وبحث فيهما، لبنى تدريجياً تراكماً معرفياً حول المسألة موضع عنايته وبحثه، على نحو يمنحه قدرة نقدية أفعل للتعاطي مع النصوص المستقبلية.
وتتيح مصادر المعرفة الجديدة على متن الأنترنت فرصاً نادرة للاستزادة حول موضوع النص، وذلك عبر مشاهدة محاضرات أو مجادلات حولها، ومنها كثير يلقيه أساتذة بارزون في تخصصاتهم كان يستحيل الاستفادة منهم تقريباً قبل عقدين، وأصبحوا الآن قريبين على شاشات أجهزة حواسيبنا أو هواتفنا المحمولة. وهناك كذلك كثير من مواقع البث المسموع (البودكاستس) وجماعات النقاش الفلسفي المعولمة الطابع التي نقلت أعمالها بالكامل في ظل الجائحة الحالية إلى الفضاء الافتراضي، والتي تلقي بالضوء على جوانب معينة ونصوص محددة من التراث الفلسفي المتراكم.
لكن بالطبع لا شيء يغني في النهاية عن التدبر في المادة المقروءة، وأي معنى لها فيما قبلنا منها، مقابل معتقدات سابقة أو خبرة معيشة أو تاريخية، وربما محاولة لعب دور مؤلف النص عند إسقاط أفكاره على واقعنا، والدفاع عنها بحججه ومنهجيته في التفكير. ومن ثم، تكوين رأي خاص بشأنه يمكن تدوينه على صفحتك على مواقع التواصل الاجتماعي أو طرحه خلال جدالات آتية.
كل هذي المحاذير بما خص ممارسة القراءة الفلسفية قد لا تُعين كثيراً في اختيار المادة نفسها. ومن دون خبرة موجهٍ متمرسٍ يشير إلى نصوص معينة -غالباً ما تناسب مزاجه الفكري، وليس بالضرورة مزاج المتلقي- فإن الفلاسفة يقولون إن على المرء أن يقرأ ما يثير اهتمامه، وليستكشف بعدها الصحراء بنفسه رويداً رويداً، فربما ينتهي في مربع قضية فكرية ما، أو شَباك عقل مبدع، أو حتى فضاء مدرسة فكرية معينة؛ وأي من ذلك كله أمر محمود ما دام يعيننا على الارتقاء بحياتنا وعلاقاتنا بالعالم من حولنا.



انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.