«لاهاي» ترفض اتهامات متبادلة بين صربيا وكرواتيا بارتكاب «إبادة»

المحكمة وضعت حدًا للمعركة القضائية بين البلدين وحثتهما على طي صفحة الماضي

رئيس محكمة العدل الدولية القاضي بيتر تومكا (وسط) أثناء تلاوته الحكم في لاهاي أمس (إ.ب.أ)
رئيس محكمة العدل الدولية القاضي بيتر تومكا (وسط) أثناء تلاوته الحكم في لاهاي أمس (إ.ب.أ)
TT

«لاهاي» ترفض اتهامات متبادلة بين صربيا وكرواتيا بارتكاب «إبادة»

رئيس محكمة العدل الدولية القاضي بيتر تومكا (وسط) أثناء تلاوته الحكم في لاهاي أمس (إ.ب.أ)
رئيس محكمة العدل الدولية القاضي بيتر تومكا (وسط) أثناء تلاوته الحكم في لاهاي أمس (إ.ب.أ)

رفضت «محكمة العدل الدولية» أمس اتهامات كل من صربيا وكرواتيا للأخرى بارتكاب إبادة خلال الحرب بينهما بين عامي 1991 و1995. وحثت العدوين السابقين على طي صفحة تاريخهما الدموي.
وقال القاضي بيتر تومكا رئيس المحكمة خلال جلسة عامة في مقر المحكمة في لاهاي إن «كرواتيا لم تقدم إثباتات على مزاعمها» بأن القوات الصربية ارتكبت إبادة خلال حرب الاستقلال الكرواتية. كما اعتبر في المقابل أن «صربيا فشلت في تقديم إثباتات على ارتكاب إبادة ضد الشعب الصربي في كرواتيا». ورأى تومكا أن الطرفين ارتكبا جرائم خلال النزاع بما يشمل النزوح القسري، لكن أيا منهما لم يثبت وقوع إبادة التي تقوم على «الافتراض بوجود نية للقضاء على مجموعة، على الأقل جزئيا». وأضاف أن «المحكمة تشجع الطرفين على مواصلة تعاونهما مع إمكانية تقديم تعويضات مناسبة لضحايا مثل هذه الانتهاكات وبالتالي ترسيخ السلام والاستقرار في المنطقة».
وفي ردود الفعل، أعلن الرئيس الصربي توميسلاف نيكوليتش أنه يرغب في «سلام دائم» في البلقان. وقال نيكوليتش للصحافيين إلى جانب رئيس الوزراء الصربي الكسندر فوسيتش «آمل في أن تتحلى صربيا وكرواتيا في المستقبل بالقوة لكي تحلا معا كل ما يعرقل فرص إرساء سلام دائم وازدهار في منطقتنا». من جهته، عبر رئيس الوزراء الكرواتي زوران ميلانوفيتش عن استيائه بعد قرار محكمة العدل الدولية رفض شكوى زغرب ضد صربيا. وقال ميلانوفيتش للصحافيين «نحن مستاؤون لقرار المحكمة، لكننا نقبل به بشكل متحضر. يجب علينا قبول القرار، فهو نهائي وليست هناك إمكانية للاستئناف».
وكان وزير الخارجية الصربي إيفيتسا داديتش اعتبر الأحد الماضي أن هذا الحكم «قد يكون من أهم الأحداث» التي تحدد علاقات البلاد مع كرواتيا. وأضاف: «سيكون ذلك على الأرجح نهاية عملية استمرت 15 أو 20 عاما وهذا ينهي النزاع بين البلدين للبرهنة على من كان المجرم». وتابع أن هذه الخطوة «قد تكون فرصة لنترك الماضي وراءنا ونلتفت إلى المستقبل».
وبعد إعلان استقلال كرواتيا عن يوغوسلافيا في 1991 اندلعت حرب بين القوات الكرواتية والانفصاليين الصرب المدعومين من بلغراد. وهذا النزاع بين النزاعات الكثيرة التي هزت منطقة البلقان خلال العقد الأخير من العام 2000، أوقع نحو 20 ألف قتيل بين عامي 1991 و1995.
وبدأت المعركة القضائية أمام «محكمة العدل الدولية» ومقرها لاهاي في عام 1999 عندما رفعت كرواتيا شكوى ضد صربيا. وطلبت زغرب من المحكمة إثبات أن صربيا ارتكبت «إبادة ترجمت بتهجير وقتل وتعذيب أو اعتقال بشكل تعسفي لعدد كبير من الكروات» أساسا في المناطق التي طالب بها الانفصاليون الصرب. والهدف بحسب زغرب هو «التطهير العرقي» لهذه المناطق. وطلبت زغرب من المحكمة أن تأمر بلغراد بدفع «تعويضات مالية». وردت صربيا في 2010 برفع شكوى مضادة في القضية نفسها واتهمت بدورها زغرب بالإبادة في عملية عسكرية كرواتية شنت في 1995 ووضعت حدا للحرب.
ووفقا لبلغراد اضطر 200 ألف صربي إلى الفرار من كرواتيا في 1995. وقد طالبت صربيا أيضا بدفع تعويضات مالية لصرب كرواتيا وأن تتوقف كرواتيا عن الاحتفال في الخامس من أغسطس (آب) بنجاح عملية العاصفة وهو يوم عطلة رسمية في كرواتيا.
والإبادة هي أخطر جريمة يعترف بها القانون الدولي لكنها من أصعب الجرائم التي يمكن إثباتها. وكلمة «جينوسايد» التي تعني إبادة جماعية بالإنجليزية مشتقة من كلمة في اللغة اليونانية «جينوس» تعني العرق وأخرى من اللاتينية ملحقة بها هي «كايديري» تعني قتل. وقد ابتكرها في 1944 رافايل ليمكين وهو يهودي بولندي لجأ إلى الولايات المتحدة وعمل مستشارا في وزارة الحرب الأميركية، ليستخدمها في وصف الجرائم التي ارتكبها النازيون بحق اليهود في أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد استخدمتها للمرة الأولى في إطار قانوني المحكمة العسكرية في نورمبيرغ في عام 1945 عند اتهام المسؤولين النازيين الذين صدرت عليهم أحكام في نهاية المطاف لارتكابهم «جرائم ضد الإنسانية». ولم يعترف القانون الدولي بجريمة الإبادة الجماعية إلا في 1948 في معاهدة الأمم المتحدة. وعددت هذه المعاهدة سلسلة جرائم من بينها القتل تعتبر جرائم «إبادة» إذا ارتكبت «بنية القضاء كليا أو جزئيا على مجموعة قومية أو إثنية وعرقية أو دينية».



​أوروبا تحبس أنفاسها على أعتاب ولاية ترمب الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
TT

​أوروبا تحبس أنفاسها على أعتاب ولاية ترمب الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)

العالم الذي يبدأ فيه دونالد ترمب ولايته الثانية رئيساً للولايات المتحدة، لا يشبه كثيراً العالم الذي فاز فيه برئاسته الأولى عام 2016. في أوروبا تخوض روسيا حرباً ضروساً ضد أوكرانيا منذ ثلاث سنوات، والاتحاد الأوروبي ما زال يتردد في وضع الركائز الأساسية لاستراتيجية دفاعية موحدة تحجز له مقعداً في الصف الأمامي من المشهد الجيوسياسي الجديد، فيما تقضّ تصريحات ترمب المتعاقبة وتهديداته مضاجع المسؤولين في باريس وبرلين وبروكسل، وتطرب لها آذان القيادات الحاكمة في روما وبودابست ومن لفّ لفيفها من القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تتطلع إلى «عصر ذهبي» تتفتح براعمه خلال الحقبة الترمبية الثانية.

لم تعد المؤسسات الأوروبية الكبرى تخفي قلقها من تداعيات الرياح الأميركية الجديدة، التي بدأت تهب على العالم حتى قبل جلوس ترمب في المكتب البيضوي، وها هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يعلن قُبيل سفره إلى واشنطن لحضور حفل التنصيب، أن ولاية ترمب الثانية ستطلق أجنحة اليمين الأوروبي الجديد، ويبشّر أوربان بحقبة ذهبية في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويقول: «أعلن انطلاق المرحلة الثانية من الهجوم الكبير الذي يهدف إلى احتلال أوروبا».

أميركي يعتمر قبعة عليها صورة ترمب بواشنطن الاثنين (رويترز)

وخلافاً لما كان عليه الوضع إبّان ولايته الأولى، حين كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا مجرد مشاريع هامشية في المشهد السياسي، أصبح حلفاء ترمب الأوروبيون اليوم على جانب من النفوذ، في الحكم وخارجه، وعلى تناغم تام مع أفكاره ومواقفه الراديكالية حول الهجرة والبيئة والقضايا الاجتماعية، ويشاطرون رؤيته الجيوسياسية لعالم تقوم فيه التحالفات على المصالح التجارية وليس على الأفكار والمعتقدات السياسية. ولم يعد سراً أن المخاوف الأوروبية الكبرى ليست مقصورة على التدابير التجارية المزمعة للرئيس الأميركي الجديد، بل إن أخطرها قد يأتي من «وصفته» لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن مصير العباءة الدفاعية التي يؤمنها الحلف الأطلسي للدول الأوروبية.

العهد الأميركي الجديد يعرف أن «أحصنة طروادة» التي تفاخر بنصرته في أوروبا لم تعد تلك الأحزاب المنبوذة، التي فرضت عليها القوى التقليدية حجراً صحياً منذ عقود، ومنعت وصولها إلى مواقع القرار والسلطة، بل أصبحت في مراكز الحكم وتتوثّب اليوم، مدعومة بسخاء من الأوليغارشية الرقمية، لتوسيع دائرة شعبيتها ونفوذها المباشر بعد أن صارت تشكّل الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي.

اجتماع سابق لترمب مع قادة «الناتو» في بروكسل (أرشيفية - رويترز)

وهي لم تنم فحسب على الصعيد الانتخابي، في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا ورومانيا، بل إن أفكارها وطروحاتها أصبحت تلقى تجاوباً واسعاً في أوساط الرأي العام، وتكاد تتطابق مع تلك التي يطلقها ترمب مثلاً حول الهجرة، أو حول الحرب في أوكرانيا. فكرة الجدار لمنع دخول المهاجرين مثلاً كانت مرفوضة على امتداد المشهد السياسي والاجتماعي في أوروبا، أما اليوم فإن عدداً من الدول الأوروبية يدرس سياسات لمنع الهجرة غير الشرعية التي لا تقلّ راديكالية عن فكرة الجدار.

الانتخابات الأوروبية، التي أجريت مطالع الصيف الماضي أظهرت مدى صعود الموجة اليمينية المتطرفة، وزعزعت أركان الحكم في فرنسا وألمانيا، وأثمرت البرلمان الأوروبي الأكثر جنوحاً نحو اليمين منذ تأسيسه. لكن ذلك لم يكن سوى انعكاس مباشر لواقع ملموس منذ سنوات في الدول الأعضاء، وأصبح اليمين المتطرف اليوم طرفاً في ائتلافات حاكمة، أو طرفاً أساسياً داعماً لها، في إيطاليا والسويد وفنلندا والجمهورية التشيكية وهولندا والمجر وكرواتيا، وهو يتفاوض حالياً للوصول إلى الحكم في النمسا، فضلاً عن أن القوى اليمينية المتطرفة تتطلع إلى زيادة شعبيتها ونفوذها في الانتخابات الألمانية أواخر الشهر المقبل، والرومانية في الربيع، والتشيكية في خريف العام الحالي.

دونالد ترمب يتحدث إلى جانب فلاديمير بوتين خلال لقاء جمعهما في اليابان 28 يونيو 2019 (أرشيفية - رويترز)

تكفي نظرة سريعة على قائمة المدعوين الأوروبيين إلى حفل التنصيب في واشنطن، لنتبيّن حجم «جبهة الإسناد» الأوروبية لترمب داخل الاتحاد الأوروبي: من الإيطالية جورجيا ميلوني إلى المجري فيكتور أوربان، ومن الإسباني سانتياغو أباسكال، إلى تينو شروبالا من «البديل من أجل ألمانيا»، ومن الفرنسي إريك زمور إلى البرتغالي أندريه فينتورا. ميلوني هي الوحيدة بين قادة الاتحاد التي قررت حضور حفل التنصيب، فاتحة بذلك ثغرة جديدة مع شركائها الأوروبيين، يرجح أن تتعمق أكثر في الأشهر المقبلة. لكن الأخطر من ذلك هو أن عودة ترمب تمنح هذه الأحزاب جواز عبور إلى المشهد السياسي الطبيعي في أوروبا، وتتيح للإدارة الجديدة التأثير المباشر في السياسات الأوروبية، والقدرة على زرع الشقاق لفتح الطريق أمام سياساتها التجارية والتكنولوجية، خاصة بعد دخول اصطفاف الشركات التكنولوجية الضخمة إلى جانب الرئيس الأميركي الجديد، ومساعيها المعروفة للالتفاف على القواعد الأوروبية.

ترمب من جهته أوضح غير مرة أنه يريد تصحيح الخلل في الميزان التجاري مع أوروبا، عن طريق رفع الرسوم الجمركية، وزيادة الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، فضلاً عن مطالبته برفع نسبة مساهمات الأعضاء الأوروبيين في ميزانية الحلف الأطلسي، وزيادة مشاركتهم في جهود إعمار أوكرانيا. لكن الهاجس الأوروبي الأكبر يبقى في الحفاظ على وحدة الصف والموقف أمام الضغوط والتهديدات الأميركية.