ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

الاقتصادي والمصرفي الناجح الذي أنقذ اليورو

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة
TT

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

ماريو دراغي... يتأهب لمعركة إخراج إيطاليا من معضلاتها المزمنة

منذ عشر سنوات عندما كان ماريو دراغي رئيساً للبنك المركزي الأوروبي في أحرج مراحل الأزمة المالية العالمية، لمع اسمه كمنقذ للعملة الأوروبية الموحّدة عندما تفوّه بتلك الكلمات السحرية الثلاث «مهما اقتضى الأمر» Whatever it takes. وبفضل هذا الموقف تشتّت المضاربون الذين كانوا يعدّون لنهش اليورو، الرازح يومها تحت وطأة مستويات قياسية من الدين العام وترنّح القطاع المصرفي والآفاق الاقتصادية المسدودة أمام عشرات العاطلين عن العمل في بلدان الاتحاد الأوروبي.
تلك كانت المحطة الأصعب في مسيرة دراغي اللامعة حتى مساء الأربعاء الفائت عندما قرّر خوض معركة إنقاذ إيطاليا الغارقة دوماً في أزماتها السياسية والتي يتهالك اقتصادها الصناعي باستمرار منذ عشرين سنة. وجاء قبول دراغي بهذه المهمة شبه المستحيلة تجاوباً مع طلب رئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا بعد فشل محاولاته لتعويم رئيس الوزراء السابق جيوزيبي كونتي لتشكيل حكومة جديدة إثر استقالة حكومته الثانية. وكانت القاعدة لتلك الحكومة قد انحسرت البرلمانية، خاصة في مجلس الشيوخ، إثر انسحاب كتلة «إيطاليا الحيّة» التي يقودها ماتّيو رينزي رئيس الوزراء الأسبق المنشقّ عن الحزب الديمقراطي (يسار الوسط) والعدو اللدود لكونتي.

عاش ماريو دراغي، المولود في العاصمة الإيطالية روما عام 1947، يتيم الأبوين منذ سن العشرين. وكان والده موظفاً في البنك المركزي الإيطالي الذي التحق هو به بعد تخرجه في الجامعة وتدرّج فيه ليتولّى منصب الحاكم من مطلع عام 2006 وحتى نهاية عام 2011 عندما عُيِّن رئيساً للبنك المركزي الأوروبي.
يقول عنه زميله على مقاعد الدراسة لوكا دي مونتيتزيمولو، الرئيس السابق لشركتي «فيات» و«فيرّاري»، «كان الألمع بيننا في كل المواد الأكاديمية والرياضة والعلاقات الشخصية». ومع أن أساتذته نصحوه بمتابعة دراسة الفلسفة والعلوم الاجتماعية، فإنه فضّل الالتحاق بكليّة الاقتصاد بجامعة روما «لا سابيينزا» العريقة التي تخرّج فيها في المرتبة الأولى بين دفعته. وبعد التخرّج تابع دراغي دراساته العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الإم آي تي) الشهير في الولايات المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه، وكان عنوان أطروحته للدكتوراه «دراسات في النظرية الاقتصادية». وهي تتعامل مع صعوبة تطبيق سياسات الاستقرار القصيرة الأجل ومواكبتها بإصلاحات على المدى الطويل، أي ما يشكّل اليوم التحدي الأكبر الذي يقف أمامه كرئيس للحكومة الإيطالية. وما يُذكر أنه كان بين زملائه في «الإم آي تي» خلال تلك الفترة بن برنانكه الذي أصبح لاحقاً رئيساً لـ«الاحتياط الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) وأستاذ الاقتصاد الشهير أوليفيه بلانشار الذي كان كبير خبراء صندوق النقد الدولي طيلة 12 سنة.

- المصرفي الناجح
بعد التخرج، انضمّ ماريو دراغي إلى فريق مستشاري البنك المركزي ووزارة المال في إيطاليا، حيث لعب دوراً بارزاً في وضع خطط الانضمام إلى «منطقة اليورو». ثم انتقل بعد ذلك لفترة سنتين ليتولّى منصب نائب رئيس مصرف «غولدمان ساكس» للاستثمار. ولكن رغم تجربته في ذلك المصرف خلال الفترة التي كان غولدمان ساكس مكلّفاً مراجعة حسابات اليونان - ورغم جنسيته الإيطالية التي تثير تلقائياً التحفظات في بلدان أوروبا الشمالية وبخاصة في ألمانيا - أجمع قادة الاتحاد الأوروبي على تعيينه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي خلفاً للفرنسي جان كلود تريشيه، الذي يجمع المراقبون على أنه أخطأ في نهاية ولايته عندما قرّر رفع أسعار الفائدة ورفض اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة الأزمة المالية التي كانت تهدد اليورو.
إلا أنه بعد ساعات قليلة من تسلّم دراغي مهامه رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، قرّر خفض أسعار الفائدة وضخّ كميّات غير مسبوقة من السيولة في السوق المالية. وبعد ذلك أقنع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بضرورة الخروج عن التشدد في قواعد الانضباط المالي التي اشتهرت بها ألمانيا وشراء الدين العام. ثم أطلق عبارته الشهيرة «مهما اقتضى الأمر» التي أنقذت اليورو من الكارثة.
ثم، كدليل على حزمه وإقدامه على اتخاذ القرارات الصعبة، كانت مبادرته في صيف العام 2011 عندما كان حاكماً للمصرف المركزي الإيطالي بالضغط على تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي (حينذاك)، لتوجيه إنذار إلى سيلفيو برلوسكوني رئيس الحكومة الإيطالية في تلك الفترة، وإجباره على إجراء إصلاحات صعبة كان يرفض القيام بها خوفاً على شعبيته وسقوط حكومته اليمينية. ثم عندما تولّى رئاسة البنك المركزي الأوروبي في ذروة الأزمة المالية، مارس ضغوطاً كبيرة أجبرت العديد من الحكومات الأوروبية على طلب كفالات كانت ترفضها لما تستدعيه من خفض جذري في مستويات الإنفاق العام على الخدمات الأساسية. وما زالت إلى اليوم تتردد العبارة الشهيرة التي وصف بها يانيس فاروفاكيس، وزير المال اليوناني، دراغي... عندما قال إنه «طاغية مأساوي» بعد الشروط القاسية التي فرضها على اليونان للخروج من الأزمة.

- معالجة آثار «كوفيد ـ 19»
عندما غادر دراغي رئاسة البنك المركزي الأوروبي وعاد إلى روما في خريف عام 2019، كانت الأزمة المالية الكبرى قد بلغت خواتيمها. ويجمع المراقبون على أنه أظهر مهارة تقنيّة متميزة، وكشف عن موهبة استثنائية في التواصل، وحاسّة سياسية مرهفة أعادت إلى الذاكرة «كبار المدرسة الإيطالية» من التشيدي دي غاسبيري إلى جوليو آندريوتي.
أزمة اليورو كانت هي التي حملت دراغي إلى فرانكفورت لتولّي رئاسة البنك المركزي الأوروبي. واليوم، إلى رئاسة الحكومة الإيطالية تحمله محنة «كوفيد - 19» التي أمضاها معتكفاً في منزله الريفي بمقاطعة أومبريا الجبلية الصغيرة (وسط إيطاليا)، حيث كان يتواصل منذ أيام مع رئيس الجمهورية سرجيو ماتّاريلّا، ورئيس الوزراء الأسبق ماتّيو رينزي، والمستشار الأقرب إلى سيلفيو برلوسكوني جيانّي ليتّا.
وبعد بضع ساعات من إعلان دراغي تجاوبه مع طلب رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة الجديدة، سجّلت البورصة الإيطالية أعلى ارتفاع بين البورصات الأوروبية في حين كانت فوائد خدمة الدين العام الإيطالي تتراجع إلى مستويات لم تشهدها منذ 15 سنة. مع هذا، يدرك دراغي جيداً أن مهمته محفوفة بالعراقيل والمخاطر. ولن يكون من السهل عليه أن يوفّق بين الأحزاب السياسية المتناحرة بشراسة غير معهودة ليؤمّن الدعم الكافي في البرلمان لحكومته، التي يرجّح أن تكون تكنوقراطية مطعّمة ببعض الأسماء السياسية التي تستقطب تأييداً واسعاً في البرلمان.

- قطع الطريق على اليمين المتطرف
لم يحدّد رئيس الجمهورية مهلة أمام ماريو دراغي لتشكيل الحكومة خشية من انتكاسة أخرى تفتح الباب مباشرة على الانتخابات المسبقة التي يطالب بها اليمين المتطرف وتتحاشاها بقية الأحزاب. وهو بعد اجتماعه مطولاً مع ماتّاريلّا خرج ليعلن أمام وسائل الإعلام «إنها مرحلة صعبة، تقتضي استجابة على مستوى التحديات الكبيرة أمامنا. وعلى هذا الأساس تجاوبت مع دعوة الرئيس لتشكيل الحكومة التي ستركّز نشاطها على دحر الجائحة واستكمال حملة التطعيم وإنهاض البلاد في وجه التحديات التي تنتظرنا. أمامنا فرصة تاريخية مع الموارد الاستثنائية التي سنحصل عليها من الاتحاد الأوروبي لإجراء الإصلاحات التي تحتاج إليها البلاد، والتركيز على الشباب، وتعزيز التلاحم الاجتماعي». وليس معروفاً بعد كيف ستكون التشكيلة الحكومية التي سيقدمها دراغي إلى البرلمان، خاصة أنه لم يتموضع أبداً في خانة سياسية معيّنة، بل حرص دائماً على النأي بتعليقاته النادرة حول الوضع السياسي في البلاد عن الخوض في النقاش العام المحتدم بين الأحزاب والبقاء على مسافة واحدة من الجميع. وهو يبدو في ذلك وكأنه كان يستعدّ منذ سنوات لهذا التكليف الذي جاءه بعد أن تكرر اسمه مرات عديدة في السابق لتشكيل «حكومة «إنقاذ».
المهم، الخطوة التالية، لتقديم دراغي تشكيلته الحكومية إلى رئيس الجمهورية، المثول أمام البرلمان طلباً للثقة في جلسة قد تمتدّ حتى منتصف هذا الشهر، حيث ينتظر أن يصبح الرئيس السادس للحكومة الذي لم ينتخبه الشعب منذ عام 2008. لعله، بذا يؤكد مرة أخرى عجز النظام السياسي الإيطالي عن طرح الحلول التي تستدعيها المراحل والأزمات الصعبة، كما يثبت فشل الطبقة والأحزاب السياسية في الارتقاء إلى مستوى التحديات الكبرى. ولعلّ كونتي هو المثال الأوضح على هذا الفشل، حيث لم تعد الأحزاب الكبرى مهتمة حتى بأن يتولّى أحد قادتها رئاسة الحكومة، بل وتفضّل تكليف شخصيات مستقلة من خارج المشهد السياسي.
من ناحية ثانية، اللافت أن أوّل الذين أعلنوا تأييدهم تكليف دراغي كان رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلوسكوني الذي يجهد للحفاظ على تماسك حزبه «إلى الأمام يا إيطاليا» (فورتسا إيطاليا» الذي يصمد بصعوبة ضمن التحالف مع القوى اليمينية المتطرفة الصاعدة بقوة منذ سنوات في إيطاليا. وفي المقابل، يعتمد دراغي أيضاً على دعم ماتّيو رينزي الذي كان السبب في الأزمة الحكومية عندما قرّر سحب وزرائه منها أولاً، ثم بقطعه الطريق لاحقاً على محاولات إعادة تشكيل أغلبية جديدة لتكليف كونتي تأليف حكومة ثالثة. ومن المرجّح أيضاً أن ينال دراغي تأييد الحزب الديمقراطي (اليساري المعتدل) الذي يتراجع تأثيره في المشهد السياسي الإيطالي بعدما تولّى ثلاثة من زعمائه رئاسة الحكومة خلال السنوات العشر الماضية.

- مصاعب «النجوم الخمس» و«الرابطة» جدية
«حركة النجوم الخمس»، التي تملك أكبر كتلة في مجلسي النواب والشيوخ، والتي تواجه خطراً محدقاً بالانقسام والتشرذم إذا ما خرجت من الحكومة، أو عند أول استحقاق انتخابات عامة، فهي تصرّ على ربط تأييدها دراغي بحكومة سياسية يعود فيها الرئيس المستقيل جيوزيبي كونتي إلى الواجهة. وكان كونتي قد دعا في كلمته الوداعية التي أعرب فيها عن تأييده تكليف دراغي إلى تشكيل حكومة سياسية على أوسع قاعدة برلمانية ممكنة. أما الحزب الوحيد الذي أعلن صراحة اعتراضه علـى تكليف دراغي، والتصويت ضد تشكيلته في جلسة الثقة، فهو حزب «إخوان إيطاليا» الذي يقوم على فلول الفاشيين، ويطالب بالذهاب إلى انتخابات مسبقة ترجّح كل الاستطلاعات أنه سيكون الفائز الأكبر فيها.
وللعلم، ثمة من يتوقع انضمام حزب «الرابطة» اليميني المتطرف الذي يتزعمه قائد تحالف اليمين ماتّيو سالفيني - الذي يطالب أيضاً بإجراء انتخابات مسبقة - إلى قافلة المؤيدين لحكومة دراغي خشية تصدّعه داخلياً بعدما لمح بعض قادته عن استعدادهم لتأييد الحكومة الجديدة حتى نهاية ولاية البرلمان في العام 2023، وأيضاً لأن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى تقدّم «إخوان إيطاليا» على حساب «الرابطة». وما يذكر أن «الرابطة» ما زالت أسيرة التنازع الداخلي بين الجناح المتطرف المناهض للمشروع الأوروبي والجناح التقليدي الذي تربطه علاقات وطيدة بالقطاع الصناعي، وبالتالي، يدعو إلى الاعتدال، وتحاشي التهوّر وركوب المغامرات، وإتاحة الفرصة أمام الحكومة الجديدة لإخراج البلاد من الأزمة.
في أي حال يعرف دراغي أنه سيحصل على الغالبية البرلمانية اللازمة لمشروعه الحكومي، وأن الأحزاب السياسية ليست في وضع يسمح لها بفرض شروط تعجيزية على حكومة إنقاذ فشلت في تشكيلها رغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد. وهو يعرف أيضاً أنه سيحظى بـ«فترة السماح» المعهودة التي تعطى للحكومات - وبخاصة التكنوقراطية - خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، لكن لا يخفى عليه أن طبائع الأحزاب الإيطالية ستغلب على تطبّعها... وستعود إلى شدّ الحبال في اتجاه مصالحها الضيّقة.
أخيراً، الميزة الأساسية التي يتمتّع بها ماريو دراغي بالمقارنة مع «حكومات الإنقاذ» السابقة التي رأسها التكنوقراط، هي أنه ليس مضطراً إلى اتخاذ إجراءات قاسية والقيام بإصلاحات مؤلمة. بل أمامه 229 مليار يورو من صندوق الانعاش الأوروبي لإنفاقها على برنامج واسع من الاستثمارات التي من شأنها أن تغّير وجه إيطاليا، بيد أن أنفاق هذه الأموال مشروط أيضا بإجراء إصلاحات أظهرت إيطاليا عجزاً مرضيّا عن إجرائها منذ عقود. هذا هو التحدي الأكبر أمام دراغي الذي يعرف أنه إذا نجح في مواجهته لن يكون هناك أي حاجز أمام وصوله إلى رئاسة الجمهورية التي تبقى هدفه الأسمى.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.