كوباني.. هل ستكون نقطة التحول ضد «داعش»؟

التنظيم خسر في معركة {عين العرب} 1075 مقاتلا

كوباني.. هل ستكون نقطة التحول ضد «داعش»؟
TT

كوباني.. هل ستكون نقطة التحول ضد «داعش»؟

كوباني.. هل ستكون نقطة التحول ضد «داعش»؟

ابتهج المقاتلون الأكراد مع نجاحهم بتحرير «كوباني» بعد معارك طاحنة استمرت 4 أشهر. وفي الوقت الذي رأى الكثير أن النصر الذي حققته القوات الكردية في المدينة السورية الصغيرة المتاخمة للحدود التركية، ينبئ بنهاية «داعش» لا تزال المجموعة المتشددة تسيطر على أجزاء كبيرة في كلا البلدين (العراق وسوريا) ولا تزال قادرة على جذب وتجنيد عدد كبير من المقاتلين الأجانب. تمكن المتطرفون في بداية المعارك من السيطرة على «كوباني» في العام الماضي نظرا لموقعها الاستراتيجي كنقطة عبور بين سوريا وتركيا. إنما مع احتدام المعارك، اتخذت المدينة الكردية المعروفة باسم «عين العرب» باللغة العربية، مكانة رمزية كونها المدينة الأولى التي أبدت مقاومة شرسة ضد هجومات «داعش».

«فمعركة كوباني هي معركة رمزية؛ والغريب في الأمر أن كوباني هي مدينة صغيرة وبالتأكيد ليست المعقل الأساسي للأكراد مثل كركوك. والمثير للاهتمام أيضا أنه للمرة الأولى منذ ظهور (داعش) في العراق في شهر يونيو (حزيران) الماضي، لم يتمكن التنظيم المتشدد من احتلال المدينة على الرغم من الهجمات المتعددة التي شنها» وفق الخبير المتخصص في الشؤون العراقية في مركز كارنيغي، ريناد منصور. في حديثه لـ«الشرق الأوسط».
فبدعم هائل عبر الضربات الجوية الأميركية، ومؤازرة القوات الكردية العراقية التي انضمت إلى الأكراد السوريين، تمكن الأكراد من استعادة المدينة من أيدي «داعش» التي كان قد أخلاها سكانها المدنيون. ونفذ التحالف الدولي ما يزيد على 600 ضربة جوية على كوباني – أي ما يوازي 80 في المائة من مجموع عملياته في سوريا - وقدرت كلفة هذه الضربات بمئات ملايين الدولارات.
كما مني التنظيم بخسارة كبيرة بلغت 1075 مقاتلين تقريبا، وأجبر على استقدام تعزيزات في محاولة لتفادي الهزيمة، بينما خسر الأكراد أكثر من 459 مقاتلا وفق بيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره بريطانيا. وعلى الرغم من أن مدينة كوباني دمرت بالكامل تقريبا، إلا أن النجاح بدحر «داعش» منها أثبت فعالية الضربات الجوية الدولية. «ولأول مرة تم وضع حد لزحف التنظيم المتشدد لا بل خسر أرضا كانت تحت سيطرته» كما قال فلاديمير وان ويلجنبرج، الخبير في مؤسسة جيمس تاون، في حديث مع «الشرق الأوسط».
أما الفوز الذي حققه الأكراد في هذه المعركة فقد يمهد الطريق لإنشاء كانتونات في سوريا وعلى الأخص في منطقة عفرين، وكوباني (أو عين العرب) وكذلك في مناطق الجزيرة في سوريا، وقد يساعد «الأكراد على تحقيق هدفهم المتمثل في إنشاء فيدرالية في هذه المناطق»، وفق منصور. هذا ويعتبر كل من حزب الاتحاد الديمقراطي السوري (PYD) فرع حزب العمال الكردستاني التركي وأكراد العراق أن إنقاذ الأكراد هو رهن به. والأكيد بعد معركة كوباني «أن العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي ومسعود برزاني قد تحسنت بشكل كبير» وفق وان ويلجنبرج.
يتفق جميع الخبراء على أن الانتصار على «داعش» في كوباني هو رمزي أكثر منه عسكري. فتنظيم داعش اعتمد حتى الآن على «الترويج الإعلامي»، وفق منصور. وركز على انتصاراته العسكرية لبث فكره الآيديولوجي المجرم، مما سمح له بجذب الكثير ضمن صفوفه وفي الوقت عينه بث الذعر في قلب العدو وخير مثال على ذلك، هروب الجيش العراقي إزاء تقدم «داعش» في العراق في يونيو (حزيران) العام الماضي. ومن أساليب البروباغندا التي اعتمدها «داعش» أن «الله بجانبه» ويبارك انتصاراته، مقولة لم تعد تنطبق منذ أن خسر في كوباني، وفق منصور. يشارك وان ويلجنبرج هذا الرأي مشيرا إلى أن «داعش» يصنف مقاتليه على أنهم «جنود الله»، تشبيه لم يعد ممكنا بعد الخسارة التي مني بها.
وفي السياق نفسه، تجلت الأهمية الرمزية التي تتمتع بها كوباني بالنسبة إلى التنظيم من خلال فيلم وثائقي دعائي صور في كوباني يظهر الصحافي البريطاني جون كنتلي الذي يحتجزه تنظيم داعش يتجول في أرجاء المدينة الكردية ويبجل في الانتصارات التي حققها التنظيم ويتحدث عن فشل العدو (الأكراد).
فضلا عن ذلك، وعوضا عن التعليق على سقوط كوباني، أصدر المتحدث باسم «داعش» أبو محمد العدناني - الشامي بيانا أعلن فيه عن توسيع ما يسمى الخلافة باتجاه منطقة خراسان، التي تشمل أفغانستان، وهدد بقتل طيار أردني وصحافي ياباني كان التنظيم احتجزهما. هذا وتدل الانتصارات التي يحققها الأكراد والجيش العراقي في كوباني وفي مناطق أخرى في محافظة ديالى على أن ظاهرة «داعش» قد تكون احتويت وأن التنظيم لم يعد يحقق انتصارات ميدانية كالسابق، ولو أنه ما زال يسيطر على مساحات واسعة من الأراضي والمدن الرئيسية في كل من سوريا والعراق.
فالتنظيم لا يزال يحكم قبضته على المناطق الخاضعة له ويتحكم بجميع مواردها أكانت بشرية أم لا. كما زاد عدد المقاتلين الأجانب الذين توجهوا إلى سوريا والعراق للقتال إلى جانب «داعش»، إلى 20 ألف مقاتل – أي بزيادة 5000 مقاتل، مقارنة بالتقديرات السابقة في شهر أكتوبر، وفقا للمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي (ICSR).
يشير منصور إلى أن التنظيم «لا يزال يحرز تقدما في سوريا». كما يجمع الخبراء على أنه من الصعب جدا أن يتكرر سيناريو كوباني في مدن أخرى في العراق أو في سوريا، بحيث يشرح وان ويلجنبرج أن الأكراد لعبوا دورا أساسيا في تحرير مدينتهم بما أنهم كانوا يقاتلون من أجل بقائهم. والأمر ليس متساويا في الموصل حيث خير السكان بين دعم «داعش» أو الهروب، وأنه من غير الممكن استرجاع المدينة العراقية بمجرد الاعتماد على الضربات الجوية فحسب من دون دعم محلي على الأرض.
ويضيف منصور «أنه من غير الممكن التوصل إلى حل مسألة (داعش) في الموصل ما لم تستعد الثقة بين الحكومة العراقية والقبائل السنية. فالناس يتحدثون كيف أن مجالس الصحوة في العراق (وهي تجمعات عشائرية سنية في أغلبها أنشئت لمواجهة القاعدة) تمكنت من إضعاف تنظيم القاعدة في العراق سابقا، وكيف من الأصعب تحقيق هذا الأمر من جديد إثر سياسات (رئيس الوزراء السابق المالكي) والجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الشيعية».
فقد تحدث مقالة نشرت في 26 يناير (كانون الثاني) نقلا عن 5 شهود عن عمليات إعدام مزعومة حصلت في قرية بشرق مدينة بروانة، ويقول السكان والمسؤولون في المحافظة إنه تم قتل ما لا يقل عن 72 عراقيا على يد مجموعة من الميليشيات الشيعية وعناصر قوات الأمن. «يعلم رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن العناصر المسلحة الشيعية تشكل عائقا أمام العملية الديمقراطية، والسؤال الذي يطرح نفسه إلى أي حد يمكنه أن يستمر في هذه اللعبة السياسية؟»، يتساءل منصور.
وبغض النظر عن التحدي الذي تشكله الميليشيات الشيعية وتدني انجذاب القبائل السنية للتنظيم، ليست الخسارة التي مني بها «داعش» كبيرة بما يكفي لكي تزعزع قوته في المدن الكبيرة. إلا أن الواضح أن «(داعش) بات أضعف من ذي قبل، وبات في موقع الدفاع بدل الهجوم، وقد خسر الكثير من القرى المحيطة بسد الموصل»، وفق وان ويلجنبرج.
ولا شك أن إخراج المنظمة الإرهابية من الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، لن يكون بالأمر السهل إطلاقا، على الرغم من وضع خطة لاستعادة السيطرة على المدينة في الربيع أو الصيف القادم، وفق منصور. كما أنه من غير المرجح أن تلعب القوات الكردية دورا في مثل هذا الهجوم الذي يتطلب كسب السكان السنة المحليين، الأمر الذي يبدو بعيد المنال على الرغم من جهود الحكومات الغربية والعراقية. على الرغم من كل ذلك، فلا شك أن فقدان كوباني قد يكون نقطة تحول في أسطورة «داعش»، ولو أن تدمير التنظيم لن يتحقق في يوم واحد، إنما قد تكون كوباني الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل.

* زميل غير مقيم في المجلس الأطلسي مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.