فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل

بين أبرز التحديات الفقر وشكوك المواطنين بنيات «اللاعبين الكبار»

فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل
TT

فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل

فرنسا والإرهاب... ومأزق الساحل

حالة ارتباك تسود منطقة الساحل الأفريقي، فتنظيما «القاعدة» و«داعش» الإرهابيان مستمران في التوسع نحو مناطق جديدة، ودول الساحل الهشة والفقيرة لا تزال عاجزة عن المواجهة والوقوف وحدها. أما المجموعة الدولية بقيادة فرنسا، فتبدو خططها لمواجهة الإرهاب في الساحل مرتبكة، تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، بسبب الوضع العالمي المضطرب منذ أن ضربت جائحة «كوفيد - 19» المنظومة الدولية في الصميم.
تلك هي الصورة التي كرّستها القمة الأخيرة التي عقدها قادة دول الساحل وفرنسا في العاصمة التشادية نجامينا، يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، والتي قرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام من انعقادها، الامتناع عن حضورها شخصياً، مكتفياً بالمشاركة عبر تقنية الفيديو من مكتبه داخل قصر الإليزيه في العاصمة باريس.
القمة، التي سبقتها تصريحات ماكرون حول خطة جديدة قد تقود إلى تقليص عدد الجنود الفرنسيين الموجودين في الساحل، لم تتخذ أي قرار بهذا الخصوص، وهكذا بقي العديد من الأسئلة عالقاً حول مستقبل الاستراتيجية العسكرية الفرنسية تجاه الساحل، وهي التي تدخلت عسكرياً في هذه المنطقة بطلب من دولة مالي خلال يناير (كانون الثاني) 2013 لمنع سيطرة تنظيم «القاعدة» على العاصمة باماكو في الجنوب، بعدما التنظيم بسط نفوذه عام 2012 على شمال البلاد.
أطلق الفرنسيون في مطلع عام 2013 عملية «سيرفال» العسكرية المكونة من 3 آلاف جندي، لضرب معاقل تنظيم «القاعدة» في شمال مالي، على ألّا تستمر العملية العسكرية لأكثر من سنة. وحقاً، نجحت «سيرفال» في مهمتها الأولى فانسحب مقاتلو «القاعدة» من المدن واختفوا وسط الصحراء الكبرى، ليظهر الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند في مدينة تمبكتو التاريخية المالية ظهور الفاتحين وسط احتفاء شعبي كبير.
بيد أن النصر الفرنسي لم يعمّر طويلاً؛ إذ سرعان ما نظم مقاتلو «القاعدة» صفوفهم وأطلقوا «حرب عصابات» طويلة الأمد. بل إنهم وسّعوا نطاق عملياتهم الإرهابية لتشمل، بالإضافة إلى مالي، كلاً من النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين؛ ما أرغم الفرنسيين حينها على إنهاء عملية «سيرفال»، وإطلاق عملية جديدة تحت اسم «برخان» عام 2014، قوامها 4500 جندي. ومن ثم، وضعت باريس استراتيجية أمنية جديدة عمودها الفقري إطار إقليمي جديد هو «مجموعة دول الساحل الخمس»، التي ضمت موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد.
منذ 2015، شكلت «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، بمختلف أفرعها، تحالفاً جديداً حمل اسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». وفي العام نفسه، دخل تنظيم «داعش» على الخط، ووصلت الحرب على الإرهاب ذروتها في المنطقة. وعندها، قررت فرنسا خلال العام الماضي رفع عدد جنودها في المنطقة ليصل إلى 5100 جندي، وأعلنت أن تنظيم «داعش» هو عدوها الرئيس في منطقة الساحل.
كانت فرنسا تنفق سنويا قرابة مليار دولار أميركي على أنشطتها العسكرية والتنموية في الساحل، بينما خسرت أكثر من خمسين جندياً، ولو أنها حققت مكاسب عسكرية مهمة، عندما حيدت المئات من مقاتلي «القاعدة» و«داعش»، وقتلت عدداً كبيراً من القادة، وبالذات، عبد المالك دروكدال، زعيم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» ومؤسسه، منتصف العام الماضي.
رغم كل ذلك، بقي الوضع الأمني في تدهور مستمر، بل إن الاستخبارات الخارجية الفرنسية أعلنت الشهر الماضي أن تنظيم «القاعدة» وضع استراتيجية لتوسيع دائرة نفوذه لتشمل مناطق من غرب أفريقيا وخليج غينيا. كذلك، اتسعت دائرة الصراع العرقي في مالي وبوركينا فاسو، وتأزمت الأوضاع السياسية والاجتماعية في المنطقة، وأصبح الوضع بشكل عام أكثر صعوبة وتعقيداً، خاصة بعد الانقلاب العسكري العام الماضي في مالي، وانتخابات رئاسية تثير الجدل في كل من النيجر وتشاد وبوركينا فاسو.
وبالتالي، في ظل العجز الكبير لدى دول الساحل عن المواجهة العسكرية، والتحفظ الألماني (الأوروبي) على التورط العسكري في المنطقة، والموقف الأميركي غير الواضح حتى الآن، تجد فرنسا نفسها فيما يشبه «الفخ». فلا هي تستطيع الاستمرار في عملية عسكرية تكلفها خسائر مادية وبشرية كبيرة، ولا يمكنها – في المقابل – أن تنسحب من منطقة نفوذها التقليدي في أفريقيا لصالح تنظيمات إرهابية تستهدف مصالحها الاقتصادية الحيوية، وتشكل تهديداً لأمنها القومي، وأمن أوروبا والعالم.

تدويل الحرب
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صريحاً خلال المؤتمر الصحافي الختامي للقمة الثلاثاء الماضي؛ إذ أعلن أنه «فكّر» في جميع الخيارات والسيناريوهات، واصفاً الانسحاب الفوري بأنه «خطأ». إلا أنه مع ذلك ترك الباب مفتوحاً أمام انسحاب تدريجي يبدأ بعد فصل الصيف المقبل، من دون أن يحدد ملامح هذا الانسحاب التدريجي أو تفاصيل عنه.
يراهن الرئيس الفرنسي على قوة الكوماندوس الأوروبية «تاكوبا» التي شُكلت خلال العام الماضي بمبادرة فرنسية، وكان هدفها الأبرز رفع مستوى الانخراط الأوروبي إلى جانب فرنسا في الحرب على الإرهاب في الساحل، لا سيما، بعد الصعود القوي لتنظيم «داعش» في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو... ذلك المثلث الذي يوصف بأنه «الخاصرة الرخوة لمنطقة الساحل» الأفريقي. إلا أن الخطة الفرنسية تواجه بعض الصعوبات. ذلك أن القوة الأوروبية «تاكوبا»، رغم مشاركتها في بعض العمليات العسكرية الميدانية العام الماضي، ما تزال في بدايات مرحلة التشكل. والسبب هو إحجام الدول الأوروبية عن الانخراط فيها، خاصة ألمانيا. وفي حين أعلنت دول أوروبية عن استعدادها لإرسال جنود (إستونيا، والسويد، والتشيك، والبرتغال، وإيطاليا، وصربيا، وهولندا، والدنمارك، واليونان، وبلجيكا، والمجر، والنرويج)، فإن الأمور تسير ببطء كبير.
الخطة الجديدة التي أعلن عنها الرئيس ماكرون تسعى إلى أن يصل قوام القوة الخاصة الأوروبية إلى ألفي جندي، بالإضافة إلى 500 جندي فرنسي، وأن تعمل في وحدات خاصة تجمع الأوروبيين مع جنود من دول الساحل، وهدفها الرئيسي دحر التنظيمات الإرهابية وإعادة نفوذ الدول إلى المناطق المحرّرة. وفي المستقبل القريب، من المقرر أن تحل القوة الأوروبية تدريجياً محل القوات الفرنسية، على أن يكون الهدف على المدى البعيد تسليم قيادة العمليات للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس. وللعلم، أعلنت تشاد هذا الأسبوع، أنها سترسل 1200 جندي إلى منطقة المثلث الحدودي، بين النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، للعمل إلى جانب الأوروبيين والفرنسيين، في حين يتأهب الاتحاد الأفريقي لإرسال قوة أفريقية قوامها ثلاثة آلاف جندي.
أيضاً، ما زال أمام هذه الاستراتيجية عقبات كبيرة، أبرزها النقص الحاصل في تمويل وتجهيز وتدريب القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل، والتي يعد الاتحاد الأوروبي مموّلها الرئيسي (400 مليون يورو)، بالإضافة إلى بعض دول الخليج العربي. وفي المقابل، ترفض الولايات المتحدة الأميركية التعامل مع القوة على أنها «قوة إقليمية»، وتكتفي بتقديم مساعدات ثنائية للجيوش المحلية. أما فرنسا فهي شريك ميداني للقوة العسكرية المشتركة لدول الساحل، تؤمن الجانب الاستخباراتي والتقني، وتخطط للعمليات العسكرية النوعية.
الرئيس الفرنسي أعلن، من جهته، أن القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل تتطلب 40 مليون يورو سنوياً، والسبيل الوحيد لتوفير هذا التمويل هو أن توضع هذه القوة العسكرية المشتركة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا أمر ظلت تعارضه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب طيلة العامين الماضيين. إلا أن ماكرون أعرب عن أمله في أن تتغير الأمور خلال الأشهر المقبلة، بعدما وصل الديمقراطيون إلى البيت الأبيض، وبالأخص، بعد الرسائل الإيجابية التي بعثت بها إدارة الرئيس الجديد جو بايدن تجاه منطقة الساحل. وفي هذا السياق، قال مصدر دبلوماسي غربي لـ«الشرق الأوسط»، إن موقف الإدارة الأميركية الجديدة سيكون حاسماً في مستقبل المقاربة الأمنية الفرنسية تجاه منطقة الساحل، وربما يكون ترقب هذا الموقف الأميركي هو سبب «الضبابية» التي سادت قمة نجامينا الأخيرة.
إحباط شعبي
على صعيد متصل، يجد صناع القرار في فرنسا ودول الساحل أنفسهم أمام ضرورة تسيير تعقيدات دولية شائكة بخصوص حرب طويلة الأمد، كلفتها المادية والبشرية باهظة. ويتوجب عليهم أيضا مواجهة رأي عام محلي أصبح يلعب دورا مهما في هذا الملف، خاصة في بعض دول الساحل التي ظهر فيها رأي عام مناهض للوجود العسكري الفرنسي والأجنبي. وكان بين أبرز المؤشرات وأحدثها المظاهرة التي سارت في العاصمة المالية باماكو الشهر الماضي، واستخدمت الشرطة القوة لتفريقها؛ لأنها كانت ترفع شعارات مناهضة للوجود العسكري الفرنسي في البلاد، وتصف فرنسا بأنها «قوة احتلال».
وهنا يفسر باكابيني كيتا، الباحث السياسي في دولة مالي، هذا التيار الشعبي المتصاعد ضد التدخل الفرنسي، بأنه «نابع مما يجري على الأرض؛ فالحرب على الإرهاب في هذه المنطقة بدأت منذ قرابة عشر سنوات، والناس هنا تحس بأن الوضع يتدهور، ليس هنالك أي تقدم على مستوى المعاش اليومي للسكان».
ويعتقد كيتا، أن الرأي العام في بعض دول الساحل، وخاصة في مالي، بدأ يتبنى وجهة نظر تقول، إن «فرنسا تدخلت ليس من أجل حماية المنطقة من خطر الإرهاب فحسب، وإنما لحماية مصالحها بالدرجة الأولى». وهنا يشير إلى مناجم اليورانيوم في شمال النيجر التي تستغلها شركة «آريفا» الفرنسية، واستثمارات شركة «توتال» النفطية الفرنسية. ويضيف كيتا، أن هنالك من يعتقدون أن «فرنسا تجعل من الإرهاب مبرراً للبقاء من أجل حماية مصالحها ونفوذها. بل إن بعض الماليين بات يتساءل عن مدى جديتها في القضاء على خطر الإرهاب»، على حد تعبيره.
من ناحية ثانية، رغم تصاعد الأصوات المناهضة للوجود العسكري الفرنسي، فهنالك من يعتقدون أن في الأمر بعض التضخيم الإعلامي، على غرار الدكتور المصطفى فاتي، الأستاذ الجامعي والباحث الموريتاني في مجال الأمن والاستقرار بمنطقة الساحل. فاتي يعتقد أن «أي وجود عسكري أجنبي إذا استمر لسنوات في منطقة معينة، يثير بعض الحساسية لدى السكان المحليين، وخصوصاً، حين تركز التغطية الإعلامية على العمليات المسلحة وأعداد القتلى. ولكن هذا لا يعكس بالضرورة رفضاً شعبياً حقيقياً، بقدر ما هو إحساس لدى البعض بأن الجانب العسكري هو المسيطر على الاستراتيجيات والمقاربات». ويضيف فاتي، أن سبب هذا الإحساس بالإحباط لدى الشعوب هو «غياب التغطية الإعلامية لما يتحقق من مشاريع تنموية. ففي حين يستحوذ الجانب العسكري على حيز أكبر من التغطية الإعلامية، لا يتكلم أحد عن إطلاق 18 مشروعاً تنموياً عملاقاً في منطقة الساحل خلال الأشهر الماضية».
ويعتقد الأستاذ الجامعي الموريتاني، أن المقاربة الأمنية المعتمدة من طرف فرنسا ودول الساحل «لم تفشل» في تحقيق أهدافها. ويؤكد أنها «إنما وضعت لتنفذ على المدى الطويل، ولا يمكن أن نحكم عليها الآن بالفشل؛ لأن تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الساحل ليس بالأمر الهيّن... والمنطقة شاسعة جغرافياً، وتتقاطع فيها تنظيمات تمارس الكثير من الأنشطة غير القانونية، ولا يمكن القضاء عليها في فترة وجيزة».
كذلك، يؤكد فاتي، أنه لولا التدخل الفرنسي والتعاون مع دول الساحل «لكانت الحركات المسلحة تسيطر اليوم على المدن الكبيرة، وتزعزع الأمن في المنطقة عموماً، لكن المقاربات الأمنية التي وضعتها فرنسا ومجموعة دول الساحل الخمس لعبت دوراً كبيراً في إرغام هذه التنظيمات على التقهقر، وتوقيفها بعيداً عن المدن الكبرى والعواصم والكثير من الأقاليم».

الرأي العام الفرنسي
ولكن، ماذا عن الرأي العام الفرنسي؟
أمام الضرر الذي بدأ يلحق بصورة فرنسا، وحجم الخسائر المادية والبشرية التي تلحق بها في منطقة الساحل، دخل الرأي العام الفرنسي على الخط، وبدأ يهتم بالعملية العسكرية الفرنسية في الساحل الأفريقي، لا سيما، في ظل ركود الساحة الداخلية الفرنسية وتركيز الإعلام على الملف وتخصيص له مساحة واسعة من التغطية، ومن ثم، ربطه بالمستقبل السياسي للرئيس ماكرون الذي يعدّ لخوض انتخابات رئاسية حاسمة.
هنا، يقول الباحث المالي باكابيني كيتا، إن المعطى الجديد هو أن «الفرنسيين بدأوا يعارضون التدخل العسكري لبلادهم في منطقة الساحل، وبعض استطلاعات الرأي تشير إلى أن 51 في المائة من الفرنسيين يعارضون هذا التدخل». ويضيف الباحث المالي - الذي درس وأقام طويلاً في فرنسا – قائلاً، إن «الفرنسيين الذين يطالبون بسحب قواتهم من منطقة الساحل، لا يرون إلا الجانب المتعلق بالخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تتكبدها بلادهم في هذه الحرب. غير أنه ليست لديهم بقية المعلومات المتعلقة بحماية المصالح الفرنسية؛ لأن السلطات لن تكشف حقيقة وجودها العسكري؛ إذ ليست كل الحقائق للكشف والمصارحة»، على حد تعبيره.
ويتابع كيتا موضحاً، أن «دول الساحل ضحية صراع جيو - استراتيجي كبير، تخوضه القوى العالمية العظمى، بشكل غير مباشر. وفرنسا في قلب هذا الصراع، لحماية مصالحها في ظل صعود قوى أخرى في المنطقة، على غرار الصين وروسيا. وسكان الساحل هم من يدفعون الثمن، بينما تقف الحكومات المحلية عاجزة عن لعب أي دور».

الساحل... متاهة الأزمات
> يبلغ تعداد سكان منطقة الساحل أكثر من مائة مليون نسمة، يعيش أكثر من نصفها على دولار واحد لليوم. وهي تصنف واحدة من أفقر بقاع العالم، مع ارتفاع صاروخي في النمو الديمغرافي، وتغير مناخي يزيد من انتشار الفقر ويدفع سكان الريف نحو الهجرة، كل ذلك يتزامن مع تداعيات جائحة «كوفيد - 19» والأزمة الأمنية الخانقة.
وخلال قمة نجامينا أعلن «تحالف الساحل» الذي أسس قبل ثلاث سنوات، ويضم 24 من الشركاء والمموّلين، على لسان رئيسته وزيرة الخارجية الإسبانية أرانتشا غونثاليث لايا، أن 17 مليار يورو ستوجه للاستثمار في قرابة 900 مشروع تنموي بمنطقة الساحل، هدفها الرئيس تحسين الأوضاع المعيشية للسكان.
كذلك، نشر التحالف تقريراً قال فيه، إن استثماراته خلال السنوات الثلاث الماضية مكّنت نصف مليون مزارع ومنمٍ في المنطقة من الحصول على دعم لتطوير أنشطتهم، ونصف مليون شاب استفادوا من التكوين المهني، وأكثر من نصف مليون نسمة حصلوا على خدمة الكهرباء، وأكثر من مليون ونصف المليون نسمة حصلوا على خدمة الصرف الصحي. أيضاً، وفر الدعم الاستثماري لأكثر من خمسة ملايين ونصف المليون إنسان الماء الصالح للشرب، وحصل أكثر من ثلاثة ملايين طفل على التلقيح، واستفادت أكثر من 1200 منظمة مجتمع مدني من الدعم والتكوين.
ولكن، رغم كل الأموال التي تصرف على الجانب العسكري والتنموي، يعتقد آبا كاسامبارا، وهو ناشط سياسي ومدني في منطقة موبتي بوسط مالي، أن فرنسا والمجموعة الدولية تجاوزت الجذور الحقيقية للأزمة، وضيعت الكثير من الجهد في الحل العسكري ودعم حكومات ينخرها الفساد. ويشرح «لو كانت المجموعة الدولية، وفرنسا بشكل خاص، جادة في حل الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، وهي التي تتحكم في سلطات هذه الدول وتختار الرؤساء والوزراء وكبار المسؤولين والضباط... لو كانت جادة لتوجهت نحو معالجة أزمة الحكامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية. إذ إن معظم المنخرطين في صفوف التنظيمات الإرهابية شباب محبطون من الأوضاع الصعبة وتعرضوا للغبن الاجتماعي، إنهم ضحية فشل الدولة وعجزها وفسادها».
ويضيف الناشط السياسي المالي، أن المفارقة الكبيرة هي أنه مع كل قمة لدول الساحل «نسمع الجميع يتحدث عن تعبئة المجموعة الدولية حول الحرب على الإرهاب في الساحل، ولكن لا أحد يتحدث عن تعبئة المجموعات المحلية الموجودة على الأرض». ويتابع مشيراً إلى أن سكان بعض المناطق في وسط مالي «بعدما فقدوا الأمل في الدولة، أطلقوا مبادرات محلية مكّنت من استعادة مستوى معين من الأمن، فعادت الأسواق إلى الانتعاش، وأصبحت العديد من الطرق سالكة. إنها مبادرات محلية نابعة من السكان، وتعالج الأزمة بأدوات محلية كانت تستخدم منذ عدة قرون، ولكن لا أحد من صناع القرار يفكر فيها اليوم»، على حد تعبيره.
وهنا، يعرب الدكتور المصطفى فاتي، الأستاذ الجامعي والباحث الموريتاني في مجال الأمن والاستقرار بمنطقة الساحل، عن اعتقاده بأن «على المجموعة الدولية ودول الساحل طرح مقاربة قائمة على أدوات محلية لتجاوز الأزمة الأمنية في الساحل، وتأسيس أكاديمية ثقافية تعزز الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، هدفها تكوين وسطاء من أجل السلام، يقودون مبادرات السلم والأمن في مجتمعاتهم... وعلى أن تكون لهؤلاء رؤى وتصورات لحل المشاكل سلمياً وبأدوات محلية، واستخدام الإرث التاريخي في مواجهة التنظيمات المتطرفة».



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو
TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.