روايات نمطية لا تستكشف التاريخ بل تجتره

انشغلت بوقائع وشخصيات وعلاقات من دون ابتكار خلافاً لتجارب مهمة مثل الغيطاني ومجيد

جهاد مجيد
جهاد مجيد
TT

روايات نمطية لا تستكشف التاريخ بل تجتره

جهاد مجيد
جهاد مجيد

مالت الرواية العربية، وقبلها الرواية الغربية، إلى استثمار محكي التاريخ استثماراً يحرك كوامن التاريخ المدون بحثاً عن مخفياته ومسكوتاته. وقد تفنن الروائيون في كيفيات هذا الاستثمار، فكانت كتاباتهم السردية استكشافية وهي تنقب مستنهضة فينا -نحن القراء- الشكوك، ودافعة بنا إلى التشارك في تهشيم ثوابت التاريخ، وما رسخه فينا من وقائع وشخوص كنا نظن المؤرخين صادقين -قولاً وفعلاً- وهم ينقلون لنا أخبارها.
وإذا كان الساردون الغربيون قد ابتكروا وطوروا كيفيات توظيف محكي التاريخ، فإن بعض الساردين العرب شغلتهم أيضاً وقائع تاريخية بعينها، فجربوا محكي التاريخ، وذلك من قبل أن تصل إلينا رياح ما بعد الحداثة من الغرب، فكتبوا رواية التاريخ التي تختلف عن الرواية التاريخية، باستثمارها التاريخ استثماراً ما بعد حداثي.
فكانت رواية «الزيني بركات» للمصري جمال الغيطاني (1974)، ورواية «حكايات دومة الجندل» للعراقي جهاد مجيد (1988)، السباقتين في هذا التجريب، اعتماداً على ما دلتهما عليه موهبتهما الأدبية ووعيهما الفكري حول دور السرد في انتهاك قدسية التاريخ.
ومع تزايد الاهتمام بكتابة رواية التاريخ، صار كثير من الساردين العرب يوجهون اهتمامهم نحو التداخل بين السرد والتاريخ، انجذاباً لما تلاقيه هذه الرواية من اهتمام قرائي ونقدي، وانبهاراً بما يتيحه المتخيل التاريخي من مساحات سردية رحبة مبتكرة. بيد أن بعض الساردين اللاحقين ظلت تعوزهم بعض المعرفة الإمبيريقية بمفاهيم التاريخ ونظريات الزمان وهم يحاولون إعادة بناء التاريخ مجربين أدواتهم في إنتاج محكي التاريخ وفق ما تجود به مخيلاتهم حول هوامش التاريخ ومقموعيه؛ والنتيجة كتابة روايات نمطية تندرج في واحد من الاتجاهين الآتيين:
الاتجاه الأول، وفيه السرد كلاسيكي على طريقة جورج زيدان التي فيها السرد خادم للتاريخ، والكاتب لا يعيد كتابة التاريخ، وإنما يستعيد منه وقائع وشخصيات وعلاقات إنسانية، بلا ابتكار تخييلي ولا حفر سردي، ومن ثم لا فرق بين كتابة أوتوبغرافية - سيرية وكتابة هستوغرافية - تاريخية.
والاتجاه الثاني، وفيه السرد واقعي بأشكال مختلفة، يتعامل بوعي ممكن أو بوعي قائم مع أحداث الماضي برؤية للعالم، لا إعادة فيها للأحداث بقصد اكتشاف حقيقة ما حدث فيها فعلاً، بل بقصد مركزة الإنسان والمجتمع والتاريخ والوجود.

إعادة تدوير للتاريخ
وللتمثيل على نمطية الاتجاه الأول، نأخذ روايتين: الأولى هي «رُقم الغياب» للروائي علي عبد العال (2020) التي يستعرض فيها الكاتب تاريخ الإنسان العراقي عبر آلاف السنين، من خلال سارد ذاتي يحكي قصة رحلته التاريخية العجيبة، مبتدئاً من وطن هو أصل، وعائداً إلى أصل هو الوطن، مسجلاً وقائع الرحلة في أربعة عشر فصلاً، كل فصل هو رقيم، كنوع من استلهام الإرث الرافديني، وتحديداً ملحمة جلجامش. وتبدأ الرواية والسارد طفل بصري يبيع السمك مع أمه التي رعته، وهي ليست أمه الحقيقية، ودور العرافة وما تحكيه له من ألغاز وأحاجي وحكايات خرافية في توجيه حياة هذا الطفل الذي يجهل أباه فيهيم في مواسم الحصاد، متوهماً انحداره من سلالة عتيدة «توصلت إلى حالة أثيرية تقرب إلى الحلم أوصلتني ببساطة متناهية إلى اعتبار أن أبي كان واحداً من الملوك الكبار المنقرضين» (الرواية - ص 22).
وبسبب هذا الوهم، يخوض السارد الذي فيه تتجسد شخصية جلجامش مغامرات السفر عبر البلدان بحثاً عن أصله، يرافقه ماني أو الشيخ ذو النورين، الشخصية الحكيمة العارفة التي فيها تتجلى شخصية أوتونبشتم، ليكون هو البوصلة التي توجه السارد: «أنت لا تعرف أصلك... أمك العراق هي أرض طيبة... الرجل السومري لا يقتل ذويه... أنت من أصل سومري».
وتبدأ الرحلة التاريخية بحثاً عن الأصل من البصرة، وهي «في طور تكوينها الفكري الجديد، ولم يزل واصل بن عطاء تلميذاً للشيخ الجليل الحسن البصري، ولم تكن القرامطة قد ظهروا بعد، ولم يكن اسم حمدان بن قرمط قد ظهر أصلاً؛ كل ما كان هو أني سمعت باسم حكيم يتداول الناس اسمه، على درجة من الورع والهيبة، اسمه ماني» (الرواية - ص 24)، مروراً ببغداد التي «كان المستعمرون يخجلون من الإساءة إليها»، ومن بعدها اليونان حيث أفلاطون وسقراط، إلى أن يصل إلى الأرض الاسكندنافية التي فيها تنتهي الرحلة وقد صار السارد رجلاً خمسينياً عليه أن يعود كحيوان مجهري إلى الوطن الرحم الكبير. وهنا، يعيش احتداماً داخلياً، فإما العودة إلى الجنوب حيث الموطن الأول، و«سأقبل لأنني من دون وطن»، وإما يظل تائهاً مثل «لاجئ سياسي ما عاد لاجئاً سياسياً، فقد زال الظلام عن وطني».
ويؤثر الخيار الثاني لأن الرحلة لا بد أن تستمر، قانعاً بوجود «ثعبان أرقط هو مصيرنا منذ ذلك التاريخ الذي حل بوادي الرافدين، ساد حكم الزعيم الأرقط الذي لم يعرف له نسب في تاريخ ما بين النهرين، وهو لا يزال يحكم المنطقة بجوقة من فراخ الثعابين سامة وأفاعٍ مرقطة من نسله الشاذ» (الرواية - ص 289). وهكذا، تنتهي الرواية والسارد يتقيد بالتاريخ غير كاشف لنا عن مخبوءات تخالف ما عرفناه واعتدناه.
والرواية الثانية هي «لبابة السر» للروائي شوقي كريم (2019)، وفيها يوظف الكاتب الإرث الرافديني، متخذاً أيضاً من الرُقم فصولاً للرواية؛ بيد أن كل فصل هو عبارة عن استنساخ لفظي أو بالأحرى إعادة تدوير لألفاظ وأفعال وأسماء مرت علينا في ملاحم وأناشيد وتراتيل رافدينية ضمتها نصوص ترجمها آثاريون غربيون وعراقيون. وفي بعض هذه النصوص فراغات تركها هؤلاء الآثاريون، مؤشرين على مواضع الخرم، وربما حاولوا تأويل أسباب الخرم أو عملوا على ملء بعض فراغاته.
وهو الصنيع نفسه الذي حاكاه الكاتب، متخذاً من نفسه شخصية داخل روايته بالاسم (شوقيا)، محاولاً جعل الرواية مدونة بابلية فيها سبعة عشر رقيماً، هي عدد فصول الرواية. وتبدأ بالرقيم المعنون (هل اهتز عرش مردوك؟)، مستعيداً أساطير الآلهة مردوخ وإنليل وشمش، مجسداً صورة الإله الماجن الذي تنازل عن صولجان ربوبيته للذائذ حتى احترقت بابل، ماراً على شخصيات تاريخية وأسطورية، مثل الملك حمورابي وديموزي وعشتار.
وباحتراق بابل، يعيش الناس حالة فوضى وهم يتساءلون عن بابل المحترقة، ومعهم يتساءل المدون -السارد عن الصبايا وسدنة البغايا والمتسولين، سائراً في كتابة سرده على نهج الملاحم القديمة، مستعملاً الأسماء ذاتها، متخذاً من ألفاظ (نشيد الإنشاد - الأسفار – التراتيل - المسلة) عنوانات جانبية، بلا ابتكار في أسماء أبطاله ولا اكتشاف لأشياء تخالف ما أوصله إلينا التاريخ الرسمي عن بلاد الرافدين، من نبوءات وحكم وتعاليم وأسرار. وفي نهاية الرواية، يحاول المدون وضعنا قبالة السر، بيد أن المفارقة تكون قد ضاعت عليه باللعبة المكشوفة المكررة في تركيب روايته تركيباً يستنسخ بنية الملحمة والتراتيل التوراتية. وكل الذي فعله الكاتب أنه جمع نصوصاً قديمة في كتاب من دون أن يسائل التاريخ الرافديني ولا يضاعف الزمن بزمن الكتابة وزمن الذاكرة.

واقعية محضة
أما نمطية الاتجاه الثاني، فنمثل عليها برواية «شارع الزعيم» للروائي عباس لطيف (2019)، وفيها لا نجد لحظات يتم اقتناصها سردياً من الواقعة التاريخية المتمثلة باليوم الأخير في حياة الزعيم عبد الكريم قاسم التي هي قصة ضمنية تأطرت بالتناوب مع قصة حب تجمع السارد بفتاة أحلامه (أحلام) التي تعشق سيرة الزعيم. وكادت الحوارات والتساؤلات التي دارت بينهما أن تضع اليد على ملابسات اغتيال الزعيم، ومخفيات ما سبقه، من قبيل الإطاحة بالملكية، وصراع العسكر، والمؤامرات الخارجية، لولا توزع السارد بين هاتين القصتين المتنافرتين: الإطارية التي هي غرامية، والضمنية التي هي دموية، ليكون الواقع النصي تاريخاً اجتماعياً أكثر منه محكياً تاريخياً.
ورغم محاولات السارد توظيف ما سماه (ظاهرة الانتقام الثأري التي تتكرر في تاريخ العراق)، وتوكيداته بين الفينة والأخرى أن في المصادر وجهات نظر تروي الواقعة بروايات مختلفة، حتى يبدو أنه لا حقيقة في التاريخ الرسمي، وما حاوله أيضاً في الفصل (20) من بناء مدينة جابر رضا، فإنها ظلت محاولات متدارية ما أثرت على سير الواقعة التاريخية الرئيسة التي يراها السارد ضرورية من باب أن «كل حدث هو درس، والغرض من دراسة التاريخ هو تجنب الوقوع بالأخطاء والنكبات نفسها» (الرواية - ص 76).
وهذا الاعتبار بالتاريخ هو الدريئة التي حالت دون أن يتمكن السارد من كشف مفارقات قد تقلب الواقعة رأساً على عقب، وتجعله يتجه إلى وقائع أخرى هي تبعات لمقتل الزعيم، حتى انتهت الرواية عند دخول القوات الأميركية العراق عام 2003، لتكون واقعية محضة: «أصبح الواقع عبارة عن نكات ثقيلة الدم، فالمدينة فقدت ألفتها وأمانها، وصار الناس مثل مجموعة حكم عليها بالموت، وكل ينتظر دوره» (الرواية - ص 146).
إن هذا الذي به نؤاخذ الرواية العراقية الراهنة إنما يظل في حدود الكيفية التي بها وَظفت التاريخ، خاصة الإسلامي والرافديني، بعد أن صار توجهها نحوه ظاهرة واضحة، خاصة بعد صدور رواية «أزمنة الدم» للروائي جهاد مجيد (2016) التي كانت سبباً مهماً في فتح الباب على مصراعيه أمام الساردين العراقيين للإفادة من متاحات هذا التاريخ في تمثيل الواقع.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.