«مغزى القراءة»... قصة مؤثرة لموت متوقع

الهولندي شتاينس يكتب عن كتب رافقته في رحلته المرضية

بيتر شتاينس
بيتر شتاينس
TT

«مغزى القراءة»... قصة مؤثرة لموت متوقع

بيتر شتاينس
بيتر شتاينس

القاهرة: حمدي عابدين

في كتابه «مغزى القراءة» ينطلق الكاتب الهولندي بيتر شتاينس، وهو يتجول في تفاصيل عوالم العديد من الأدباء والمفكرين والفلاسفة، قديماً وحديثاً، من تجربة شديدة الحساسية والذاتية، والمرارة، وهي إصابته بمرض التصَلب الجانِبِي الضمورِي، الذي تبدأ أعراضه بموت الخلايا العصبية التي تُغذي عضلات الجسم، وتؤدي إلى تدهور مستمر في حالة الجسد، ووظائفه التي يقوم بها.
الكتاب قدم نسخته العربية المترجم المصري محمد رمضان حسين، ويصدر قريباً عن دار «مصر العربية» للنشر والتوزيع المصرية، وتعرف عليه القراء في أوروبا من خلال طبعتين، الأولى كانت باللغة الهولندية عام 2015، أما الثانية فكانت في عام 2016 بالألمانية، وهي التي تُرجمت منها النسخة العربية.

تأمل الألم
مع معرفته بحالته المرضية، انطلق شتاينس في رحلة مع المؤسسات الطبية، وقد عبر عنها في مقالات عديدة كتبها في صحيفة «إن آر سي هاندلسبلاد» الهولندية ببساطة ومرح، آخذاً القراء في رحلة ممتعة مع مطالعاته في كلاسيكيات الأدب الأوروبي والحديث، مثل «كونت مونت كريستو»، و«سُباعية المكتب»، و«أبلوموف»، و«الجبل السحري»، و«مذكرات هادريان»، وقد جعل من رحلته مع الكتاب والمبدعين نقطة بداية لحالة تأملية استغرق فيها في مراحل العجز والفراق والاستسلام والألم، التي مر بها، فضلاً عن الأشياء الجميلة التي افتقدها في مرضه المميت، الذي أدى إلى وفاته في 29 أغسطس (آب) 2016 بمدينة هارلم شمال هولندا.
يتضمن الكتاب 52 مقالة قصيرة عن مرضه، وقبل كل شيء عن كُتُبِه ومُؤَلِفِيه المُفَضلِين؛ ديكنز، وألكسندر دوماس، وشكسبير، وستيفنسون، وتوماس مان، وبروست، وأوفيد، وسينيكا، وشيمبورسكا، وأيضاً عن جاك بريل، واستريد ليندجرين. وفي تأملاته المُؤثرَة والمُبهجة، والمُضحكة كذلك، يربط بيتر شتاينس بين تدهور حالته الجسدية وشخصيات روائية بارزة في القصص العالمي؛ وخلالها مثلاً لجأ إلى «صورة دوريان غراي» لأوسكار وايلد وهو يتمعن في التغييرات الحاصلة بجسده، وإلى «فنان الجوع» لكافكا، التي تَحدث فيها عن الصعوبات المتزايدة التي يعانيها وهو يتناول طعامه، وإلى «الحورية الصغيرة» لأندرسون، التي كان عليها الاختيار بين المشي والكلام، وهذه القصة مَنَحَت شتاينس البديل المناسب لقصة فُقْدَان صوتِه.
ويقدم شتاينس كتابه بحديث عن مرضه، وأعراضه، ويشير إلى أنه تعرف في صيف 2013 على إصابته، وأن حياته ستنتهي قريباً، لكنه لم يستسلم وبدأ بعد ستة أشهر من ذلك التاريخ في كتابة مقالة أسبوعية في صحيفة «إن آر سي هاندلسبلاد» الهولندية، ربط فيها مسار مرضه بالمؤلفات التي قرأها أو أعاد قراءتها، لكتاب أصبحوا رفقاء رحلته المرضية، ولم تكن مقالاته مُجَرد قصة مؤثرة لموت متوقع، لكن نظرة استثنائية على الأدب العالمي، والقراءة ومغزاها ومعنى الأدب، وإِدْرَاكِ الحياة.
في مقدمة الكتاب يقول شتاينس إن الكتابة أتاحت له فرصة متابعة رائعة ودقيقة لحالة تدهور جسده ورحلته مع المؤسسات الطبية. وفي مقال بعنوان «كأس سم سقراط، أفلاطون: مُحاورة فيدون... حوالي عام 380 قبل الميلاد»، واصل تشاينس الحديث عن مرضه، وأعراضه، ومراحل اكتشافه، وتطورات حالته التي وصفها بأنها تشبه «الوقوع في ثقب أسود»، ويربطها بتجرع سقراط السم في عام 399 قبل الميلاد، بعد اتهامه بعدم الإيمان بالآلهة اليونانية وإفساد الشباب. وهو يقول عن ذلك: «وفاة سقراط بالسم تكاد تشبه نسخة فائقة السرعة من تطورات مسار مرض التصَلب الجَانِبِي الضمُورِي؛ حيث تفقد السيطرة على ذراعيك وساقيك، وفي النهاية تموت بسبب شلل عضلات تنفسك».
وفي مقالة ثانية يتضمنها الكتاب بعنوان «تسريع مشاهد نهاية الحياة... أوسكار وايلد: صورة دوريان غراي (عام 1891)»، يقول شتاينس: «في صورة دوريان غراي، الرواية الوحيدة لأوسكار وايلد، يقع بطلها المنحل تحت سحر صورة رسمها له فنان. شَعَرَ كم أن الأمر خَداع أن تحتفظ اللوحة بجمال بات يغادره هو شخصياً، فهتف بتنهد: آه لو كان الأمر خلاف ذلك! لو بقيتُ شاباً وكبرت الصورة!». ومن الحديث عن الرواية وأحداثها، يعود شتاينس لحالته وقد طغت صورة دوريان سريعة التلاشي على ذهنه، ليذكر أنه رغم كل سلبيات المرض إلا أن لديه ميزة أنه في الغالب لا يهاجم الدماغ أو الرغبة الجنسية، ويرتبط بألم أقل من السرطان أو الروماتيزم.
ويتضمن الكتاب خاتمة بعنوان «غيبوبة القراءة» كتبها الكاتب الهولندي فان دير هايدن، ويتحدث فيها عن رحلة تَطَورَ بيتر شتاينس إلى مؤلف على مدار خمسة وعشرين عاماً، مشيراً إلى أنه ظل صادقاً مع نفسِه كقارئ، وغالباً ما كان موضوعه هو الأدب نفسه، وقد كان كتابه العظيم «صُنِعَ في أوروبا» محور اهتمام الكثيرين من المفكرين والقراء على السواء. ويذكر هايدن أن شتاينس تعامل مع مرضه بشفافية وشجاعة مطلقة، وأهدى كتابه «مغزى القراءة» لقرائه وربطه بمرضه. وعندما أدرك أن التصلب الجَانِبِي الضمُورِي هو المصير الذي ينتظره، لم يترك المرض يشل قواه العقلية، وواجهه بنفسه وتحداه.
وُلِدَ بيتر شتاينس في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1963 في روتردام، وفي مدينة ماس التحق بمدرسة مونتيسوري، أما بقية طفولته وشبابه فقضاهما في قرية روسوم، التي كانت مستوطنة حدودية في العصر الروماني، وفي مدينة زالتبومل الصغيرة، التي تدين بشهرتها إلى السونيته الشهيرة التي خصصها الشاعر مارتينوس نيهوف لجسر فوق نهر فال.
بعد حصوله على الثانوية من مدرسة الألعاب الرياضية في مدينة هيرتوجنبوش، انتقل شتاينس إلى أمستردام في عام 1981 لدراسة التاريخ، وتخصص في العصور الكلاسيكية القديمة، وأكمل دراساته «بامتياز» بأطروحة حول تاريخ العقليات الرومانية، وفي جامعة ماساتشوستس في أميرست، أنهى دراسته عام 1989 بأطروحة حول صورة أميركا عند بوب ديلان وراندي نيومان ولو ريد.
وقام شتاينس بتدريس تاريخ العصور الكلاسيكية القديمة في جامعة أمستردام من عام 1986 إلى عام 1990. وعمل كمُحَرر عام في الملحق الثقافي، ثم مُحَرر أفلام، ومُحَرر أدبي، وترأس الملحق الأدبي (كُتب) من 2006 إلى 2012. وكَتَبَ العديد من المقالات والمراجعات عن الأدب الأميركي والهولندي. وفي فبراير (شباط) 2012، ترك الصحافة، وأصبح مديراً للمؤسسة الهولندية للآداب، وهي مؤسسة حكومية لتعزيز الأدب الهولندي في الداخل والخارج، وفي صيف 2013، بعد تشخيص حالته المرضية، اضطر للتخلي عن مُعظم واجباته، واكتفى بكتابة عموده الأسبوعي.
قدم شتاينس ثمانية عشر كتاباً كان أولها عمله «السيد فان ديل ينتظر إجابة»، ثم نَشَرَ بعد اثني عشر عاماً كتابه الأكثر مبيعاً «القراءة وهلم جرا»، ثم نشر بالتعاون مع ابنته «يِت»، طبعة مُحَدثة ومُعَدلة بدقة من دليله الأدبي في عام 2015. وفي مارس (آذار) 2014 حصل على جائزة «ريشة الشرف الذهبية» الشهيرة، وجائزة «التوليب الذهبي» عام 2014، عن كتابه «صُنع في أوروبا، الفن الذي يربط قارتنا»، كما وصل إلى القائمة الطويلة للجائزة الأدبية البلجيكية «البومة الذهبية»، وحصل على جائزة من «هيلينا فاز دا سيلفا». وقد تم تكريمه في عام 2014 من قِبَلِ الحركة الأوروبية في هولندا، «لمساهمته الاستثنائية والبناءة في النقاش الأوروبي بهولندا».



هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.