«جمرات يارا»... تاريخ دولة في انحطاطها وتدهورها المريع

الأرمني «اللقيط» يروي لنا قصة «بلاده» في رواية الراحل حميد الربيعي

«جمرات يارا»... تاريخ دولة في انحطاطها وتدهورها المريع
TT

«جمرات يارا»... تاريخ دولة في انحطاطها وتدهورها المريع

«جمرات يارا»... تاريخ دولة في انحطاطها وتدهورها المريع

ثمة عودتان إلى مدينة الأحلام، بغداد. عودة أولى، أصلية فكر بها ونفَّذها الجد الأول لعائلة أرمينية منتصف خمسينيات القرن العشرين. وعودة لاحقة يلتزم بها جاكوبيان، الحفيد الباقي الوحيد من العائلة، بعد أن تصله رسالة إلى منفاه في باريس على جناح طير. تتصل العودتان بإشكاليات تأسيس الدولة والهوية، وتتحدد بموجبهما مصائر الجميع، وفي الطليعة منهم مصائر بغداد ذاتها وأحلامها، وحتى كوابيسها المرعبة. العودتان تتلازمان، إحداهما امتداد للأخرى، كأننا إزاء عودة واحدة بسياقين زمنيين متصلين، وهما معاً يشكلِّان مشكلة السرد الكبرى في رواية الراحل حميد الربيعي الأخيرة «جمرات يارا» (دار صفصافة: القاهرة، 2021». يقرِّر الجد، الفلاح الأرمني، بعد أن يشاهد فاضل الجمالي، وزير خارجية العراق يتحدث -آنذاك- في هيئة الأمم المتحدة عن دولته التي ترعى مواطنيها المختلفين في الدين والسياسة والعقيدة، أن الجمالي يشبهه، وأن عليه أن يعود إلى أصله المفترض. ولا تختلف كثيراً عودة جاكوبيان/ ريان عن عودة جده، سوى أن الحفيد لا يعود إلى مدينة الحلم، إنما إلى مدينة يمقتها، ويعرف أنها ترفضها وتكرهه فتصفه بـ«اللقيط»، ليبحث عن قصة أصوله عبر تيمة البحث عن قبر أمه يارا الأرمنية.
تستجيب قصة الأصول المفترضة لجدل السرد وتأسيس الدولة في العراق. وهي قضية نادراً ما تنبه لها نقّاد الرواية والقصة عامة في العراق، رغم اشتباك الرواية العراقية، لا سيما ما نُشر من نصوصها بعد عام 2003، بالسرد بصفته المقولة التأسيسية المعبرة عن الدولة، وهي كذلك في أصلها عند هيغل في محاضرات التاريخ، وفي نظرية الرواية عند المنظِّر المجري جورجي لوكاش، وفي مقولة الروسي باختين عن الرواية بصفتها نصاً غير مكتمل. كانت الدراسات النقدية عندنا، وإلى حد كبير في العالم العربي، يشغلها جدل السياسي مع الخطاب الأدبي، أو التحولات الاجتماعية المتصلة بتحولات السلطة، أو صور الاستبداد أو السجن في الرواية. وفي أثناء صخب الربيع العربي، قرأنا من حين لآخر دراسات أو مقالات تقارب رواية الديكتاتور، فصار الحكام العرب ممن أسقطتهم موجة ذلك الربيع العاصف -فجأة ربما- حكاماً ديكتاتوريين، لكن من النادر أن نقرأ مقالات أو دراسات تقرأ الرواية/ السرد بصفتها مقولة تأسيسية للدولة، وأغلب ما يصلنا هو دراسات مترجمة عن لغات العالم المختلفة عما تسميه «سرد الأمة» أو «الأدب والدولة»، وهو قليل على أي حال. «جمرات يارا»، مثل روايات عراقية أخرى، تحاول أن تصل ما انقطع في هذا السياق، مما بدأه غائب طعمة فرمان، لا سيما في روايته التأسيسية الأولى «النخلة والجيران»، ورواية مجايله فؤاد التكرلي اللاحقة «الرجع البعيد»، وصولاً إلى ثلاثية عبد الخالق الركابي المعروفة. وقد نقول إن الأمر ذو جذور بعيدة تتصل بالتحول العميق في بنية الكتابة العربية، في العراق مثلاً، من مقامات الألوسي إلى الرواية الإيقاظية، وليس ختاماً بـ«قصة جلال خالد» للسيد.

قصة الأصول
تفتح الرواية نصها بمشهد مكاني لا ينتمي ولا يتصل بمدينة الأحلام: بغداد؛ إنها «تمبكتو» البعيدة، في طرف الصحراء الكبرى في شمال «مالي» الأفريقية. يقصدها «ريان»، القناع الاسمي لجاكوبيان، ليحقق لأمه رغبتها في الوقوف على أصل آلة «الخشابة» التي كان أبوه «مزهر» يعزف عليها، فترقص يارا (زوجته لاحقاً) على وقعها. المشهد برمته يمثِّل كناية مكانية عن أمرين، أو بدقة أكثر عن أصلين، ما دمنا بصدد قصة/ رواية الأصول، وهما: الأصل المكاني البعيد كذلك عن بغداد، وهي أرمينيا التي قدم منها الأب/ الجد الأول، ومات قبل أن يصل إليها؛ والثاني الأصل المنفي للحكاية برمتها، وهو يتصل بـ«دولة» و«بلد» بُنيا سريعاً من أصول اجتماعية ثقافية ودينية - أثنية مختلفة، وربما متعارضة. في حانة الأقدار بمطار بغداد، وهي كناية مكانية أخرى عن حانة سيدوري التي لجأ إليها كلكامش، نعرف أن «ريان» يعود إلى بغداد التي يكرهها بعد ثلاثة عشر عاماً من المنفى الباريسي، عاد ليعرف قدره؛ إنه الآن بصدد الدخول إلى العالم السفلي. نادلة الحانة تسقيه خمراً ليتجرع البحث عن سكرة الموت. ثم يبدأ الحكي، بعدها، أمام ملك الحانة ذي اللحية البيضاء. نعرف أن «ريان» هو ابن «كاولي/ غجري» وأمه أرمنية، فهو «لقيط» في السجلات الرسمية للدولة، لا جنسية وطنية له، ولا لأمه وأبيه، وهو يعود بجواز سفر فرنسي.
لكن هل عاد «جاكوبيان/ ريان» إلى بغداد فقط لأجل أن يبني قبراً لأمه التي لا يتذكر حتى وجهها، بعد أن سلَّمته «يارا» طفلاً صغيراً إلى الأسطى طه، لتحميه من انتقام قاتل «الراقصات» في عراق التسعينيات، غضبان الحسن؟ بعد وصوله إلى مخبأه القديم في محلة قنبر علي ببغداد، يقوده أسطى طه إلى مرقد الولي الصالح، ويشرح له فكرته عن قبر يارا المتخيل، إنه بين قبري الولي واليهودي «ذي الثعبان»، فهل انتهت القصة؟ كلا. يعرف ريّان أن القصة كلها في بئر الأسطى طه. ولا بد، إذاً، من البحث عن يارا أو مكان دفنها. لا تنتهي القصة إلا بسرد أحداثها كاملة. ولأجل هذا، يعود «اللقيط» ليروي لنا قصة بلاد لم تعترف دولتها بأهله، ولم تلتزم بكلمة وزير خارجيتها وهو يعلن للعالم أن بلاده ترعى مواطنيها بطوائفهم ودياناتهم وقومياتهم المختلفة.

رواة متعددون
يتولى سرد أحداث الرواية أربعة رواة: ريان وهند وأسطى طه ثم نجمة الحسن. ويصلنا السرد عبر ضمير الشخص الثالث غالباً، عندما لا يسرد ريّان؛ حتى الأخير نجده أحياناً ينقل لنا الأحداث عبر ضمير الغائب، وتشاركه بوظيفة الراوي المتكلم نجمة الحسن في ختام قصة يارا. لا راوي واحد كما تفترض قصة الآباء المؤسسين، إنما رواة متعدِّدون ينتمون للقصة، عاشوا أحداثها، كما قال الأسطى طه لريان وهند اللذين يسمعان الآن بالقصة وأحداثها، في الأقل هذا شأن أسطى طه ونجمة الحسن. هؤلاء الرواة الأربعة ينجحون، ويا للمفارقة، في صياغة رواية ذات تواريخ وأزمنة مختلفة متناقضة حد التضاد؛ هذه الرواية هي، باختصار، تاريخ دولة في انحطاطها وتدهورها المريع. لنأخذ عودة الجد، الفلاح الأرمني، إلى أصوله المفترضة. متى حدثت؟ لا تقول لنا الرواية تاريخاً محدَّداً، وتذكر فقط منتصف الخمسينيات، وربما الأرجح أن نتحدث عن عام 1954. لماذا هذا التاريخ بالتحديد؟ لأنه التاريخ الذي ألقى فيه فاضل الجمالي، وزير خارجية العراق آنذاك، خطابه في هيئة الأمم المتحدة، وهو الخطاب ذاته الذي زرع في رأس ذلك الفلاح المعدم فكرة أن أصله من بغداد، مدينة الأنوار. وحدثت رحلة العودة بعده بعام أو يزيد. ثمَّ إن الرواية تتحدث عن تعداد سكاني في العراق، ولم ينظَّم تعداد عام في العراق طيلة عقد الخمسينيات سوى في عام 1957. تصل العائلة المكوَّنة من ثلاث بنات وغلام يافع صحبة الأب وأمهم إلى بساتين البرتقال قرب بعقوبة، ويجري حشرهم في مخيمات اللاجئين بين «شهربان» و«السعدية». تختصر يارا قصة عودة العائلة بإحدى رسائلها لريّان: إنها (أمه) قد جاءت إلى بغداد مع سبايا الآثوريين المبعدين عن سهل نينوى بعد أحداث «سميل» المعروفة. هذه الأحداث وقعت عام 1933، فكيف وصلت العائلة بعد خطاب الجمالي منتصف الخمسينيات، وكيف حُشر أفرادها في مخيمات الآثوريين؟ ريّان نفسه يحذرنا بقوله إنه ليس هناك راوٍ محدد «واحد» موثوق به لحكاية عودة العائلة إلى أصلها المفترض. ولا يتردد، وهو يروي التفاصيل، عن التشكيك بأصل الحكاية، ناقلاً عن رسائل أمه: «سنعرف لاحقاً أن نجمة الحسن هي من كانت تكتب الرسائل لريان بعد قتل يارا!». وأحياناً، تسعفه الذاكرة فيستعيد نتفاً من تلك الحكاية. فمن نصدق إذن؟ لا موثوقية، ولا تاريخ حقيقة؛ جاكوبيان نفسه، أو ريّان لاحقاً، يقول لنا إنه يستعين بالمخيلة عندما تعوزه الوقائع، فهل تصحِّح المخيلة وقائع التاريخ؟ ربما...
ثمة تاريخ واحد يتكرر بوتيرة منتظمة على امتداد فقرات الرواية، إنه الرقم ثلاثة عشر قرناً، ثلاثة عشر عاماً، ومثله إلى حد ما مدة اختباء ريان في بيت الأسطى طه، لكن هذا الانتظام لا يحاول كسر اضطراب التواريخ والأزمنة، فالاضطراب هو الأصل في كتابة السرديات الكبرى، كما تشرح لنا هند، ولنجمة الحسن، كيف أنهم يروون حكاياتهم على سطح البيت لتصعد بعدها إلى السماء، وتنتظر هناك حتى يجدها راوٍ ويصنع منها حكاية كبيرة تتولى إثارة الأسئلة الكبرى: سؤال الدولة، وسؤال الأمة، وسؤال هند التي برعت في صناعة عطر التراب، فاكتفت به في غياب ريان، وصارت تكلِّم النجوم وتستدعيها إلى فراشها على سطح دارهم. لكن سؤال الهوية يظل خاتمة متوقعة للرواية، بعد حكاية ملفقة تماثل حكاية تلفيق الهوية الوطنية التي حُرمت منها يارا ومزهر، فأدركها اللقيط ورواها.

- ناقد أكاديمي من العراق



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟