فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل

بين أبرز التحديات الفقر وشكوك المواطنين بنيات «اللاعبين الكبار»

فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل
TT

فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل

فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل

حالة ارتباك تسود منطقة الساحل الأفريقي، فتنظيما «القاعدة» و«داعش» الإرهابيان مستمران في التوسع نحو مناطق جديدة، ودول الساحل الهشة والفقيرة لا تزال عاجزة عن المواجهة والوقوف وحدها. أما المجموعة الدولية بقيادة فرنسا، فتبدو خططها لمواجهة الإرهاب في الساحل مرتبكة، تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، بسبب الوضع العالمي المضطرب منذ أن ضربت جائحة «كوفيد - 19» المنظومة الدولية في الصميم.
تلك هي الصورة التي كرّستها القمة الأخيرة التي عقدها قادة دول الساحل وفرنسا في العاصمة التشادية نجامينا، يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، والتي قرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام من انعقادها، الامتناع عن حضورها شخصياً، مكتفياً بالمشاركة عبر تقنية الفيديو من مكتبه داخل قصر الإليزيه في العاصمة باريس.
القمة، التي سبقتها تصريحات ماكرون حول خطة جديدة قد تقود إلى تقليص عدد الجنود الفرنسيين الموجودين في الساحل، لم تتخذ أي قرار بهذا الخصوص، وهكذا بقي العديد من الأسئلة عالقاً حول مستقبل الاستراتيجية العسكرية الفرنسية تجاه الساحل، وهي التي تدخلت عسكرياً في هذه المنطقة بطلب من دولة مالي خلال يناير (كانون الثاني) 2013 لمنع سيطرة تنظيم «القاعدة» على العاصمة باماكو في الجنوب، بعدما التنظيم بسط نفوذه عام 2012 على شمال البلاد.
أطلق الفرنسيون في مطلع عام 2013 عملية «سيرفال» العسكرية المكونة من 3 آلاف جندي، لضرب معاقل تنظيم «القاعدة» في شمال مالي، على ألّا تستمر العملية العسكرية لأكثر من سنة. وحقاً، نجحت «سيرفال» في مهمتها الأولى فانسحب مقاتلو «القاعدة» من المدن واختفوا وسط الصحراء الكبرى، ليظهر الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند في مدينة تمبكتو التاريخية المالية ظهور الفاتحين وسط احتفاء شعبي كبير.
بيد أن النصر الفرنسي لم يعمّر طويلاً؛ إذ سرعان ما نظم مقاتلو «القاعدة» صفوفهم وأطلقوا «حرب عصابات» طويلة الأمد. بل إنهم وسّعوا نطاق عملياتهم الإرهابية لتشمل، بالإضافة إلى مالي، كلاً من النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين؛ ما أرغم الفرنسيين حينها على إنهاء عملية «سيرفال»، وإطلاق عملية جديدة تحت اسم «برخان» عام 2014، قوامها 4500 جندي. ومن ثم، وضعت باريس استراتيجية أمنية جديدة عمودها الفقري إطار إقليمي جديد هو «مجموعة دول الساحل الخمس»، التي ضمت موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد.
منذ 2015، شكلت «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، بمختلف أفرعها، تحالفاً جديداً حمل اسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». وفي العام نفسه، دخل تنظيم «داعش» على الخط، ووصلت الحرب على الإرهاب ذروتها في المنطقة. وعندها، قررت فرنسا خلال العام الماضي رفع عدد جنودها في المنطقة ليصل إلى 5100 جندي، وأعلنت أن تنظيم «داعش» هو عدوها الرئيس في منطقة الساحل.
كانت فرنسا تنفق سنويا قرابة مليار دولار أميركي على أنشطتها العسكرية والتنموية في الساحل، بينما خسرت أكثر من خمسين جندياً، ولو أنها حققت مكاسب عسكرية مهمة، عندما حيدت المئات من مقاتلي «القاعدة» و«داعش»، وقتلت عدداً كبيراً من القادة، وبالذات، عبد المالك دروكدال، زعيم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» ومؤسسه، منتصف العام الماضي.
رغم كل ذلك، بقي الوضع الأمني في تدهور مستمر، بل إن الاستخبارات الخارجية الفرنسية أعلنت الشهر الماضي أن تنظيم «القاعدة» وضع استراتيجية لتوسيع دائرة نفوذه لتشمل مناطق من غرب أفريقيا وخليج غينيا. كذلك، اتسعت دائرة الصراع العرقي في مالي وبوركينا فاسو، وتأزمت الأوضاع السياسية والاجتماعية في المنطقة، وأصبح الوضع بشكل عام أكثر صعوبة وتعقيداً، خاصة بعد الانقلاب العسكري العام الماضي في مالي، وانتخابات رئاسية تثير الجدل في كل من النيجر وتشاد وبوركينا فاسو.
وبالتالي، في ظل العجز الكبير لدى دول الساحل عن المواجهة العسكرية، والتحفظ الألماني (الأوروبي) على التورط العسكري في المنطقة، والموقف الأميركي غير الواضح حتى الآن، تجد فرنسا نفسها فيما يشبه «الفخ». فلا هي تستطيع الاستمرار في عملية عسكرية تكلفها خسائر مادية وبشرية كبيرة، ولا يمكنها – في المقابل – أن تنسحب من منطقة نفوذها التقليدي في أفريقيا لصالح تنظيمات إرهابية تستهدف مصالحها الاقتصادية الحيوية، وتشكل تهديداً لأمنها القومي، وأمن أوروبا والعالم.

تدويل الحرب
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صريحاً خلال المؤتمر الصحافي الختامي للقمة الثلاثاء الماضي؛ إذ أعلن أنه «فكّر» في جميع الخيارات والسيناريوهات، واصفاً الانسحاب الفوري بأنه «خطأ». إلا أنه مع ذلك ترك الباب مفتوحاً أمام انسحاب تدريجي يبدأ بعد فصل الصيف المقبل، من دون أن يحدد ملامح هذا الانسحاب التدريجي أو تفاصيل عنه.
يراهن الرئيس الفرنسي على قوة الكوماندوس الأوروبية «تاكوبا» التي شُكلت خلال العام الماضي بمبادرة فرنسية، وكان هدفها الأبرز رفع مستوى الانخراط الأوروبي إلى جانب فرنسا في الحرب على الإرهاب في الساحل، لا سيما، بعد الصعود القوي لتنظيم «داعش» في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو... ذلك المثلث الذي يوصف بأنه «الخاصرة الرخوة لمنطقة الساحل» الأفريقي. إلا أن الخطة الفرنسية تواجه بعض الصعوبات. ذلك أن القوة الأوروبية «تاكوبا»، رغم مشاركتها في بعض العمليات العسكرية الميدانية العام الماضي، ما تزال في بدايات مرحلة التشكل. والسبب هو إحجام الدول الأوروبية عن الانخراط فيها، خاصة ألمانيا. وفي حين أعلنت دول أوروبية عن استعدادها لإرسال جنود (إستونيا، والسويد، والتشيك، والبرتغال، وإيطاليا، وصربيا، وهولندا، والدنمارك، واليونان، وبلجيكا، والمجر، والنرويج)، فإن الأمور تسير ببطء كبير.
الخطة الجديدة التي أعلن عنها الرئيس ماكرون تسعى إلى أن يصل قوام القوة الخاصة الأوروبية إلى ألفي جندي، بالإضافة إلى 500 جندي فرنسي، وأن تعمل في وحدات خاصة تجمع الأوروبيين مع جنود من دول الساحل، وهدفها الرئيسي دحر التنظيمات الإرهابية وإعادة نفوذ الدول إلى المناطق المحرّرة. وفي المستقبل القريب، من المقرر أن تحل القوة الأوروبية تدريجياً محل القوات الفرنسية، على أن يكون الهدف على المدى البعيد تسليم قيادة العمليات للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس. وللعلم، أعلنت تشاد هذا الأسبوع، أنها سترسل 1200 جندي إلى منطقة المثلث الحدودي، بين النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، للعمل إلى جانب الأوروبيين والفرنسيين، في حين يتأهب الاتحاد الأفريقي لإرسال قوة أفريقية قوامها ثلاثة آلاف جندي.
أيضاً، ما زال أمام هذه الاستراتيجية عقبات كبيرة، أبرزها النقص الحاصل في تمويل وتجهيز وتدريب القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل، والتي يعد الاتحاد الأوروبي مموّلها الرئيسي (400 مليون يورو)، بالإضافة إلى بعض دول الخليج العربي. وفي المقابل، ترفض الولايات المتحدة الأميركية التعامل مع القوة على أنها «قوة إقليمية»، وتكتفي بتقديم مساعدات ثنائية للجيوش المحلية. أما فرنسا فهي شريك ميداني للقوة العسكرية المشتركة لدول الساحل، تؤمن الجانب الاستخباراتي والتقني، وتخطط للعمليات العسكرية النوعية.
الرئيس الفرنسي أعلن، من جهته، أن القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل تتطلب 40 مليون يورو سنوياً، والسبيل الوحيد لتوفير هذا التمويل هو أن توضع هذه القوة العسكرية المشتركة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا أمر ظلت تعارضه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب طيلة العامين الماضيين. إلا أن ماكرون أعرب عن أمله في أن تتغير الأمور خلال الأشهر المقبلة، بعدما وصل الديمقراطيون إلى البيت الأبيض، وبالأخص، بعد الرسائل الإيجابية التي بعثت بها إدارة الرئيس الجديد جو بايدن تجاه منطقة الساحل. وفي هذا السياق، قال مصدر دبلوماسي غربي لـ«الشرق الأوسط»، إن موقف الإدارة الأميركية الجديدة سيكون حاسماً في مستقبل المقاربة الأمنية الفرنسية تجاه منطقة الساحل، وربما يكون ترقب هذا الموقف الأميركي هو سبب «الضبابية» التي سادت قمة نجامينا الأخيرة.
إحباط شعبي
على صعيد متصل، يجد صناع القرار في فرنسا ودول الساحل أنفسهم أمام ضرورة تسيير تعقيدات دولية شائكة بخصوص حرب طويلة الأمد، كلفتها المادية والبشرية باهظة. ويتوجب عليهم أيضا مواجهة رأي عام محلي أصبح يلعب دورا مهما في هذا الملف، خاصة في بعض دول الساحل التي ظهر فيها رأي عام مناهض للوجود العسكري الفرنسي والأجنبي. وكان بين أبرز المؤشرات وأحدثها المظاهرة التي سارت في العاصمة المالية باماكو الشهر الماضي، واستخدمت الشرطة القوة لتفريقها؛ لأنها كانت ترفع شعارات مناهضة للوجود العسكري الفرنسي في البلاد، وتصف فرنسا بأنها «قوة احتلال».
وهنا يفسر باكابيني كيتا، الباحث السياسي في دولة مالي، هذا التيار الشعبي المتصاعد ضد التدخل الفرنسي، بأنه «نابع مما يجري على الأرض؛ فالحرب على الإرهاب في هذه المنطقة بدأت منذ قرابة عشر سنوات، والناس هنا تحس بأن الوضع يتدهور، ليس هنالك أي تقدم على مستوى المعاش اليومي للسكان».
ويعتقد كيتا، أن الرأي العام في بعض دول الساحل، وخاصة في مالي، بدأ يتبنى وجهة نظر تقول، إن «فرنسا تدخلت ليس من أجل حماية المنطقة من خطر الإرهاب فحسب، وإنما لحماية مصالحها بالدرجة الأولى». وهنا يشير إلى مناجم اليورانيوم في شمال النيجر التي تستغلها شركة «آريفا» الفرنسية، واستثمارات شركة «توتال» النفطية الفرنسية. ويضيف كيتا، أن هنالك من يعتقدون أن «فرنسا تجعل من الإرهاب مبرراً للبقاء من أجل حماية مصالحها ونفوذها. بل إن بعض الماليين بات يتساءل عن مدى جديتها في القضاء على خطر الإرهاب»، على حد تعبيره.
من ناحية ثانية، رغم تصاعد الأصوات المناهضة للوجود العسكري الفرنسي، فهنالك من يعتقدون أن في الأمر بعض التضخيم الإعلامي، على غرار الدكتور المصطفى فاتي، الأستاذ الجامعي والباحث الموريتاني في مجال الأمن والاستقرار بمنطقة الساحل. فاتي يعتقد أن «أي وجود عسكري أجنبي إذا استمر لسنوات في منطقة معينة، يثير بعض الحساسية لدى السكان المحليين، وخصوصاً، حين تركز التغطية الإعلامية على العمليات المسلحة وأعداد القتلى. ولكن هذا لا يعكس بالضرورة رفضاً شعبياً حقيقياً، بقدر ما هو إحساس لدى البعض بأن الجانب العسكري هو المسيطر على الاستراتيجيات والمقاربات». ويضيف فاتي، أن سبب هذا الإحساس بالإحباط لدى الشعوب هو «غياب التغطية الإعلامية لما يتحقق من مشاريع تنموية. ففي حين يستحوذ الجانب العسكري على حيز أكبر من التغطية الإعلامية، لا يتكلم أحد عن إطلاق 18 مشروعاً تنموياً عملاقاً في منطقة الساحل خلال الأشهر الماضية».
ويعتقد الأستاذ الجامعي الموريتاني، أن المقاربة الأمنية المعتمدة من طرف فرنسا ودول الساحل «لم تفشل» في تحقيق أهدافها. ويؤكد أنها «إنما وضعت لتنفذ على المدى الطويل، ولا يمكن أن نحكم عليها الآن بالفشل؛ لأن تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الساحل ليس بالأمر الهيّن... والمنطقة شاسعة جغرافياً، وتتقاطع فيها تنظيمات تمارس الكثير من الأنشطة غير القانونية، ولا يمكن القضاء عليها في فترة وجيزة».
كذلك، يؤكد فاتي، أنه لولا التدخل الفرنسي والتعاون مع دول الساحل «لكانت الحركات المسلحة تسيطر اليوم على المدن الكبيرة، وتزعزع الأمن في المنطقة عموماً، لكن المقاربات الأمنية التي وضعتها فرنسا ومجموعة دول الساحل الخمس لعبت دوراً كبيراً في إرغام هذه التنظيمات على التقهقر، وتوقيفها بعيداً عن المدن الكبرى والعواصم والكثير من الأقاليم».

الرأي العام الفرنسي
ولكن، ماذا عن الرأي العام الفرنسي؟
أمام الضرر الذي بدأ يلحق بصورة فرنسا، وحجم الخسائر المادية والبشرية التي تلحق بها في منطقة الساحل، دخل الرأي العام الفرنسي على الخط، وبدأ يهتم بالعملية العسكرية الفرنسية في الساحل الأفريقي، لا سيما، في ظل ركود الساحة الداخلية الفرنسية وتركيز الإعلام على الملف وتخصيص له مساحة واسعة من التغطية، ومن ثم، ربطه بالمستقبل السياسي للرئيس ماكرون الذي يعدّ لخوض انتخابات رئاسية حاسمة.
هنا، يقول الباحث المالي باكابيني كيتا، إن المعطى الجديد هو أن «الفرنسيين بدأوا يعارضون التدخل العسكري لبلادهم في منطقة الساحل، وبعض استطلاعات الرأي تشير إلى أن 51 في المائة من الفرنسيين يعارضون هذا التدخل». ويضيف الباحث المالي - الذي درس وأقام طويلاً في فرنسا – قائلاً، إن «الفرنسيين الذين يطالبون بسحب قواتهم من منطقة الساحل، لا يرون إلا الجانب المتعلق بالخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تتكبدها بلادهم في هذه الحرب. غير أنه ليست لديهم بقية المعلومات المتعلقة بحماية المصالح الفرنسية؛ لأن السلطات لن تكشف حقيقة وجودها العسكري؛ إذ ليست كل الحقائق للكشف والمصارحة»، على حد تعبيره.
ويتابع كيتا موضحاً، أن «دول الساحل ضحية صراع جيو - استراتيجي كبير، تخوضه القوى العالمية العظمى، بشكل غير مباشر. وفرنسا في قلب هذا الصراع، لحماية مصالحها في ظل صعود قوى أخرى في المنطقة، على غرار الصين وروسيا. وسكان الساحل هم من يدفعون الثمن، بينما تقف الحكومات المحلية عاجزة عن لعب أي دور».

الساحل... متاهة الأزمات
> يبلغ تعداد سكان منطقة الساحل أكثر من مائة مليون نسمة، يعيش أكثر من نصفها على دولار واحد لليوم. وهي تصنف واحدة من أفقر بقاع العالم، مع ارتفاع صاروخي في النمو الديمغرافي، وتغير مناخي يزيد من انتشار الفقر ويدفع سكان الريف نحو الهجرة، كل ذلك يتزامن مع تداعيات جائحة «كوفيد - 19» والأزمة الأمنية الخانقة.
وخلال قمة نجامينا أعلن «تحالف الساحل» الذي أسس قبل ثلاث سنوات، ويضم 24 من الشركاء والمموّلين، على لسان رئيسته وزيرة الخارجية الإسبانية أرانتشا غونثاليث لايا، أن 17 مليار يورو ستوجه للاستثمار في قرابة 900 مشروع تنموي بمنطقة الساحل، هدفها الرئيس تحسين الأوضاع المعيشية للسكان.
كذلك، نشر التحالف تقريراً قال فيه، إن استثماراته خلال السنوات الثلاث الماضية مكّنت نصف مليون مزارع ومنمٍ في المنطقة من الحصول على دعم لتطوير أنشطتهم، ونصف مليون شاب استفادوا من التكوين المهني، وأكثر من نصف مليون نسمة حصلوا على خدمة الكهرباء، وأكثر من مليون ونصف المليون نسمة حصلوا على خدمة الصرف الصحي. أيضاً، وفر الدعم الاستثماري لأكثر من خمسة ملايين ونصف المليون إنسان الماء الصالح للشرب، وحصل أكثر من ثلاثة ملايين طفل على التلقيح، واستفادت أكثر من 1200 منظمة مجتمع مدني من الدعم والتكوين.
ولكن، رغم كل الأموال التي تصرف على الجانب العسكري والتنموي، يعتقد آبا كاسامبارا، وهو ناشط سياسي ومدني في منطقة موبتي بوسط مالي، أن فرنسا والمجموعة الدولية تجاوزت الجذور الحقيقية للأزمة، وضيعت الكثير من الجهد في الحل العسكري ودعم حكومات ينخرها الفساد. ويشرح «لو كانت المجموعة الدولية، وفرنسا بشكل خاص، جادة في حل الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، وهي التي تتحكم في سلطات هذه الدول وتختار الرؤساء والوزراء وكبار المسؤولين والضباط... لو كانت جادة لتوجهت نحو معالجة أزمة الحكامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية. إذ إن معظم المنخرطين في صفوف التنظيمات الإرهابية شباب محبطون من الأوضاع الصعبة وتعرضوا للغبن الاجتماعي، إنهم ضحية فشل الدولة وعجزها وفسادها».
ويضيف الناشط السياسي المالي، أن المفارقة الكبيرة هي أنه مع كل قمة لدول الساحل «نسمع الجميع يتحدث عن تعبئة المجموعة الدولية حول الحرب على الإرهاب في الساحل، ولكن لا أحد يتحدث عن تعبئة المجموعات المحلية الموجودة على الأرض». ويتابع مشيراً إلى أن سكان بعض المناطق في وسط مالي «بعدما فقدوا الأمل في الدولة، أطلقوا مبادرات محلية مكّنت من استعادة مستوى معين من الأمن، فعادت الأسواق إلى الانتعاش، وأصبحت العديد من الطرق سالكة. إنها مبادرات محلية نابعة من السكان، وتعالج الأزمة بأدوات محلية كانت تستخدم منذ عدة قرون، ولكن لا أحد من صناع القرار يفكر فيها اليوم»، على حد تعبيره.
وهنا، يعرب الدكتور المصطفى فاتي، الأستاذ الجامعي والباحث الموريتاني في مجال الأمن والاستقرار بمنطقة الساحل، عن اعتقاده بأن «على المجموعة الدولية ودول الساحل طرح مقاربة قائمة على أدوات محلية لتجاوز الأزمة الأمنية في الساحل، وتأسيس أكاديمية ثقافية تعزز الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، هدفها تكوين وسطاء من أجل السلام، يقودون مبادرات السلم والأمن في مجتمعاتهم... وعلى أن تكون لهؤلاء رؤى وتصورات لحل المشاكل سلمياً وبأدوات محلية، واستخدام الإرث التاريخي في مواجهة التنظيمات المتطرفة».



بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.