الرواية... من مخيال البراءة إلى جحيم الحرب

لؤي حمزة عباس يفكك «شفرات الأشياء الصغيرة»

الرواية... من مخيال البراءة إلى جحيم الحرب
TT

الرواية... من مخيال البراءة إلى جحيم الحرب

الرواية... من مخيال البراءة إلى جحيم الحرب

الأشياء الصغيرة «اليومية»، وربما المهملة والهامشية، التي تحفل بها حياتنا هي ما تلفت انتباه القاص الروائي لؤي حمزة عباس في روايته القصيرة (النوفيلا) الموسومة «حقائق الحياة الصغيرة» (2021)، فالروائي لا يبحث عن الأشياء والأحداث الكبيرة، لكنه يمنح هذه الأشياء الصغيرة حجماً مكبراً، كأنه يضعها تحت عدسة مكبرة، حيث يروح يستنطقها ويستغور عالمها الداخلي، ويفكك شفراتها السرية، لكي تنبض بالحياة، وتمنح الفرصة للقارئ لأن يتلقاها بعفوية وبراءة، وربما يعيد اكتشافها وتأويلها وصولاً إلى أنساقها المغيبة التي تنقله من عالم الأشياء الصغيرة إلى فضاء الأشياء، والدلالات والأحداث الكبرى...

- الروائي الغائب
أحداث الرواية بكاملها تطل عبر منظور بطلها الصغير، غير المسمى، الطالب في المدرسة الابتدائية. ومن خلال سرد مبأر عبر ضمير الغائب الذي هو ليس جزءاً من السرد كلي العلم، بل هو شكل سردي موضوعي مبأر يسميه تودروف بـ«أنا الراوي الغائب»، حيث يمكن بسهولة استبدال الضمير الغائب «هو» بالضمير «أنا». ويلاحق بطل الرواية الصغير، عبر مخيال الطفولة البريء، أحداث عالمه الصغير الذي يتسع لاحقاً عندما يصبح جندياً ينام في خنادق الحرب وسواترها، بكثير من العفوية والبراءة، وأحياناً ينقل لنا مشاهد حياته من خلال «عين كاميرا» تدون بحيادية اللقطات المختلفة، وهو نهج يعتمده الروائي في أغلب قصصه ورواياته. وبطل الرواية في رؤيته وسرده مشبع بكم هائل من الحكايات الفولكلورية والقصص الخرافية والميثولوجية، من خلال حكايات جدته له أو من خلال الكتب التي يقرأها لجدته عن قصص الأنبياء، فضلاً عن قراءاته الخاصة وولعه بشكل خاص بالكتب التي تحدثه عن مدن العالم الساحرة، والتي حدثه عن بعضها ابن عمه البحار (سليم). وفجأة، يجد هذا البطل الصغير نفسه وقد أصبح جندياً في واحد من أنفاق الحرب المجنونة في شرق البصرة التي شنها صدام حسين لتأكل الأخضر واليابس، لكن وعي البطل الصغير البريء العفوي التلقائي، وربما الميثولوجي، يظل مهيمناً على وعي الجندي الصغير وهو يواجه آلة الحرب المرعبة.
ولم يكن البطل الصغير وحيداً في مواجهة العالم، بل كان يقف دائماً إلى جانبه صديقه جرذً ما، وغالباً ما يعامله معاملة المعرف بـ«أل التعريف» الدال على النوع، حيث يخاطبه ويصغي إليه، بل يستنجد به أحياناً للانتقام له من بعض زملائه الذين يعنفونه أو من بعض معلميه القساة، ومنهم المعاون عباس والمعلمون الذين يرتدون السفاري الزيتوني تشبهاً بالحزبيين في ذلك الوقت. كان يكتب للجرذان لتنتقم له، ثم يتوجه لأقرب فتحة من فتحات جحورها في حديقة المنزل أو تحت العتبة... ليرمي ما يكتب كلما ضايقه أحد الطلاب... ويكتب اسم الطالب أو المدرس عليها... ثم يلف الورقة ويرميها، وكأنه يحاكي سكان الكهوف القدامى في رسومهم البدائية داخل الكهوف وهم يصوبون سهامهم نحو طرائدهم، أو مثلما يفعل بعض السحرة للانتقام من شخص ما بكتابة اسمه والدعاء عليه لكي يحققوا فعل الانتقام.
ظل بطل الرواية طيلة حياته يشعر بالتماهي مع عالم الجرذ الصغير وهو يتذكر حكاية جدته. ولكن ما سر علاقة البطل بالجرذ؟ وهو سؤال أثاره البطل في حواره مع ابن عمه سليم، ولماذا الجرذ بالذات؟ وهو سؤال ظل مفتوحاً (ص 51).
يخيل لي أن البطل الصغير اختار الجرذ صديقاً وظلاً وتوأماً لكي يستطيع أن يحادثه ويبثه همومه، ربما بسبب نزعته الانطوائية وخشيته من الآخرين الذين قلما يقيم معهم حوارات واسعة. وربما يذكرنا هذا الاختيار برواية «كاتم الصوت» لمؤنس الرزاز، وبطلها يوسف الذي شعر بحاجته إلى شخص يقدم له اعترافاته، فاختار «سلافة» الصماء التي بدأ يبثها أسراره وهمومه. ويقدم الروائي مونولوجاً داخلياً للبطل المجند وهو يخاطب الجرذ: «أراقبك وأنت تتحرك، أستعيد مع كل حركة من حركاتك جانباً من حياتي... إنها أبواب حياتي التي قفزت فيها من الطفولة إلى الحرب» (ص 91). كأن البطل يشعر بأن عمره قد خطف مثل جرذ خائف عندما صار جندياً.
رواية لؤي حمزة عباس «حقائق الحياة الصغيرة» ليست مجرد ملاحقة لمراحل نمو بطل الرواية الصغير منذ أن كان فتى صغيراً في الدراسة الابتدائية حتى صار جندياً داخل جحيم الحرب، فهي ليست رواية التربية العاطفية التي كتبها غوستاف فلوبير، وليست مناسبة لتمييز مراحل «طقوس العبور» عبر المراحل العمرية المختلفة، بل هي أولاً وقبل كل شيء رواية عن الحرب، وعن الاستبداد والديكتاتورية. فالحرب تتقافز في الرواية، تماماً مثلما تتقافز الجرذان عبر التاريخ وفي خنادق الحرب، لكن الحرب لم تطل برأسها وثائقياً، وإنما من خلال أصدائها وصواريخها التي كانت تسقط على رؤوس الأبرياء وبيوتهم الآمنة، وتعيد تأسيس تقاليد عسكرة المجتمع وتدمير قيمه، كما نجد ذلك في إشاعة روح العنف والقسوة لدى الأجيال الجديدة من خلال قيام طلبة المدرسة الابتدائية بقيادة الطالب المشاكس شهاب الوحش بعملية اصطياد الجرذان والحيوانات الصغيرة، والتلذذ بتعذيبها وقتلها وحرقها. وهو مشهد ذكره بشخصية صدام حسين في طفولته، عندما كان يتلذذ بقتل الحيوانات الصغيرة، التي تومئ إلى شخصية عدوانية سادية.

- تناص مع «الأمير الصغير»
رواية لؤي حمزة عباس رواية تحتاج إلى قارئ خاص، ربما قارئ يمتلك روح طفل صغير برئ، مثل بطل الرواية ومخياله السحري الميثولوجي، وربما يمتلك أيضاً مخيال بطل رواية «الأمير الصغير» لأنطوان سانت أوكزبيري التي ذكرها لحبيبته الافتراضية (بلقيس)، وأخبرها عن هذا الأمير الصغير الذي يعيش بعيداً وحيداً على كوكبه: «تصوري أميراً وحيداً على كوكب بعيد، كل شيء صغير على كوكبه، وليس لديه سوى زهرة يرعاها، تحدثه ويحدثها»، حيث نكتشف أن هذا الأمير الصغير الذي كان بحجم نبتة صغيرة يعشق وردة، وكان يحادثها ويبثها همومه وأحلامه، لكنه في لحظة معينة يكتشف أنها قد خذلته عندما قررت أن تهجره وترحل بعيداً إلى كوكب آخر. وهذه الموتيفة الصغيرة ربما تذكرنا بعلاقة بطل الرواية الصغير بجارته (بلقيس) التي أحبها عن بعد من طرف واحد، ولم يجرأ على الاعتراف لها بحبه أو الاقتراب منها، مما دفعها إلى إقامة علاقة عاطفية مع ابن عمه البحار (سليم)، عندما فوجئ بهما وهما في موقف عاطفي ساخن، مما جعله يتهمهما بالخيانة لحبه غير المعلن، وهو أمرٌ قد ضاعف من غضبه، وربما دفعه إلى قتل الجرذ بحجر دون أن يحس بالأسف والحزن.
يخيل لي أن قصة أو (نوفيلا) «الأمير الصغير» كانت تمثل بصورة أو بأخرى النص الغائب للرواية الذي أقام معه المؤلف تناصات كثيرة، مثلما أقام تناصات أخرى مع العشرات من قصص الأطفال والحكايات الميثولوجية والشعبية، فضلاً عن تناصاته مع كتاب «الجرذ: والتاريخ الطبيعي والثقافي» تأليف جوناثان بيرت، ترجمة معن أبو الحسن، منشورات «كلمة» أبوظبي 2011.
وفي هذه الرواية، يرتفع الروائي لؤي حمزة عباس بمستوى منظوره السردي في التقاط نماذج الحياة اليومية الصغيرة التي تمثل هامشاً اجتماعياً، ويتجنب المتن المركزي الرسمي خاصة. ولكي يظل بعيداً عن المركز، نراه يعمد في الغالب إلى خلق أبطال صغار بمخيال بريء منفتح، ويمنحهم الفرصة لإعادة قراءة التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي لمدينة البصرة وأناسها، ربما كناية عن العراق نفسه. ولكي يعمق الإحساس بالبراءة، نراه يبتعد إلى حد كبير عن الإسقاطات السيكولوجية، ويحرص على تقديم منظر محايد موضوعي من خلال لقطات سريعة أشبه ما تكون بلقطات سينمائية وامضة، أو من خلال بناء بنية لمشهد روائي، ولكن غالباً عبر ترك «عين كاميرا» مفتوحة، من خلال منظور البطل المبأر الذي يتلقى إشارات العالم الخارجي وشفراته وعلاماته بعفوية وشفافية، ويتحول الوصف الروائي، خاصة في مظهره الشيئي الذي رسخته تقاليد «مدرسة النظر» في الرواية الفرنسية الجديدة، إلى عنصر مهم في تدعيم المنظور الموضوعي المحايد لمخيال البطل الصغير المنبهر بمرئيات العالم ورموزه وحكاياته.
لقد عمد الروائي إلى تجميد حركة الزمن عند مخيال البطل الصغير غير المسمى (كعادة المؤلف)، وكما فعل في روايته «مدينة الصور» التي بقي فيها بطل الرواية يمتلك وعياً طفولياً عندما أصبح شاباً، ويدفعنا إلى استذكار بطل سالنجر في «حارس حقل الشوفان» وليم كولفيلد. فرغم مرور الزمن الذي جعل من هذا الفتى الصغير جندياً في خنادق الحرب المجانية، فإن السرد المهيمن منذ بداية الرواية حتى نهايتها يتسم بوعي البطل الصغير ومخياله من فترات النضج اللاحقة، فقد كانت تومض بين فترة وأخرى، وظلت هي الأخرى محكومة إلى حد كبير بمخيال البراءة والعفوية والموضوعية الذي استهل به البطل الصغير سرده لحياته ولعالمه ومدينته البصرة.
لؤي حمزة عباس، روائي من طراز خاص، تعلم الشيء الكثير من محمود عبد الوهاب ومحمد خضير وفؤاد التكرلي، وحكايات الجدات، ومن تراث أدب الأطفال وكتب الفولكلور والميثولوجيا، فضلاً عن الرواية العالمية، واختار أن يكون حارس مخيال البراءة والطفولة والصدق بطريقة سردية باهرة.



3 مخرجات في لحظة سينمائية نادرة... «البحر الأحمر» يجمع بينوش وأمين ودعيبس

جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
TT

3 مخرجات في لحظة سينمائية نادرة... «البحر الأحمر» يجمع بينوش وأمين ودعيبس

جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)

في لحظة نادرة، تجمع بين التجربة العالمية ونهضة السينما العربية، التقت في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» 3 سينمائيات، لكل منهن علاقة مباشرة مع «الأوسكار»، وهن: الممثلة الفرنسية الحائزة «الأوسكار» جولييت بينوش، التي تُعدّ من أبرز الوجوه في السينما الأوروبية، والمخرجة السعودية شهد أمين التي يُمثّل فيلمها «هجرة» السعودية في سباق «الأوسكار»، والمخرجة الفلسطينية - الأميركية شيرين دعيبس التي يُنافس فيلمها «اللي باقي منك» باسم الأردن في «الأوسكار».

جاء ذلك ضمن الجلسة الحوارية لبرنامج «نساء في الحركة»، الذي وُلد من مهرجان «كان» عام 2015 بكونه نافذة تطلّ منها النساء على النقاش العالمي حول الصورة، وصولاً إلى مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، إذ يحضر البرنامج للمرّة الأولى، ويحتفي بمرور عقد عليه، في جلسة حوارية جمعت النجمات الثلاث اللواتي ينتمين إلى خلفيات وثقافات وتجارب متباينة، لكن جمعتهن الأسئلة: كيف تُكتب الذاكرة؟ وكيف تتشكّل هوية المرأة في السينما؟ وكيف تستعيد السينما صوتها الإنساني وسط عالم يتغيَّر بسرعة؟

من التمثيل إلى الإخراج

وشكَّل انتقال الممثلة الفرنسية جولييت بينوش من التمثيل إلى الإخراج محوراً أساسياً في حديثها، خصوصاً عن الصعوبة الكامنة في «إخراج نفسها» داخل الفيلم.

تقول جولييت بينوش: «الممثل لا يستطيع أن يفصل نفسه عن الإخراج. العالمان متداخلان بشكل طبيعي»، مضيفة أنّ أداءها لم يكن خاضعاً لعملية توجيه ذاتي بقدر ما كان «محاولة لترك الحقيقة تمر عبر الجسد».

وتوقَّفت عند سؤال «الحقيقة في الصورة»، مشيرةً إلى أنّ لحظة نسيان المُتفرّج بأنّ ما يشاهده مجرّد صورة هي قلب التجربة السينمائية، وتتابع: «الحقيقة تنتمي إلى الإنسان. عندما تدخل الصورة في داخلك وتنسى أنها مصنوعة، عندها فقط تبدأ السينما».

المخرجة السعودية شهد أمين خلال الجلسة (المهرجان)

شهد أمين... الغرابة السينمائية

من ناحيتها، تناولت المخرجة السعودية شهد أمين فيلمها «هجرة» بإسهاب، وهو فيلم ينسج علاقته بين 3 أجيال نسائية. وقدَّمت مداخلة صريحة وحيوية، بدأت بسرد علاقتها بـ«غرابة أعمالها». قائلةً: «كل مرة أكتب فيلماً أقول إنّ الجميع سيحبه، ثم أصنعه، ويخرج غريباً جداً!».

وأضافت بابتسامة لا تخفي صدقها: «أقول لنفسي: (أرجوكِ اصنعي فيلماً طبيعياً)، لكن النهاية تكون دائماً لفيلم لا يُشبه أي فيلم آخر». وترى أمين أنّ هذا الاختلاف ليس هدفاً، بل نتيجة طبيعية لخياراتها الشخصية.

وبسؤالها عن دورها في إخراج المرأة السعودية من القوالب النمطية، تُجيب: «أنا لا أصنع أفلاماً لإثبات شيء عن المرأة السعودية أو لتغيير صورة ما، هذا ليس هدفي. أكبر خطأ يمكن أن أرتكبه هو أن أفرض أفكاري على الفيلم».

وعند سؤالها عن حضور الأجيال الثلاثة في فيلم «هجرة»، أجابت بتأمّل عميق: «كلّ ما نحن عليه اليوم صنعته أمّهاتنا وجداتنا. لا يمكن فَهْم الحاضر من دون العودة إلى الخلف».

أما عن المشهد السينمائي في السعودية اليوم، فرأت أنه يشهد واحدة من أسرع المراحل تطوراً على مستوى العالم، مضيفةً: «السعودية مكان ممتع لصناعة الأفلام. كلّ شيء جديد، وكلّ شيء يبدأ من الصفر. هناك مساحة لكلّ صوت».

كما حذّرت المخرجين الجدد من محاولة تقليد النموذج الأميركي: «لا حاجة لتكرار أحد... كن نفسك... كن غريباً إن أردت... ربما يجد أحدهم نفسه في هذا الغريب».

المخرجة شيرين دعيبس وتقاطعات الذاكرة والهوية (المهرجان)

شيرين دعيبس... صناعة الذاكرة

المحطة الثالثة حملت صوت المخرجة الفلسطينية - الأميركية شيرين دعيبس، التي تُشارك في المهرجان بفيلم «اللي باقي منك»، الذي يتناول أحداث فلسطين ما بعد النكبة. وهي المخرجة المعروفة باشتغالها على هوية المرأة العربية في سياقات الشتات. تطرَّقت دعيبس لفيلمها، بالقول: «وجدنا أنفسنا نصنع فيلماً عن النكبة بينما نشاهد نكبة أخرى تتكشَّف أمام عيوننا... نكبة بلا حدود».

ورأت أن البحث عن «فلسطين خارج فلسطين» كان عملية قاسية، لكنها ضرورة لصنع الفيلم، مضيفةً: «كان علينا أن نُعيد تشكيل الذاكرة بصرياً، ونبحث عن جذورنا في أماكن لا تمتلك الأرض نفسها».

وعن جذورها الشخصية، قالت بوضوح: «نشأت في عائلة فلسطينية - أردنية. أحمل الفرح والألم معاً. مشاركة هذا الإرث ليست خياراً، إنها واجب».

وفي تحليلها لتطوّر الدعم العالمي للسينما العربية، قالت شيرين دعيبس إنّ أوروبا والعالم العربي كانا أكثر دعماً من الولايات المتحدة، مضيفةً: «بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) أدركنا أن صورتنا تُروى من دوننا. وكان علينا أن نستعيد قصصنا». وأثنت على التحوّل السينمائي في السعودية، قائلة: «ما يحدث هنا استثنائي. الدعم الذي نراه في المنطقة خلال السنوات الأخيرة غير مسبوق».

ورغم اختلاف اللغات والخلفيات، تقاطعت مداخلات المخرجات الثلاث عند 3 محاور عميقة: الذاكرة بكونها منظوراً سردياً، والغرابة بوصفها توقيعاً، ورؤية الإنسان من الداخل. ويمكن القول إنّ جلسة «نساء في الحركة» في «البحر الأحمر» لم تكن مجرّد لقاء حول حضور المرأة في السينما، بل كانت مساحة لقراءة العالم من خلال العين النسائية؛ عين تتأمل الحقيقة، وتستعيد الذاكرة، وتتجاوز الخطاب التقليدي.


شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.