مهاترات في ظلال أنقاض لبنان

TT

مهاترات في ظلال أنقاض لبنان

لماذا أثار تذكير رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري بكلام والده الرئيس رفيق الحريري عن «وقف العدّ» هذه العاصفة من الردود التي أطلقها حزب رئيس الجمهورية «التيار الوطني الحرّ»؟ ما الجديد الذي استدعى هذين الغضب والهذيان اللذين وصلا إلى حملات طائفية صريحة على وسائل التواصل الاجتماعي من ناشطي «التيار» الذين وصفوا أبناء المذهب السنّي في لبنان بصفات يبدو بعضها مستلّاً من قاموس النازيين المعادين للسامية؟
وفي الوقت الذي ذهب بعض «الإصلاحيين والتغييرين» إلى التحريض على طرد المسلمين الذين جاءوا إلى لبنان سنة 635 ميلادية مع الفتح العربي، حسب فيديو انتشر على منصات التواصل، واتهامهم بارتكاب المجازر بحق المسيحيين، يتوقع اللبنانيون أن تأتي كلمة رئيس «التيار» النائب جبران باسيل، يوم الأحد المقبل، لتصب المزيد من الزيت على نار المهاترات الطائفية التي لم يَسلم منها الدروز بعدما عدّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، عهد ميشال عون «عهد ظلم وظلام»، داعياً رئيس الجمهورية «إلى الانتحار وحده».
ونشرت «الشرق الأوسط» (الثلاثاء 16 فبراير «شباط» - «وقف العد يفتح سجالا بين (المستقبل) ومستشار عون») خلفيات الهجمات الإعلامية المتبادَلة بين الحريري وفريق القصر الجمهوري. ولعل رئيس الوزراء المكلف لم يتوقع هذه الردود القاسية التي بلغت حدود التجريح والإهانات الشخصية والمنطوية على تلميحات طائفية، عندما ذكّر بتصريح قديم لوالده، لكنّ اللحظة السياسية القائمة والتوتر الشديد الذي يعيشه لبنان والانقسامات المتعددة، إضافةً إلى غياب أي تصور للخروج من الأزمات المتنوعة، عملت كلها على تحول اقتباس معروف إلى قنبلة إعلامية تختصر المرض العضال الذي يعاني منه النظام السياسي اللبناني.
التذكير الذي كان يرمي، حسب مصادر «المستقبل»، إلى تأكيد المناصفة في السلطة بين المسلمين والمسيحيين ورفض الاستثمار في الاختلال في الميزان الديمغرافي لمصلحة المسلمين، وقع موقعاً سيئاً عند العونيين وجمهورهم. ذاك أن القناعة السائدة بينهم تقول إن عهد ميشال عون هو آلة الزمن التي ستعيد لبنان إلى ما قبل اتفاق الطائف وستسترجع للمسيحيين الحقوق التي خسروها بعد هزيمتهم في الحرب الأهلية. وبما أن رفيق الحريري يشكِّل رمز مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار التي كان العونيون مبعَدين عنها، وبما أن اتفاق الطائف نصّ على نقل قسم من صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني إلى «مجلس الوزراء مجتمعاً» ما جعل رئيس الوزراء السنّي صاحب الصلاحيات الأوسع في السلطة التنفيذية، فإن حنق التيار العوني على كل ما يذكّره بالحريري والطائف، يبدو من النوع المسبب للجلطات القلبية والدماغية. فتغيب لغة المنطق والشراكة الوطنية والبحث عن مخارج من الوضع الكارثي الحالي الذي تتشارك كل الطبقة السياسية، بمن فيها الحريري وعون وجنبلاط، بالمسؤولية عنه، ليحضر خطاب الاستعلاء العنصري الذي لم يعد يُقنع إلا حفنة من المنفصلين عن الواقع والحقائق الكبرى التي يعيشها عالم تغيّر كثيراً منذ كان مسيحيو لبنان ينسبون أنفسهم إلى غربٍ متخيَّل لم يتوانَ، في الواقع، عن التخلي عنهم كلما سنحت سانحة.
يضاف إلى ذلك أن قضية العدد حقل أشواك لا يرغب سياسيو هذا البلد في التورط بدخوله، ذلك أنه يعيد طرح السؤال عن الأسس التي قام عليها «لبنان الكبير» والتمييز بين مواطنيه وانتفاء المساواة التي ينص الدستور عليها؟ ومَن تسبب بتهجير الطوائف التي تشكو قلة عددها؟ ومَن جنى الفوائد والامتيازات؟ وإلى ما هنالك من أسئلة لم يتوصل اللبنانيون إلى إجابات تتسم بالحد الأدنى من الإجماع الوطني عليها، وظلت كالجمر تحت رماد الحروب الأهلية والاحتلالات الأجنبية، تُنبش عندما تستدعي ذلك المناكفات السياسية، على النحو الذي يجري اليوم.
ولعل في الجولة هذه من التراشق بالاتهامات تذكيراً بهشاشة الانتماء الوطني الذي تعلو عليه وتفوقه أهمية الولاء للجماعة الأهلية والاستجابة لنداءات عصبيتها وتلبية حاجات قادتها إلى الحشد والتعبئة. ولا معنى في سياق كهذا للبحث عن حق أو باطل وعن منتصر ومهزوم، ما دام قسم كبير من اللبنانيين يُقدّم دعاوى الماضي ومزاعمه المهلهلة وأوهام سياسيين لا همّ لهم غير مصالحهم الضيقة والصغيرة كصغاراتهم، على حقيقة الدمار الذي حل ببلدهم والذي يبدو أن عواقبه لم تبدُ كلها بعد للعيان.



«توترات القرن الأفريقي»... كيف يمكن احتواء التصعيد؟

ضابط شرطة صومالي يقف في حراسة احتجاجات ضد صفقة ميناء إثيوبيا - أرض الصومال بمقديشو - (أرشيفية - رويترز)
ضابط شرطة صومالي يقف في حراسة احتجاجات ضد صفقة ميناء إثيوبيا - أرض الصومال بمقديشو - (أرشيفية - رويترز)
TT

«توترات القرن الأفريقي»... كيف يمكن احتواء التصعيد؟

ضابط شرطة صومالي يقف في حراسة احتجاجات ضد صفقة ميناء إثيوبيا - أرض الصومال بمقديشو - (أرشيفية - رويترز)
ضابط شرطة صومالي يقف في حراسة احتجاجات ضد صفقة ميناء إثيوبيا - أرض الصومال بمقديشو - (أرشيفية - رويترز)

تصاعد منحنى التوترات في القرن الأفريقي وسط سجالات بين الصومال وإثيوبيا وهجوم إعلامي يتجدد من أديس أبابا تجاه الوجود المصري في مقديشو، مع مخاوف من تصعيد غير محسوب وتساؤلات بشأن إمكانية احتواء ذلك المنسوب المزداد من الخلافات بتلك المنطقة التي تعد رئة رئيسية للبحر الأحمر وأفريقيا.

خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، يرون أن «التصعيد سيكون سيد الموقف الفترة المقبلة»، خصوصاً مع تمسك مقديشو بخروج قوات حفظ السلام الإثيوبية من أراضيها وتشبث أديس أبابا بمساعيها للاتفاق مع إقليم الصومال الانفصالي، لإيجاد منفذ بحري البحر الأحمر رغم رفض مقديشو والقاهرة، فضلاً عن تواصل الانتقادات الإثيوبية الرسمية للقاهرة بشأن تعاونها العسكري مع الصومال.

وتوقعوا سيناريوهين أولهما الصدام مع إثيوبيا، والثاني لجوء أديس أبابا لحلول دبلوماسية مع ازدياد الضغوط عليها بعدّها أحد أسباب التصعيد الرئيسية في المنطقة.

وقدّم وزير الخارجية الصومالي أحمد معلم فقي، الاثنين، «شرحاً للتلفزيون الحكومي حول العلاقات المتوترة بين مقديشو وأديس أبابا»، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الصومالية الرسمية للبلاد، التي قالت إن أديس أبابا «انتهكت في 1 يناير (كانون الثاني) العام الحالي، السيادة الداخلية للدولة عقب إبرامها مذكرة تفاهم باطلة مع إدارة أرض الصومال».

وزير الخارجية والتعاون الدولي الصومالي (وكالة الأنباء الرسمية)

ولم تتمكن أديس أبابا من تنفيذ الاتفاق غير الشرعي الذي ألغاه البرلمان الصومالي، كما أن الصومال نجح دبلوماسياً في الحفاظ على سيادة البلاد واستقلال أراضيه، عبر القنوات المفتوحة في كل الاجتماعات بالمحافل الدولية، وفق تقدير أحمد معلم فقي.

وبشأن مستقبل العلاقات الدبلوماسية للبلدين، أشار فقي إلى أن «العلاقات لم تصل إلى طريق مسدودة، فسفارة الدولة مفتوحة وتعمل هناك، بينما تعمل سفارة أديس أبابا هنا في مقديشو، والسفير الإثيوبي حالياً يوجد في بلاده، بيد أن طاقم سفارته موجود، كما أن طاقمنا لا يزال موجوداً هناك».

وكشف فقي في مقابلة متلفزة الأحد، أن الحكومة الصومالية ستتخذ إجراءات سريعة لنقل السفارة الإثيوبية إلى موقع جديد خارج القصر الرئاسي في المستقبل القريب.

وفي أبريل (نيسان) 2024، طرد الصومال السفير الإثيوبي، واستدعى مبعوثه من أديس أبابا، قبل أن تعلن وزارة الخارجية الصومالية أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، في إفادة، أنها طلبت من المستشار الثاني في سفارة إثيوبيا لدى الصومال، مغادرة البلاد في غضون 72 ساعة، واتهمته بممارسة «أنشطة لا تتفق مع دوره الدبلوماسي، وتشكل خرقاً لاتفاقية (فيينا) للعلاقات الدبلوماسية الصادرة عام 1961».

وتدهورت العلاقات بين الصومال وإثيوبيا، إثر توقيع الأخيرة مذكرة تفاهم مع إقليم (أرض الصومال) الانفصالي بداية العام الحالي، تسمح لها باستخدام سواحل المنطقة على البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، وسط رفض من الحكومة الصومالية ودول الجامعة العربية، لا سيما مصر، التي تشهد علاقاتها مع أديس أبابا توتراً بسبب تعثر مفاوضات سد النهضة الإثيوبي.

وفي مواجهة تلك التحركات، حشد الصومال، دعماً دولياً وإقليمياً، لمواقفه، ضد المساعي الإثيوبية، وأبرم بروتوكول تعاون عسكري مع مصر، وفي أغسطس (آب) الماضي، أرسلت بموجبه القاهرة مساعدات عسكرية إلى مقديشو.

إثيوبيا هي الأخرى تواصل الدفاع عن اتفاقها مع إقليم أرض الصومال، وقال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أواخر أكتوبر الماضي، إن بلاده تسعى للوصول السلمي إلى البحر الأحمر، وتتمسك بموقف واضح بشأن هذه القضية.

وعادت وكالة الأنباء الإثيوبية، السبت، للتأكيد على هذا الأمر، ونقلت عن نائب المدير التنفيذي لمعهد الشؤون الخارجية عبده زينبي، قوله إن سعي إثيوبيا للوصول إلى البحر أمر بالغ الأهمية، لافتاً إلى أن الحكومة تعمل بشكل وثيق للغاية مع جميع الجهات الفاعلة الإقليمية لضمان ذلك.

وبتقدير مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير صلاح حليمة، فإن «تلك التوترات تزيد من حدة السخونة في منطقة القرن الأفريقي»، لافتاً إلى أن «إثيوبيا تتحمل زيادة منسوب التوتر منذ توقيع اتفاقية مع إقليم انفصالي مخالفة للقانون الدولي ومهددة لسيادة الصومال».

وبرأي الخبير في الشؤون الأفريقية، مدير مركز دراسات شرق أفريقيا في نيروبي، الدكتور عبد الله أحمد إبراهيم، فإن «كلا الطرفين (الصومال وإثيوبيا) لا ينوي خفض التصعيد، بل كلاهما يتجه إلى التصعيد والتوترات بينهما مرشحة للتصاعد»، لافتاً إلى أن «كل المحاولات التي تمت الشهور الأخيرة للوساطة، سواء كانت تركية أو أفريقية، لم تفعل شيئاً يذكر لخفض التصعيد».

وبشيء من التفاصيل، يوضح الخبير السوداني في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، أن «إقدام الصومال على طرد دبلوماسي إثيوبي رفيع من أراضيه تحت مبررات التدخل في الشؤون الداخلية، يأتي متزامناً مع طبيعة التحركات الرسمية التي تنتهجها مقديشو بشأن التشاور والإعداد لاستبدال بعثة لحفظ السلام في الصومال، تكون أكثر قبولاً وترحيباً عند مقديشو، بالحالية».

ومن المعلوم أن مقديشو «لا تريد قوات إثيوبية ضمن بعثة حفظ السلام الأفريقية» داخل أراضيها، تحت أي اسم بعد مساعيها لإنشاء منفذ بحري مقابل الاعتراف بإقليم انفصالي، لذلك ارتفع صوت الصومال عالياً خلال الفترة الأخيرة مطالباً الاتحاد الأفريقي بضرورة عدم إشراك قوات إثيوبية ضمن البعثة الجديدة التي من المقرر أن تتولى مهامها بحلول عام 2025م»، وفق الحاج.

ولم يتوقف موقف أديس أبابا عند التمسك بمواقفها التي ترفضها مقديشو، بل واصلت مهاجمة وجود القاهرة بالصومال، ونقلت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية عن الباحث الإثيوبي يعقوب أرسانو، الأحد، دعوته إلى «ضرورة تقييم دور مصر في الصومال ووجودها الذي قد يؤدي إلى تصعيد عدم الاستقرار في جميع أنحاء منطقة القرن الأفريقي»، متحدثاً عن أن «القاهرة تورطت في الصومال كقوة مزعزعة للاستقرار».

ووفقاً ليعقوب، فإن «نفوذ مصر في الصومال ربما يكون جزءاً من استراتيجية أوسع لإضعاف إثيوبيا»، لافتاً إلى أنه «إذا فشلت مصر في فرض سيطرتها، فقد تقع الأسلحة بأيدي الجماعات الإرهابية، ما يشكل تهديدات فورية لكل من الصومال وإثيوبيا»، عادّاً أن «السماح لمصر بكسب النفوذ قد يؤدي إلى توتر العلاقات بين إثيوبيا والصومال، وسيقوض أمن واستقرار الصومال على وجه الخصوص».

ويعدّ الدكتور عبد الله أحمد إبراهيم، الهجوم الإثيوبي تجاه القاهرة نتيجة أن «أديس أبابا تفهم جيداً خطورة دور المصري إذا دعمت الصومال، لذا فهي تحاول وقف دور مصري داعم للصومال، لذلك ربما يكون ما يثار بالإعلام الإثيوبي فقط للتضليل».

ويستبعد أن «تصل الأمور إلى حرب بين إثيوبيا والصومال أو إثيوبيا ومصر»، لافتاً إلى أن «انتخابات أرض الصومال في هذا الشهر سيكون لها دور في مستقبل مذكرة التفاهم، خصوصاً إذا فاز عبد الرحمن عرو أمام الرئيس الحالي موسى بيحي عبدي بالانتخابات الرئاسية المقررة في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فيتوقع أن يقوم بإلغاء مذكرة التفاهم لقربه من الصومال».

ويرجع الخبير السوداني، عبد الناصر الحاج، الموقف الإثيوبي تجاه مصر، إلى أنه «منذ توقيع القاهرة ومقديشو على اتفاقية أمنية في أغسطس (آب) الماضي، باتت تجتاح أديس أبابا مخاوف كبيرة من تشكيل حلف عسكري استخباراتي جديد في منطقة القرن الأفريقي يجمع مصر والصومال وإريتريا، وهي ذات الدول الثلاث التي تجري علاقة إثيوبيا بهم على نحو متوتر وقابل للانفجار».

ويرى السفير حليمة أن «احترام إثيوبيا للقوانين وعدم اللجوء لتصرفات أحادية وسياسة فرض الأمر الواقع، السبيل الوحيد لاحتواء أي تصعيد بمنطقة القرن الأفريقي»، مضيفاً أن «هذا يحتاج إيجاد حلول لملف سد النهضة ووقف مساعي إبرام الاتفاقية مع إقليم أرض الصومال، وبدء علاقات قائمة على الاحترام والتعاون مع دول منطقة القرن الأفريقي».