شبكة مترو الأنفاق في لندن.. الأقدم في العالم

تأسست عام 1862 واستخدمت لبناء الطائرات خلال الحرب العالمية.. تعج بالبشر و«الأشباح»

محطة {فارينغدون} إحدى أقدم المحطات في الشبكة (تصوير: جيمس حنا)
محطة {فارينغدون} إحدى أقدم المحطات في الشبكة (تصوير: جيمس حنا)
TT

شبكة مترو الأنفاق في لندن.. الأقدم في العالم

محطة {فارينغدون} إحدى أقدم المحطات في الشبكة (تصوير: جيمس حنا)
محطة {فارينغدون} إحدى أقدم المحطات في الشبكة (تصوير: جيمس حنا)

هنالك الكثير من الأسرار التي تحيط بشبكة مترو الأنفاق في لندن، والتي لا يعرفها معظم سكان المدينة وسياحها الذين يهبطون إليها بالملايين لاستخدامها يوميا. فهي واحدة من أقدم شبكات مترو الأنفاق في العالم وأكثرها نشاطا، يستخدمها سنويا 1.3 مليار إنسان. أعمق محطة فيها هي «هامستيد» على عمق 58.5 متر وأكثرها ازدحاما بالركاب هي محطة «ووترلو». وتقطع قطارات مترو الأنفاق في لندن مسافة 76.2 مليون كيلومتر سنويا.
بدأ العمل فيها في عام 1862 لبناء خط طوله 3.7 ميل بين محطتي فارينغتون وبادينغتون. وتم افتتاح أول محطات الشبكة في عام 1863 وكان أسلوب البناء يتم على سطح الطريق ثم تغطية النفق بسطح مسلح فوقه. أما حفر الأنفاق بأسلوب شقها تحت الأرض فلم يبدأ إلا عام 1890. وفي السنوات الأولى كانت قطارات الأنفاق تعمل بالبخار.
ورغم أن أهل لندن يطلقون على المترو اسم «أندرغراوند» أي تحت الأرض، أو «تيوب» نسبة إلى شكل الأنفاق، فإن نسبة 55 في المائة من الشبكة التي يبلغ طولها 240 ميلا يقع فوق سطح الأرض. وتحتوي شبكة مترو الأنفاق حاليا على الكثير من المحطات المهجورة، كما يشاع أن بعض المحطات، بما فيها محطة المتحف بالقرب من منطقة هولبورن تم إغلاقها بعد شائعات وجود أشباح لمومياوات مصرية أشاعت الرعب بين مستخدمي المحطة خوفا من لعنه الفراعنة!
من أهم المحطات المهجورة الأخرى محطة «ستراند» أو «أولدويتش» التي أغلقت في عام 1994 لأن المصاعد فيها لم يعد إصلاحها أو استخدامها ذا جدوى اقتصادية. واستخدمت هذه المحطة في تصوير الكثير من الأعمال الفنية في لندن من بينها فيلم «باتريوت غيمز».
وهناك محطة مهجورة أخرى بين «هايد بارك كورنر» و«غرين بارك» كان اسمها «داون ستريت» وأغلقت في عام 1932 لقربها من المحطات الأخرى وتم استخدمها كملجأ من قنابل الحرب العالمية الثانية.
ومن الأسرار التي لم تعرف عن الشبكة حتى عام 1985 تحويل ميلين تحت الأرض من أنفاق خط «سنترال لاين» إلى مصنع طائرات أثناء الحرب العالمية الثانية بخط حديدي خاص بالمصنع.
وتعكس شبكة أنفاق المترو توزيع الطبقات الاجتماعية في لندن تاريخيا حيث توجد أقل من 10 في المائة من شبكة الأنفاق في مناطق جنوب نهر التيمس التي كانت تسكنها تاريخيا الطبقات الفقيرة. بينما تمتع الأثرياء وسكان الطبقة المتوسطة شمالي النهر بنحو 90 في المائة من محطات الشبكة.
وأثناء عملية الحفر لمحطة «أولدغيت» في شرق لندن عثر العمال على آلاف الهياكل العظمية الآدمية حيث كان موقع المحطة موقع دفن جماعي لضحايا الطاعون في القرون الوسطى. وبنيت المحطة على بقايا ألف هيكل عظمي على الأقل. ولم تخل شبكة مترو الأنفاق من الحوادث حيث وقع أول حادث تصادم بين قطارين في نفق بين محطتي ووترلو وتشيرنغ كروس في عام 1938. ونتج عن الحادث جرح 12 راكبا. كما جرت عملية أول ولادة في مترو الأنفاق في عام 1924 وتمت في قطار في محطة «إيليفانت أند كاسل» على خط «بيكرلو». وينتحر سنويا نحو 50 شخصا تحت قضبان مترو أنفاق لندن.
الخريطة التي نعرفها اليوم لشبكة مترو أنفاق لندن صممها المهندس هنري بيك وتلقى عليها مكافأة تعادل قيمتها 10 جنيهات. وتم اعتماد الخريطة رسميا في عام 1933 لسهولة التنقل بين الخطوط التي رسمت بألوان مختلفة رغم اعتراض البعض على أنها لا تعكس حقيقة المسافات الفعلية للشبكة.

* أشباح الشبكة
قصص أشباح شبكة مترو أنفاق لندن يعرفها أهل لندن وتتداولها الأجيال وبعضها تم تسجيله بكاميرات المراقبة الليلية وبالصوت. ولكن الكثير منها مسجل بأقوال ركاب وعمال كثيرين على فترات متباعدة يروون تقريبا القصة نفسها عن أشباح أنفاق لندن، من أهم هذه الروايات هي شبح سارة بلاكويل في محطة بنك. وهي امرأة فزعت لمصرع أخيها الذي كان يعمل في المحطة وكانت تأتي كل يوم للسؤال عنه في حياتها، ثم عادت كشبح بعد موتها. القصص تشمل تقرير عامل أنه شاهد امرأة تتشح بالسواد داخل المحطة ليلا وعندما اقترب لمساعدتها اختفت داخل نفق لا مخرج له. وسمع عامل آخر طرق على باب مصعد من الداخل بعد إغلاق المحطة ليلا ولم يكن هناك أحد في المصعد. وأيضا شبح ريبيكا غريفيث في محطة ليفربول ستريت: وهي امرأة عاشت ما بين 1780 و1812 وأصيبت بالجنون وتظهر بين الحين والآخر تتجول في المحطة. وعلى خط بيكرلو بالقرب من محطة «إيليفانت أند كاسل» قال بعض ركاب قطارات الأنفاق عن تجارب إصابتهم بالقشعريرة لدى النظر على انعكاس صورتهم على زجاج نوافذ القطار واكتشاف خيال لشخص يجلس بجوارهم رغم أن المقعد المجاور لهم يكون أثناء ذلك خاليا.
وفي محطة «بيثنال غرين» أقر موظف في المحطة يعمل وحده خلال ساعات الليل أنه سمع أصوات صراخ أطفال ونساء كانت تتعالى تدريجيا مع مرور ساعات الليل. وأكد الرواية أحد قدامى الموظفين مؤكدا أن ضربة جوية للمحطة أثناء الحرب العالمية الثانية أودت بحياة 173 شخصا معظمهم من النساء والأطفال.

* شبكة مترو أنفاق لندن في أرقام
- عدد الركاب سنويا: 1.3 مليار راكب.
- طول الشبكة: 402 كيلومتر.
- نسبة الأنفاق تحت الأرض: 45 في المائة من طول الشبكة.
- متوسط سرعة قطارات الأنفاق: 33 كيلومترا في الساعة.
- المحطة التي تحتوي على أطول سلم متحرك: «إنجل».
- أعمق نفق راسي للمصاعد: هامستيد 55.2 متر.
- أقصر نفق للمصاعد: كينغز كروس 4.1 متر.
- أعمق محطة تحت الأرض: هامستيد 55.2 متر.
- أطول مسافة بين محطتين: 6.3 كيلومتر بين «تشيشام و«تشالفونت».
- أقصر مسافة بين محطتين: 0.3 كيلومتر بين «ليستر سكوير» و«كوفنت غاردن».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)