رفيف الظل: منْ أتى يا ليل بهذا الحكيم؟

رفيف الظل: منْ أتى يا ليل بهذا الحكيم؟
TT

رفيف الظل: منْ أتى يا ليل بهذا الحكيم؟

رفيف الظل: منْ أتى يا ليل بهذا الحكيم؟

تحت أغصان الدم، يهزّ العيدُ عباءته، فتتساقط الرؤيا. لا تصدق كل ذلك، فالشمس ضحية صباح مفترض. لا تصدق السحاب حتى يهطل ماء السماء على كرنفال الأرض.
سأصدق إن هي طرقتْ بحّة الضحى، ثم دخلتْ بهوَ نبضي. سأصدقها إن صرختْ بأعلى صدى، بأنهم سفكوا دم الشمس.
فجر أمس الأول، سأراقبها، وهي تتلاشى عند مخرج أوردتي. وسأقول للشاربين: العطش خنجر مرفوع، وطعنة الغدر، حتى لو كانت في ظهر جدار، هي وصمة الأنذال وبصمة الحانق.
لا تستغيث الكرامة إلا بأبنائها القتلى، وبالشاعر حتى لو نحروا أقلامه ولسانه، وبالوضوح مرفوعا في شعارات المستقبل، فهل يكتفون عند الشبع؟ بالطبع لا.
- بلى سيكتفون، حين يرتفع دخان حرائق أجساد المدارس والمساجد والكنائس، سيقولون:لم يبقَ سوى العظام. اطحنوها لكي لا يقال عنا أنا نميّز بين الطوائف والملل. اطحنوها، واعرضوها في سوق الزجاج. سيقال كانوا منزلقين، ويحذو مثلهم نفر غبي، ويتبع الجهال ردح نعالهم.
لا صلح ينجع مع السكين، فاحمل سلاحك حتى لو كان وردة واقطع رقاب الحرب
ممشوقا على حبل المصير بلا ترنح، والضوء مسرى ما تروم، وإن رشقوك بما يفترونه عن النار، فلن تسقط.
يا حامل الميزان في صبح التنابذ، أسقام رعاياك لن تداويها الخفة، ولا الحذر المشؤوم وهو صنيعة الخامل. انظر لشركهم. إنهم لا يفرقون بين البوح والنبح، وأنت تغمرهم بواوات عطف، تسقي حناجرهم بعسل الكلام، لكنهم صلد، ومن شدة الكفوف على وجوههم كأنهم مكفوفون. مررت بهم، يشحذون نبالهم باتجاه القمر، وهو يُوقد البخور لأحلامهم، لكنني لم أقوَ إلا أن أتسلل لمنتصف السماء، لأتلقّى عنه رميهم. هذا هو السعي الحثيث بين الشفرة والوردة. لا الميزان لنا ولا النيران، وعلينا قمر الغياب. كان الميزانُ يلهجُ بعدلنا، فلم نعتدل. والنار، النار لم تكتسِ معناها إلا حينما صارت عقابا لخطايانا، فأيهما سيقودنا إلى مرج يألفُ حروقنا؟
تتبخّرُ عيناكَ على مرأى من صوتك، وأنتَ تبحثُ عن هدوء لضجيج مسكنك.
لن تهدأ، لن تسكن أصلا، لن تتمكن من النظر إلى أغنيتكَ، وهي التي قادتكَ إلى هذا المبنى. ستفتح بابك للصم والبكم، ثم ستحدثهم عن موعد الانفجار. سيرشدونك إلى أغنيتك، وستطلقُ بالونات شتى، علّهم يقتادون ساعة الصفر بعيدا عنك. ألا تراهم الليلة كيف يبيضّون بك، ويرفعون لرشدكَ كؤوسهم؟ ألا تراهم؟ يهمسون أن من أتى الليلة بهذا الحكيم؟ من جعله يشقّ جذع النخلة، لتفرقَ البحر رطبا غيرَ منسي؟
نزح الرجال بعد أن فقدوا الذمم ولانوا حين خانتهم البسالة قبل بداية الحرب، وفي سرها قالت الحكمة: الصمت بيتي، لكنهم هدموه مذعورين من الفكرة النافرة، وغيرهم يقبل وجه الحظ حتى لو تجهم، وإن شح العمق، يفتش في العمقين ليلئم خدشه الغائر.
لا تلح وأنت تطرق الباب، فالجالس خلفه أصم. لا تلحس المرايا لتعرف أن طعمك مر. الرسام أرادها عمياء، فاستبدل البؤبؤ باللؤلؤ. قم من صفاتك واصفع الكرسي. اجلس في الرحيل تصير النهاية راضية عليك.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.