الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا

انتخابات الإقليم أرسلت رسائل متعددة لليمين واليسار

الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا
TT

الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا

الشارع الإسباني ينتظر ضبط الاشتراكيين للمعادلة الانفصالية في كاتالونيا

الانتخابات الإقليمية التي أجريت يوم الأحد الفائت في إقليم كاتالونيا، الذي تضبط تطورات حركته الانفصالية إيقاع المشهد السياسي الإسباني منذ خريف عام 2017، كانت أحدث الأدلّة على التحوّل السلبي الذي تغرق فيه إسبانيا اليوم.
إسبانيا التي كانت محطّ إعجاب لنهضتها الاقتصادية السريعة وقدوة في تجربتها الفريدة بالانتقال السلمي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية والاستقرار السياسي الذي نعمت به خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي.
من ناحية ثانية، كانت كاتالونيا (بشمال شرقي البلاد) قد انتظرت حتى اللحظات الأخيرة من عملية فرز الأصوات، ليلة الأحد الماضي، لتعرف هوية الفائز في الانتخابات الإقليمية التي حلّ فيها الحزب الاشتراكي في المرتبة الأولى، وبذا تعادل مع حزب اليسار الجمهوري بعدد المقاعد في البرلمان (33 لكل منهما) لكن متقدّماً عليه بعدد الأصوات. وحلّ في المرتبة الثالثة، بفارق مقعد واحد عنهما، حزب «معاً لأجل كاتالونيا» الذي يتزّعمه الرئيس الأسبق للحكومة الإقليمية كارلي بوتشيمون، الفار من العدالة الإسبانية، بعد إدانته بالتمرّد في أعقاب المحاولة الانفصالية التي كانت بداية فصل جديد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ما زالت إسبانيا تتخبّط فيه إلى اليوم، وتعيش على وقع تطوراته.
ولكن رغم فوز الاشتراكيين، الذين ضاعفوا عدد المقاعد التي حصلوا عليها في الانتخابات الأخيرة منذ ثلاث سنوات، فإنه من المستبعد جداً أن يتمكّنوا من تشكيل الحكومة الإقليمية الجديدة، والسبب أن القوى الانفصالية - اليسارية منها واليمينية - عزّزت الغالبية المطلقة التي كانت تملكها مجتمعة في البرلمان. وكانت هذه القوى قد تعاهدت في اتفاق خطي قبل الانتخابات على رفض التحالف مع الحزب الاشتراكي لتشكيل الحكومة الجديدة. ومن ثم، فور صدور النتائج النهائية للانتخابات، وتأكد حصول الأحزاب والقوى المطالبة بالاستقلال على أصوات أكثر من نصف الناخبين - وذلك للمرة الأولى منذ ظهور الحركة الانفصالية - توجّه رئيس الحكومة الإقليمية ومرشّح اليسار الجمهوري بيبي آراغونيس إلى رئيس الحكومة المركزية بيدرو سانتشيز قائلاً: «أزفت ساعة الحوار للاتفاق على صيغة استفتاء حول تقرير المصير وإيجاد حل للأزمة».

صعود «فوكس» المتطرف يقلق اليمين المحافظ
إلى جانب الصعود القوي للاشتراكيين، الذين استعادوا موقع الصدارة في المشهد السياسي الكاتالوني، وتجاوز الانفصاليين عتبة الخمسين في المائة من الأصوات، أفرزت هذه الانتخابات مفاجآت أخرى أعمق تأثيراً في الوضع السياسي العام ويتوقع ألا يتأخر ظهور نتائجها. إذ تمكّن حزب «فوكس» اليميني المتطرف، الذي دخل بقوة إلى البرلمان الوطني للمرة الأولى في الانتخابات العامة الأخيرة، من الحصول على 11 مقعداً في البرلمان الكاتالوني ليحلّ في المرتبة الرابعة. في المقابل، أصيب حزب «مواطنون» الوسطي بهزيمة كبيرة؛ إذ خسر أكثر من نصف المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة، وانهار الحزب الشعبي المحافظ الذي يقود المعارضة في البرلمان المركزي الإسباني في العاصمة مدريد... فلم يحصل سوى على ثلاثة مقاعد.
الآن، يخشى الحزب الشعبي، الذي يتناوب مع الحزب الاشتراكي على الحكم في إسبانيا منذ عودة الديمقراطية بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو، أن يكون الدخول القوي لمنافسه الرئيسي «فوكس» إلى البرلمان الكاتالوني بداية لصعوده النهائي إلى موقع الحزب اليميني الأول وتزعم المعارضة في البرلمان المركزي.
وحقاً، يدرك الجميع أن حضور «فوكس» بقوة في البرلمان الإقليمي من شأنه تأجيج المشاعر الإقليمية التي كانت تنمو إبان سنوات حكم اليمين المحافظ في مدريد، وتتغذّى من سياسة الرفض القاطع لفتح قنوات الحوار معها. وتجدر الإشارة أن التأييد الذي كانت تحظى به القوى الانفصالية منذ عشر سنوات ما كان يتجاوز الـ20 في المائة، وفق أفضل التقديرات.
على الضفة المقابلة، قطف رئيس الحكومة المركزية والزعيم الاشتراكي بيدرو سانتشيز قطف فوزاً شخصياً ثميناً كان بأمسّ الحاجة إليه داخل حزبه. ذلك أن بعض القياديين الاشتراكيين المنافسين له كانوا يعارضون رهانه على اختيار وزير الصحة السابق سالفادور إيليا لرئاسة اللائحة الاشتراكية، الذي أصرّ هو على أن يكون مرشّح الحزب وليس أمينه العام في كاتالونيا. ويرى المحللون أن النتائج التي جاءت أفضل بكثير حتى مما كان يتوقعه سانتشيز نفسه. وهي بالتالي، ستعزز موقعه في المفاوضات المقبلة مع حزب اليسار الجمهوري الكاتالوني الذي يوفّر لحكومته دعامة أساسية في البرلمان الوطني، الذي من المرجّح أن يتولّى رئاسة الحكومة الإقليمية الجديدة.
وكان الزعيم التاريخي لحزب اليسار الجمهوري أوريول جونكيراس، الذي يقضي عقوبة في السجن لمشاركته في قيادة الحركة الانفصالية، قد صرّح بعد صدور النتائج النهائية قائلاً: «نريد التحالف مع الذين يؤيدون الحكم الذاتي والعفو، ولا مجال للتحالف مع الحزب الاشتراكي الذي هو نقيضنا».

رهان على صفقة يسارية
ولكن رغم حرص زعيم اليسار الجمهوري على قطع الطريق بسرعة أمام احتمال قيام تحالف بين القوى اليسارية لتشكيل الحكومة الإقليمية المقبلة، تشعر أوساط الحزب الاشتراكي بالارتياح لتقدم اليسار الانفصالي، ولو بمقعد واحد، على الحزب الذي يتزعمه بوتشيمون، إذ إن هذا الواقع كافٍ لإقصاء هذا الأخير عن رئاسة الحكومة الإقليمية التي أطلقت شرارة الحركة الانفصالية عندما كان يتولاها. ويعود هذا الارتياح الاشتراكي إلى أن الحزب الذي يتزعمه بوتشيمون - الذي رأس الحكومات الإقليمية السابقة - يدعو إلى إعلان الاستقلال من طرف واحد ضد إرادة الأحزاب المركزية ومن دون التوافق معها، في حين يميل اليسار الجمهوري، الذي هو خصم عقائدي لبوتشيمون، إلى مخرج تفاوضي للأزمة عن طريق استفتاء يتمّ الاتفاق على صيغته وشروطه مع القوى والأحزاب الوطنية... أو في الأقل مع الحكومة المركزية. ويضاف إلى ما سبق أن كثيرين يعتبرون التصعيد الانفصالي الذي يقوده حزب بوتشيمون، بلا ضوابط، مجرّد هروب إلى الأمام، وستاراً من الدخان لتغطية فضائح الفساد التي راكمها هذه الحزب في السنوات الأخيرة، ودفعته إلى تغيير اسمه أكثر من مرة.
الجدير بالذكر، أن نسبة المشاركة في الانتخابات الإقليمية الكاتالونية لم تتجاوز 54 في المائة بحيث إن القوى الانفصالية التي حصلت على أكثر من نصف الأصوات خسرت 630 ألف صوت بالمقارنة مع نتائجها في الانتخابات الأخيرة. وتبيّن القراءة المتأنية لنتائج هذه الانتخابات أن عدد الذين صوّتوا بلغ 2.7 مليون مقابل 4.3 مليون في انتخابات العام 2017، أي بفارق أكثر من مليون ونصف المليون ناخب. وبناءً عليه، يستبعد الخبراء أن يكون هذا الفارق ناجماً عن تأثيرات جائحة «كوفيد - 19» فحسب، بل يرجّحون أن عدداً متزايداً من مؤيدي الحركة الانفصالية أو المتعاطفين معها يعتبر أن نسبة 50 في المائة من أصوات الناخبين ليست كافية لإعلان الاستقلال من طرف واحد... بل هي غير كافية حتى لتعديل نظام الحكم الذاتي.
ومن جهتها، تضغط القوى الاقتصادية في كاتالونيا حالياً «لتبريد» أجواء المواجهة السياسية مع مدريد، وتنفيس الاحتقان الاجتماعي الذي يشهده الإقليم منذ سنوات فيما صار يُطلق عليه «العقد الضائع». ولقد أطلق هذا اللقب وشاع لما تعرّض له القطاع الاقتصادي من خسائر بسبب قلة الاستقرار السياسي والتداعيات المؤذية للحركة الانفصالية. وما يستحق الإشارة إليه في هذا السياق أن عشرات الشركات والمؤسسات الإسبانية والدولية الكبرى، ومئات الشركات الصغيرة والمتوسطة، نقلت بالفعل مقرّاتها خارج كاتالونيا، ما أدى إلى تراجع الناتج القومي الإقليمي إلى المرتبة الثانية وراء العاصمة مدريد للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة.

هامش أمل رغم المأزق
للوهلة الأولى، لا تترك نتائج الانتخابات الإقليمية في كاتالونيا هامشاً كبيراً من الأمل أمام الذين يتوقون إلى خروج هذا الإقليم من الطريق المسدود الذي دخل فيه منذ سنوات؛ إذ إن القوى التي تطالب بالاستقلال قد عزّزت غالبيتها في البرلمان، وتاريخها الحديث ينذر بأسوأ الاحتمالات. إلا أن القراءة العميقة للمشهد السياسي الكاتالوني تفتح نوافذ صغيرة على الانفراج، واحتمالات تخفيف الاحتقان الذي بلغ منسوباً خطيراً في الفترة الأخيرة. وهو انفراج بات ضرورياً، وإن لم يكن كافياً، لمعالجة هذه الأزمة التي تكاد تكتسب طابعاً وجودياً عند الأطراف المتنازعة فيها.
فمن جهة، حصل اليسار الجمهوري، الذي يمثّل النسخة البراغماتية للمطلب الانفصالي، على موقع الصدارة للمرة الأولى داخل المشهد الاستقلالي. وعلى الضفة المقابلة، يتصدّر المشهد الحزب الاشتراكي الكاتالوني بقيادة زعامة جديدة منفتحة على الحوار ومدعومة من الحكومة الإسبانبة المركزية.
وصحيح أن الحزب الاشتراكي هو الذي حلّ أولاً في هذه الانتخابات، لكن اليسار الجمهوري هو الوحيد الذي يملك مركزية تتيح تشكيل حكومة قادرة على الحصول على الدعم الكافي داخل البرلمان، إما عبر التحالف مع القوى الانفصالية أو في ائتلاف يساري متعدد الصيغ. غير أنه في ضوء الحدّة التي اتسّم بها الخطاب السياسي إبان الحملة الانتخابية، والاتفاق الذي وقـّعته كل القوى الانفصالية لإقصاء الحزب الاشتراكي عن الحكومة، واقعان يرجّحان كفة تشكيل حكومة انفصالية.
أمر آخر يدخل في الحساب، هو أنه نظراً لصعوبة التحالف بين اليسار الجمهوري واتباع بوتشيمون - كما دلّت كل التجارب السابقة - ليس مستبعداً أن يشكّل اليسار الجمهوري وحده حكومة أقليّة في الإقليم تستند إلى غالبية يسارية في البرلمان لا تشارك في الحكومة. ويرى الذين يدفعون في هذا الاتجاه أن من شأن ذلك أن يمدّ حكومة سانتشيز بجرعة من الاستقرار بعدما تمكن الحزب الاشتراكي الكاتالوني من احتلال المرتبة الأولى، وقطف حليفه اليسار الجمهوري ثمرة سياسة اليد الممدودة إلى مدريد. إلا أن الاختلال الأخطر الذي أحدثته نتائج الانتخابات الإقليمية الكاتالونية يكمن اليوم - لا شك - على الضفة اليمينية من المشهدين السياسيين الإقليمي والوطني. ذلك أن الإهانة التي تعرّض لها الحزب الشعبي على يد اليمين المتطرف ستدفع قيادته، حتماً، إلى إعادة نظر جذرية في استراتيجيتها لإرساء قواعد مشروع جديد معتدل يطمح للعودة إلى الحكم في الانتخابات العامة المقبلة.
أيضاً، لا ريب في أن حزب «مواطنون» الذي مُني بهزيمة مدوّية أيضاً بعد النتائج الباهرة التي حققها في الانتخابات الإقليمية الأخيرة، سيجد نفسه مضطراً لمراجعة خطابه وطروحاته قبل أن يذوب في الأحزاب الأخرى. أما إذا قرر هذان الحزبان الجنوح نحو التطرّف في الملفّ الانفصالي من أجل تطويق «فوكس»، الذي يتمدّد على الصعيدين الإقليمي والوطني، فإن أبواب التصعيد السياسي والاجتماعي ستكون مفتوحة على أسوأ الاحتمالات التي قد توقظ أشباح الماضي غير البعيد... وهو ماضٍ ما زال يرخي بظلاله الثقيلة على المشهد الإسباني.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.