الحلقة (3): مصر بين ثورتي يونيو ويناير: سمات فارقة

* لم تكن 30 يونيو أو 3 يوليو إلا إنقاذا للدولة التي عانت من صراعات الاستقطاب الحاد بين أنصار الرئيس المعزول ومعارضيه
* في الثورتين معا كان الشعب يهتف سعيدا بدور الجيش الذي لم يصطدم به، كما فعلت الشرطة في الثورة الأولى، مؤكدا أن الشعب والجيش يد واحدة
* صعود عنف اجتماعي واستقطاب حاد بين أنصار الرئيس السابق محمد مرسي ومعارضيه، بلغ حد الحرق وحصار المقرات وحرقها والتعدي بالقتل المتبادل

تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات من فصول كتاب «من بوعزيزي إلى داعش: إخفاقات الوعي والربيع العربي»، من تأليف الكاتب والباحث السياسي المصري هاني نسيره الذي يعمل حاليا مديرا لمعهد العربية للدراسات بقناة العربية بدولة الإمارات. ورصد المؤلف في كتابه الصادر عن «وكالة الأهرام للصحافة» - والذي حصلت «الشرق الأوسط» على حق نشر حلقات من فصوله - سنوات الثورات العربية الأربع وتابع الكاتب تشابهاتها واختلافاتها، وحاول تفسير أسباب تعثر ثورات ونجاح أخرى في إسقاط من ثارت بوجهه، حين اشتعلت من جسد بوعزيزي بتونس ومن أشباهه في مصر، إلى الانتقال من دعوى الربيع العربي ووعده وأمنياته إلى حقيقة «داعش» الداهمة.
وفيما يلي الحلقة الثالثة من الكتاب:

30 يونيو
بينما يصر البعض على وصف ما تم في 30 يونيو على أنه لم يكن ثورة بل كان انقلابا، أو يكتفون بالوصف الثاني على ما تم إعلانه وما كان بعد 3 يوليو، نرى أنها كانت ثورة كتلك التي أسقطت نظام مبارك في فبراير سنة 2011، ففي كلتيهما تحرك الشعب أولا، وتضامن معه الجيش، فانسحب مبارك من المشهد أو ضغط عليه، بينما أصر الإخوان في مصر - كما هم في ليبيا - على البقاء فيه ولو بالدماء..
ربما يجوز ما يراه المعترضون المؤمنون بوصف الانقلاب دور الجيش الذي استجاب لأصوات الملايين التي خرجت في الشوارع، في عزل الرئيس الإخواني ومواجهة جماعته وفض اعتصام رابعة، ولكن من المهم أن نذكر ويذكروا أن مشهد 3 يوليو الذي ظهر فيه وزير الدفاع حينئذ، والرئيس المنتخب فيما بعد، كان بعد أيام طوال من الحراك والثورة، وكان آخر ما ظهر فيه بعد أن ظهرت ملايين هذا الشعب الثائر حينئذ، ولم تكن 30 يونيو أو 3 يوليو إلا إنقاذا للدولة التي استمرت صراعات الاستقطاب الحاد بين أنصار الرئيس المعزول ومعارضيه فيها 7 أشهر، لم تسلم فيها المقرات ولا المنازل ولا المساجد من اشتباكات، بل لم يسلم قصر الرئيس المعزول نفسه، لذا سنورد هنا خمس سمات فارقة بين الثورتين كتبناها بعد 30 يونيو مباشرة علها تفيد أو تصحح شيئا في قراءة المشهد، وفي قراءة حراك شعب أسقط حاكمين وقام بثورتين في عامين، مع نفينا لمسؤولية 30 يونيو عن كثير مما يحدث بعدها، من تخوين لثورة يناير من بعض أبواق التخوين بعد 30 يونيو، أو مما شق تحالف يونيو من قوانين أو إجراءات أو مواقف كان في مقدمتها فض اعتصام رابعة بالقوة في 14 أغسطس سنة 2013 بعد أن تحول منصة جهادوية تهدد الدولة والمجتمع، فحين نتكلم عن حراك 30 يونيو وثورته يبقى الحديث عند تاريخ 30 يونيو.. وفقط ولكل مقام مقال.

أولا: الجيش بين ثورتين. موقف واحد:
بينما استغرقت الثورة المصرية الأولى في 25 يناير سنة 2011 ثمانية عشر يوما، للنجاح واضطر الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك للتنحي والتخلي عن السلطة لصالح المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 11 فبراير سنة 2011، استغرقت الثورة المصرية الثانية في 30 يونيو يوما واحدا - كانت مخاضاته 7 شهور من التظاهر - منذ صدور الإعلان الدستوري - المعروف بالمحصن - في 21 نوفمبر، وقد استمرت بزخمها حتى 3 يوليو لتعلن خارطة طريق جديدة وفقها، وأعلنتها الدولة ممثلة في وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة بعد حوار امتد ساعات مع رموز القوى المجتمعية والدينية والسياسية، كانت المدة أقصر من الثورة الأولى ولكن كانت السياقات والمخاضات قبلها أطول وأكثر ثورية وتمتد عاما من حكم الرئيس المخلوع.
ولكن كما كان نتاج الثورة المصرية الثانية في 30 يونيو أصعب من الثورة الأولى، يبدو المسار الانتقالي كذلك بعدها أصعب من المسار الانتقالي بعد ثورة 25 يناير، لكونه خلع تنظيما أصوليا تسلطيا، مارس تسلطيته طيلة عام من الحكم والهيمنة، اتهاما دينيا وآيديولوجيا وإقصاء لآخرين من المسيحيين والمدنيين، واستقواء مستمرا بالشعبوية الدينية وتهديدها بتفجير البلد حين يتم الاعتراض على أي قرار أو ممارسة تصدر عنه، وصارت لغة الفصيل والحقيقة المطلقة والمؤامرة المبرر الوحيد لإجراءات تمكينه في الحكم، انقلابا على الديمقراطية والصناديق التي أعطته شرعيته.
أراد البعض، ولا زال، توصيفه، انقلابا عسكريا، رغم أن دور الجيش لم يختلف في الثورتين، متجاهلا عشرات الملايين التي خرجت في الشارع في 30 يونيو بشكل أكثر ضخامة والتحاما من ثورة يناير الأم، هذا رغم موقف الجيش في التحامه مع الشعب، ففي كلتا الحالتين تضامنت القوات المسلحة مع مطالب الشعب وما تراه الشرعية الشعبية، ولم تسع للاصطدام ولم تحاول وأدها على طريقة الجيش السوري أو ميليشيات جماعات السلطة المختلفة، ورغم أن البيان الثاني، وكما فهمت الثورة وقواها رسالة الجيش في بيانه الأول بتاريخ 10 فبراير سنة 2011 حيث اجتمع في غياب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة حينئذ، وأعلن أنه في حالة انعقاد دائم لمتابعة الأوضاع في مصر، وهو نفس اليوم الذي خرج فيه مبارك ليلقي خطابه الثالث مؤكدا تمسكه بالحكم حتى انتهاء ولايته ويفوض نائبه في اختصاصات رئيس الجمهورية وفقا للدستور[1]، وأصدر الجيش البيان الثاني بتاريخ 11 فبراير سنة 2011 وهو نفس اليوم الذي تنحى فيه مبارك، وأعلن تخليه عن الرئاسة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وألقاه نائبه حينئذ الراحل اللواء عمر سليمان نائب الرئيس! وهو نفس الموقف الذي وجدناه من القوات المسلحة المصرية أثناء انتفاضة الخبز عام 1977 حيث اضطرت الرئيس الراحل محمد أنور السادات للتراجع عن قراراته برفع الأسعار، قبل النزول[2]! كما وجدناه في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي في 28 يناير سنة 2013 حين فرض الطوارئ على مدن القناة، فلم يصطدم الجيش بالشعب أو الشعب بالجيش وتحولت حالة الطوارئ لحالة محبة للجيش وبغض للرئيس الذي لم يتراجع عن قراراته ورفض ممثلو مدن القناة ورموزها التواصل معه.
في الثورتين معا كان الشعب يهتف سعيدا بدور الجيش الذي لم يصطدم به، كما فعلت الشرطة في الثورة الأولى، مؤكدا أن الشعب والجيش يد واحدة، وبينما لم يتكلم فلول نظام مبارك الأسبق وغيرهم عن انقلاب عسكري أو خيانة أو ولاء متفهمين هذا الوضع المحرج لجيش من الشعب يتضامن مع الشعب، وجدنا في الثورة الثانية إصرارا وتزييفا للثورة يحمل اتهاما للجيش الذي لم يشارك في إدارة المرحلة الانتقالية بعدها، بوصفها كلها بأنها انقلاب عسكري! وسعي دؤوب لاستنفار الأنصار عليه في سيناء أو عبر التحرش بمؤسساته ودار الحرس الجمهوري في القاهرة، متجاوزين مخاضات ثورة يونيو التي امتدت لعام وخرجت فيها العديد من المليونيات التي تطالب مرسي بالرحيل وسقوط حكم المرشد!
- كان المدى الزمني الأول للثورة الأولى هو المخاض المطلوب، حتى تختمر الثورة شعبيا واجتماعيا، بعد أن كانت معارضة مبارك منذ عام 2004 منذ ظهور كفاية، التي خرجت من رحمها تمرد في الثورة الثانية، معارضة نخبوية، ومع انطلاق الشرارة التونسية والبوعزيزية والتقاطها في مصر في 25 يناير، كان قطع المسافة من التظاهرة الاحتجاجية إلى المليونية الثورية على مستوى الحشد الشعبي، كما أنها المسافة الخطابية والثورية بين المطالبة بـ«إصلاح النظام» إلى رفع السقف الشعبي مع تباطؤ إلى (إسقاط النظام)[3]، وهو ما صعد بقوة مع العنف الذي حدث مع الانفلات الأمني وانسحاب الشرطة ونزول الجيش ومهاجمة السجون، وهو ما ظلت أجهزة الدولة الأمنية تعاني منه طوال الفترة الانتقالية وربما حتى ثورة يونيو، وتكفي الإشارة إلى أن حوادث الإرهاب في سيناء حتى تاريخه تزيد على 12 ضعفا ما بعد الثورة طوال العهود السابقة قبل الثورة! وتكفي الإشارة إلى أن الحوادث الطائفية كانت الأعمق بعد الثورة عن قبلها! وأكثر تكرارا! نظرا للضعف أو الغياب الأمني في أحيان كثيرة! ولكن كانت ثمة فروق كثيرة يمكن رصدها بين الثورتين بعيدا عن محاولة نفي مؤيدي وفلول الرئيس السابق محمد مرسي للثورة الأكبر في تاريخ مصر والتظاهرات الأعظم ربما عالميا - حسب العديد من المراقبين - بأنها مجرد انقلاب عسكري، رغم أن آخر من ظهر فيه أو في تخطيطه الانتقالي المجلس العسكري نفسه، الذي أعطى الرئيس الإخواني السابق العديد من الفرص ضيعها جميعا!

ثانيا: غياب شعار إسقاط النظام وعودة الدولة:
لم يكن إسقاط النظام هو الشعار المرفوع أو المطلب الأساسي، منذ البداية في ثورة يناير؛ فلم تأت جمعة الرحيل إلا يوم 4 فبراير سنة 2011 بعد ثلاثة أيام من خطاب مبارك الذي تأثرت به القوى الثورية، ولكن ألغت تأثيره معركة الجمل قبل يومين، من هذه الجمعة يوم 2 فبراير، ولكن كان «إسقاط مرسي وجماعته» أو «المرشد» وليس إسقاط النظام هو الشعار المرفوع في 30 يونيو، وهو ما استمر شهورا قبل ثورة يونيو نفسها.
فقد ظهرت اللحظة الثورية التي تحققت في يونيو منذ أواخر نوفمبر، فيوم 25 نوفمبر حاصرت تظاهرات محدودة من أهالي سيناء اجتماعات لأربعة وزراء وهتفت بـ«سقوط الديكتاتور»، بعد إعلان مرسي المحصّن! وكانت مليونية التحرير في 30 نوفمبر سنة 2012 بعنوان جمعة التراجع أو الرحيل.
نؤكد من هنا أن ثورة 30 يونيو لم تولد في فراغ ثوري، ولكن سبقتها 7 أشهر من المخاضات الثورية، منذ صدور الإعلان الدستوري المحصن في 21 نوفمبر سنة 2012 شهدت تظاهرات ضخمة تمت فيها محاصرة متبادلة للمؤسسات بما فيها قصر الاتحادية، وتمت اشتباكات بعد هجوم أنصار الرئيس السابق محمد مرسي على المعتصمين السلميين في محيط الاتحادية في 5 ديسمبر سنة 2012 راح ضحيتها عدد من الصحافيين والمواطنين، وكان عدد القتلى حتى نهاية عدد مرسي من المدنيين 154 قتيلا فقط[4]، باستثناء القتلى العسكريين والأمنيين في سيناء وأثناء الاشتباكات المختلفة في مناخ من الانفلات الأمني السائد بعد الثورة وبعد عهد الرئيس السابق!
- لم تكن ثورة 30 يونيو ثورة شعب فقط ولكن كانت ثورة مؤسسات الدولة أيضا؛ علقت الجمعية العمومية الطارئة لمحكمة النقض أعمالها في 29 نوفمبر سنة 2012، وحشد القضاة لجمعياتهم العمومية العديد من المرات لرفض قرارات الرئيس المخلوع محمد مرسي، ورفض المجلس الأعلى للقضاة في مايو ويونيو محاولات تمرير قانون السلطة القضائية رغم التطمينات التي تم التراجع عنها من مؤسسة الرئاسة حينئذ، وتظاهر شباب النيابة العامة ضد النائب العام المعين من قبل الرئيس السابق محمد مرسي وأجبروه على الاستقالة التي عاد فيها في يناير سنة 2013، وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة متابعا لكل هذه المجريات حتى قرر التدخل الناعم للإصلاح وتجسير الحوار بين الرئاسة والمعارضة وإعطاء العديد من الفرص في هذا السياق ولكن لم ينجح.
شعبيا وعلى سبيل المثال لا الحصر قامت في 30 نوفمبر مليونية كانت بعنوان «جمعة التراجع أو الرحيل»، وتم انتقاد مرسي وخطيبه في مسجد الشربتلي الذي يصلي به في منطقة التجمع الخامس، وتسلم الدستور من تأسيسيته في 1 ديسمبر بعد أن حوصرت المحكمة الدستورية العليا يوم 2 ديسمبر لتمنع من الحكم بخصوص تأسيسيته وحل مجلس الشورى، وقد أعلن نادي القضاة فيما بعد أن 90 في المائة من القضاء العالي أو الجالس يرفضون المشاركة في الإشراف على مشروع هذا الدستور فتم إبعادهم والاستعانة بمعاوني النيابة حديثي التعيين وأعضاء من هيئة قضايا الدولة المختلف حول صحة نسبتها للهيئات القضائية.
وكما حوصرت المحكمة الدستورية العليا في 2 ديسمبر، تمت محاصرة دار القضاء العالي عشية صدور قرار عزل النائب العام من قبل أنصار الرئيس المخلوع كما حوصرت ثانية في أبريل سنة 2013، ورفعت شعار تطهير القضاء وكأن القضاء عليه أن يكون تابعا للسلطة أو أن يكون مدنسا!
وفي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر سنة 2012 كانت مسيرة الصحافيين لميدان التحرير، واحتجبت 11 صحيفة مصرية عن الصدور، وخرجت مليونية «الإنذار الأخير» في التحرير وأمام قصر الاتحادية ولكن الرئيس المعزول استمر في غيه، وفي 7 ديسمبر كانت مليونية جمعة «الكارت الأحمر» ضد مرسي، والتي بدأ فيها كذلك حصار مدينة الإنتاج الإعلامي من قبل جماعة حازمون.
من هذه المخاضات ولدت ثورة يونيو، من المخاضات الثورية المستمرة بعد حمل دام سبعة شهور على الأقل منذ الإعلان الدستوري المحصن في 21 نوفمبر سنة 2013 حتى الذكرى الأولى لتنصيب محمد مرسي في 30 يونيو سنة 2013، فكانت الثورة التي خلخلته حتى عزلته، آتية من مخاض عام، يشبه عام الحزن، سادت ولفت الاشتباكات والاحتجاجات ومشاهد العنف والقتل على أسباب السياسة أو على أسباب العيش كل مصر، وعلى الحدود مع الإرهاب الصاعد في سيناء في عهد مرسي وغضبا بعد عزله.
لم يتراجع مرسي وظل حتى النهاية متشبثا بتسلطيته - دون تعديل - وجماعته، في 3 يونيو سنة 2013 اجتمع الرئيس بعد دعوته للحوار مستغلا أزمة سد النهضة مع المعارضة، التي رفض جسمها الرئيسي ممثلة في جبهة الإنقاذ حينئذ دعوته منذ أحداث الاتحادية والإعلان الدستوري المحصن في نوفمبر سنة 2012، واجتمع به من اجتمع من الأحزاب الإسلامية المتحالفة مع الإخوان وبعض الوجوه الوسيطة الأخرى، التي تعبر عن أفرادها، ولكن فوجئ المصريون والعالم بأن الاجتماع الذي يخص مسألة مصيرية للمصريين مذاعا على الهواء دون علم الحضور، ولم يتخذ الرئيس المخلوع أي إجراء ضد منظمي الاجتماع والداعين له، فإصراره على الولاء التام لعشيرته وأوليائه كان السمة المميزة لأدائه على كل المستويات، والمثيرة باستمرار لقوى الثورة ومؤسسات الدولة في الآن نفسه.

ثالثا: نضج وتطور الظاهرة المدنية:
بينما لم تكن لثورة 25 يناير سنة 2011 خارطة واضحة للمرحلة الانتقالية بعد رحيل مبارك، وهو ما اتضح تخبطها مبكرا في معركة «الدستور أولا أم الانتخابات أولا» في مارس من نفس العام، وصعود فاعلين جدد في المشهد السياسي كانوا فاعلين رئيسيين فيما بعد شأن الدعوة السلفية التي أعلنت حزبها رسميا في يونيو من نفس العام، وسمى أحد دعاتها الاستفتاء الدستوري في 19 مارس «غزوة الصناديق» كما أن إدارة المجلس العسكري - ولم تكن حكما برأينا - لهذه الفترة اتسمت بالتخبط والارتباك ومحاولة التوافق دون حسم بين القوى الإسلامية الشعبية الصاعدة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين ومن انضاف لهم من السلفيين ومن الجماعة الإسلامية التي لم تشارك في الثورة أصلا، وعرفت الفترة الانتقالية أحد عشر حزبا إسلامويا عكس ما لم ينجح في جمع توكيلات للإشهار، ومع منهج تديين السياسة وتخوين وتشويه المخالفين فكريا أو عقائديا نجحت التنظيمات الإسلامية ذات القواعد الشعبية والفضائيات الدينية في تشويه قوى الثورة سريعا، والصعود لسدة الحكم في مصر وفي تونس وفي ليبيا حتى راجت لدى البعض مقولة «ربيع الإسلاميين». ولكن هذه المقولة التي تأبت على صبر ومرحلية النموذج التركي الذي تلتمسه حينا وترفضه أحيانا، كما كان في دعوة إردوغان لهم للعلمانية في أغسطس سنة 2011، بل سعت لحرق المراحل والتقوى بخطابات وممارسات إقصائية من أرضية دينية للمعارضين، لم تمنحهم القبول رغم نجاحهم في الانتخابات التشريعية، وإصرارهم على الاستحواذ تشريعا رغم عدم دستورية ترشح الأحزاب على الثلث الفردي، وهو ما استجاب له المجلس العسكري حينئذ ولكن رفضته المحكمة الدستورية في حكمها في 14 يونيو سنة 2012 وهو ما خدم مرسي في جولة الإعادة وأكسبه المزيد من تعاطف قوى مدنية وشعبية عادية! وكان التصويت الشعبي مدفوعا دائما في الانتخابات البرلمانية - مجلس الشعب - حيث يقاطع المصريون في الأغلب انتخابات مجلس الشورى نظرا لوظيفته الاستشارية غير المهمة برأيهم، كان تصويتا مدفوعا بالترهيب الديني الخطابي والممارساتي في آن واحد! مع غيبة تنظيمات حزبية وخطط استراتيجية واعية إعلامية وسياسية تساعد على تحرير الناس من هذا التماهي بين الدين المقدس وبين السياسة النسبية والتطابق بين الحزب ومقولة أنه حزب الله أو المتحدث باسمه واسم طائفته المنصورة!
عقب يناير لم تستوعب القوى الثورية درس التنظيم، فالتنظيمات لا تواجهها إلا تنظيمات والفيسبوكيات تظل شظايا في العالم الافتراضي لا يتجاوز تواصلها وظيفة النشر والوعي أحيانا، كما لم تستطع بعض القوى المدنية أن تدافع أو تعرض كما يجب مقولة المدنية، التي تبناها الإخوان على خجل ورفضها السلفيون والجهاديون بوضوح، ونشطت الفضائيات الدينية في تكفيرها وتخوينها، مساوين بينها وبين العلمانية الشاملة التي تنكر المطلق، رغم اعتراف أمثال إردوغان والغنوشي وحتى العريان بما كان يسمى العلمانية المؤمنة، وكان عبد الوهاب المسيري يصف نفسه بالعلمانية الجزئية، فكل ما هو دنيوي علماني ومدني حتى ولو كانت الأحكام الفقهية فهي ليست نصا مقدسا في النهاية! طالما جاز عليها الصواب والخطأ فقد جازت عليها النسبية والاختلاف!
كما لم تنجح القوى المدنية والثورية - رغم إلحاحها على إسقاط النظام وبقاياه - أثناء مخاضات الثورة وبعدها، لم تطرح أي خطوط عامة لشكل النظام الجديد والبديل، الذي تود بناءه، وكانت سيولة وشتات الائتلافات الثورية عند شبابها، ونجح بعضهم في المراهنة على الصدام مع العسكري، وتحميله تبعة انتمائه، ولكن كان الأخطر برأينا تأخر فكرة التنظيم عند الكثيرين من ممثلي وقوى الثورة، فبينما تبخر بعضهم وفقد مصداقيته تفككت بعض أحزابهم، كما لم تقم كيانات جديدة معبرة عن الحالة الجديدة، وأعاق شباب الإخوان الذي كان جزءا من ائتلاف شباب الثورة فكرة إنشاء حزب معبر عنهم في مارس من نفس العام، ولم نر حزبا يعبر عن أحد ممثليها إلا متأخرا فظهر حزب الدستور في أبريل سنة 2012 وظهر بعده التيار الشعبي في 21 سبتمبر سنة 2012، وتأخر ظهور جبهة الإنقاذ لما بعد إعلان 21 نوفمبر سنة 2012 بيوم واحد، كما تأخر ظهور أحزاب أخرى كالمؤتمر لمارس سنة 2013 وغيرها، ولكن يظل يحسب لمحمد مرسي أنه وحد المعارضة التي فشل الجميع في توحيدها وصار يخشى من شتاتها بعد ذهابه وعزله عقب ثورة 30 يونيو سنة 2013.
كان صعود الإسلاميين، وفي مقدمتهم الفصيل الإخواني طبيعيا ما بعد 25 يناير، حيث ملأوا فراغا تنظيميا متاحا لتنظيمات الإسلاميين التي لم ينكر بعضها أنه لم يشارك في ثورتها أصلا كالجماعة الإسلامية المصرية وكالدعوة السلفية في الإسكندرية، وإن عادوا عن هذا الاعتراف فيما بعد مؤكدين على مشاركة أفرادهم ولكن ليس بصفة تنظيمهم، وتحولت صورة الثورة فيما بعد لكونها ليست ثورة بوعزيزي وخالد سعيد ولكن ثورة من خرجوا من السجون بتهم التطرف والإرهاب، وعاد بعضهم عن مراجعات وقف العنف رغم تحولهم للعمل السياسي، كالجماعة الإسلامية مع قيادة آل الزمر لها وبعض صقورها مثل عاصم عبد الماجد وصفوت عبد الغني المتحالفين مع جماعة الإخوان المسلمين، هذا بالإضافة للخطاب الاتهامي والتكفيري الذي صعد إعلاميا واجتذب مشاعر الكراهية والتمييز لدى العوام، الذين لم يفضهم عنه سوى التمرد على أوضاعهم المعيشية والاجتماعية والأمنية بعد التجربة.
كل هذه المخاضات الثورية التي عرضنا لها في موضع آخر كانت كفيلة بالإصرار على إسقاط حكم الجماعة التي تخبطت داخليا وخارجيا رغم حصولها على ما يقارب 20 مليار دولار مساعدات خارجية ولكن لم تمتلك رؤية للدولة والحكم كما كانت فاعلة ومبدعة في المعارضة! ولم يستطع ولا جماعته التفريق بين ما سماه القيادي والمفكر في الجماعة الإسلامية المصرية ناجح إبراهيم التمييز بين فقه الجماعة أو التنظيم من جهة وفقه الدولة من جهة أخرى.
فلم يكن الاعتقاد السائد هو أن ثمة سرقة للثورة من الرئيس الذي نجح بدعوى «إنقاذها» فقط ولكن كان هناك اعتقاد بأنه يتم اختطاف الدولة من قبل رئيس لا يفكر إلا عبر عشيرته ولصالحها، فقد اعتمد الرئيس السابق محمد مرسي منهج أخونة الدولة والتشريع عبر المباغتة والاستحواذ على الجميع، وهو ما هدد بنى ومؤسسات الدولة جميعا، القضائية والأمنية والدستورية والسياسية، واستنفرها ضده كما استنفر سائر القوى الثورية المعارضة والشبابية بل بعض المتحالفين معه في السابق، فكانت ثورة 30 يونيو ثورة الثوار والدولة معا، تضامن معها القضاء منذ البداية بل كان جزءا منها، ثم تضامنت معها الشرطة وأخيرا تبناها الجيش والأزهر والكنيسة ووضع خارطة طريقها شباب الثورة أنفسهم، ويمكن تحديد سمات الاختلاف في ثلاث سمات هي:
1- تنظيم قوى الثورة وفعاليتها الاجتماعية وتوحد خطابها في مواجهة النظام المخلوع، والتصالح مع النظام وسائر مؤسسات الدولة في مواجهة التيارات المنظمة المؤيدة للرئيس المخلوع.
2- كان تضامن مؤسسات الدولة مع الثورة ضد السلطة الإخوانية، طبيعيا لعدد من الأمور:
أ‌- استشعارها الخطر على بنيتها ومؤسساتها وأمنها القومي خارجيا وداخليا مع ارتباكات سياسات الرئيس السابق محمد مرسي وتخبطاته المستمرة!
ب‌- انتفاء المشروعية القضائية لمؤسسات السلطة التي أقامها الرئيس المخلوع دستوريا وقضائيا ورفضها شعبيا مع تدشين أنصاره في وقت سابق لفكرة محاصرة المؤسسات! التي اصطلت بها مؤسساتهم فيما بعد وخاصة في الشهرين الأخيرين حين ضغط أفراد الشرطة على مؤسساتهم لعدم حماية مقرات الجماعة، والالتحام مع الثورة الشعبية المعارضة.
ج- صعود عنف اجتماعي واستقطاب حاد بين أنصار الرئيس السابق محمد مرسي ومعارضيه، بلغ حد الحرق وحصار المقرات وحرقها والتعدي بالقتل المتبادل، مما كان يستدعي الانتقال لمسار ثوري ودستوري جديد، عجز الرئيس المخلوع عن استيعابه، وكان لا بد من تجاوزه نحو خارطة انتقال جديدة، التزمت فيها مؤسسات الدولة بما طرحته حملة تمرد من تصور للرئاسة في المرحلة الانتقالية وتوليها من قبل رئيس المحكمة الدستورية العليا كأكبر هيئة قضائية في البلاد وتعديل الدستور وغير ذلك.
د- تعرض ملفات السلم الاجتماعي والأمن القومي للخلط سواء فيما يخص حياة المواطن العادي، أو حدود السيادة، أو مشكلة المياه والأنفاق.
في تداعيات الإعلان المحصن في 21 نوفمبر وتطورها بشكل متزايد، يمكن القول إنه في 7 شهور كانت العودة الناعمة القوات المسلحة للتماس مع الشأن السياسي منذ تولي مرسي الحكم في 30 يونيو سنة 2012 حيث دعت في بيان تلفزيوني يوم 8 ديسمبر أكدت فيه «أن منهج الحوار هو الأسلوب الأمثل للوصول إلى توافق يحقق مصلحة الوطن والمواطنين» وهو ما تكرر في 11 ديسمبر حيث دعت القوات المسلحة لحوار وطني بين القوى السياسية والثورية من جهة وبين الرئاسة من جهة أخرى، ولكن بينما قبلت القوى السياسية وجبهة الإنقاذ الحوار رفضته الرئاسة وصرح المتحدث باسمها حينئذ أنه ليس من حق الجيش الدعوة لحوار، ولكن الرئيس هو من يدعو! وتم توجيه إهانات مبطنة لمحاولة التوافق والتوفيق بين الرئاسة الإخوانية والقوى السياسية، التي رفضت أي حوار رسمي بعد أحداث الاتحادية، مع الرئاسة فقد شمل الاستياء العام القوى الثورية ومؤسسات الدولة معا، فرغم أن محمد مرسي نجح بوعود إنقاذ الثورة وتحقيق أهدافها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إلا أنه حاول وأدها وإقصاء قواها والتنكر لأهدافها، كما أنه حاول بكل ذريعة السيطرة وحده وجماعته على مؤسسات الدولة والصدام معها وتطويعها نحو تمكين سيطرته بكل شكل.
طالبت القوى السياسية ممثلة في جبهة الإنقاذ وحزب النور السلفي وحزب مصر القوية باستجابة الرئيس للدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، بينما كانت التظاهرات الضخمة لثورة يونيو مصرة على الارتفاع بالسقف حتى نهايته، يأسا من رئيس عهد منه منذ الإعلان الدستوري في 21 نوفمبر سنة 2012 العناد والمراوغة وعدم الاستجابة لمطالب الجماهير، والانحياز فقط لفصيل دون الجميع، والفشل على مستوى جذب الشعب له عبر أي إجراءات أو إصلاحات تحسن من مستوى معيشته، رغم حصوله على قروض من الخارج تقارب 20 مليار دولار! من عدد من الدول العربية!
من هنا كانت «الثلاثون من يونيو» ثورة من أجل الثورة والدولة معا، فقد تضامنت مع تظاهراته، غير المسبوقة مصريا وعالميا، كل مؤسسات الدولة، تضامنت معها الشرطة والقضاء والمؤسسة العسكرية، فقد أكدت القوات المسلحة مرارا في تصريحات وبيانات عديدة أنها تستمد شرعيتها من الشعب من «شرعية الشعب» وأنها تحمي تظاهراته السلمية وطالبت الرئيس المخلوع ثلاث مرات بالحوار والاستجابة للمطالب المشروعة للشعب دستوريا واجتماعيا وأمنيا، ولكن أضاع الرئيس المخلوع كل الفرص، كما تعرضت المؤسسة العسكرية لإهانات مستمرة من قبل جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، اضطرت الرئيس السابق شخصيا للذهاب للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وتقديم اعتذاره عن عناصرها.

(يتبع غدا بالحلقة الرابعة)
* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

الحلقة (2): الموجة الثانية للثورة في مصر وتونس

 

الحلقة (1): اتجاهات الثورات العربية في 4 سنوات