«نوافذ تشكيلية»... فن ليبي يصهر الواقع الراهن مع التراث

TT

«نوافذ تشكيلية»... فن ليبي يصهر الواقع الراهن مع التراث

يمكن للزائرين وهم يتجولون في دار الفنون بالعاصمة طرابلس، رصد الحالة الليبية بكل تفاصيلها المُعقد منها والمُبهج، الذي يولد للتو من بين شعيرات فرشاة الفنانين وأزاميل النحاتين، أو الذي يُطل عليك من عمق التاريخ وسخونة الصحراء البعيدة.
ففي المعرض التأسيسي لـ«الجمعية الليبية للفنون التشكيلية» الذي احتضنته «دار الفنون» على مدار أسبوعين وانتهى منتصف الأسبوع الماضي، تجمع عشرات الفنانين التشكيليين والنحاتين بمختلف مدارسهم للمشاركة بأعمالهم في «نوافذ تشكيلية»، الذي انصهرت فيه جميع المواهب من أعمار عدة، وجاءت لوحاتهم ومنحوتاتهم إما تعبيراً عن واقع راهن خارج لتوه من حرب ضروس، أو تذكّراً للتراث القديم بروح تجريدة تحلق في فضاءات الأرواح والأمكنة الرحبة.
وحكى الفنان التشكيلي الليبي رمضان أبوراس في حديثه إلى «الشرق الأوسط» عن تجارب الأولين، وقال إن المشهد التشكيلي في البلاد شهد عبر مسيرته الطويلة تنوعاً كبيراً وتعدداً في الأساليب والرؤى عبر عنها عشرات الفنانين خلال معارضهم الفردية والجماعية، ومن خلال ممارستهم لتجاربهم وتعدد مدارسهم وأساليبهم التي تجمع بين الواقعية السحرية والكلاسيكية وبين التجريد والحروفية».
وذهب الفنان أبو راس إلى أن بعض الفنانين الليبيين اشتغل على المزاوجة بين مختلف هذه التيارات، ولعل مشهد (نوافذ تشكيلية) الذي احتشد فيه كوكبة من المبدعين عبر عن ذلك، مدللاً ببعض الأعمال التي شاركت في المعرض، من بينها أعمال الفنان صلاح غيث، ويظهر فيها مدى حرصه على إظهار ضربات فرشاته واضحة وجلية، ويحيلنا أسلوبه إلى الانطباعية بروح تأثيرية جميلة، كما استطاع الفنان جمال دعوب، التعبير بواقعية عن جمال السيدة الليبية بزيها الوطني الجميل وعبق بخورها الباذخ.
جانب من الأعمال المشاركة للمبدعين الذين اقترب عددهم من 50 فناناً عبّرت أيضاً عن الواقع الراهن كما يوضح رمضان أبوراس، مثل لوحة «هردميسة»، كما لم تغب المشاهد الطبيعية والصحراوية والأزياء التقليدية عند أحمد برجة، وعبد الناصر أبو عجيلة، وخالد رمضان بينما كانت طرابلس القديمة حاضرة بروح تجريدية عن الفنانَين عبد الجواد المغربي، وبشير السنوسي.
وكان للتراث الأمازيغي حضور خاص بالمعرض من خلال أعمال الفنان يوسف السيفاو، الذي استحضر في لوحاته جميع جماليات هذه المنطقة شديدة الخصوصية في ليبيا، وتوظيفها بروح حديثة ومعاصرة، فضلاً عن أعمال نقلت أوجاع ومعاناة المرأة الليبية تجسدت في أعمال الفنانتين عفراء الأشهب وريم المتير.
وعقد معرض «نوافذ تشكيلية» بمناسبة إشهار الجمعية الليبية للفنون التشكيلية، وتخليداً لروح الفنان مرعي التليسي، رئيس الجمعية وأحد مؤسسيها، والذي كانت أعماله متصدره المعرض.
والتليسي، الذي بدأ مشواره في بداية ثمانينات القرن الماضي، ورحل في نهاية مايو (أيار) العام الماضي، وُلد في مدينة بنغازي (شرق البلاد) عام 1957، وعكست أعماله إلى حد بعيد طبيعة بلاده بمفرداتها ونمنماتها، وسط حرصه على إظهار روح الشخصية الليبية كأحد روافد فنه، بجميع تفاصيلها.
وفيما يشبه تأبيناً لروح الفنان التليسي قدم الناقد يونس الفنادي، قراءة في غالبية أعماله المشاركة بالمعرض، وقال إن في لوحته التشكيلية الجميلة المعنونة «صرخة» التي شَهِدتُ مرحلة إنجازها النهائي داخل مرسمه بالمدينة القديمة، يقف في وسطها الطائر الذي رسمه الفنان الغائب الحاضر مرعي التليسي ليهتف فينا متسائلاً «من نحن؟».
وسرعان ما تتلقف فضاءات وصفحات التاريخ ذاك النداء الاستفهامي المدوي، المستحِث والمستفز في آن، بينما صديقنا العزيز مرعي، يستلقي مبتسماً كعادته بمرقده في عنوان سكنه الأبدي، ليسمع إجابات التاريخ.
ويضيف التاريخ متعجلاً هذه المرة، ولكن مؤكداً، والحديث هنا للفنادي، أننا «أنشأنا منذ أكثر من مائة وعشرين سنة في ليبيا وبمدينة طرابلس تحديداً سنة 1897 أول مدرسة متخصصة للفنون بالوطن العربي كافة، وهي مدرسة الفنون والصنائع التي كانت مركزاً ومعرضاً يومياً للنقش على الأواني النحاسية، والرسم والزخرفة، والتطريز والكتابة على الخشب والجلود وغيرها».
ثم يدنو التاريخ ويقترب من زمننا الراهن قليلاً، ليفتح صفحات كتاب حديث، تُسجل بحروف ثابتة أن سنة 1953 شهدت تنظيم أول معرض للفنون التشكيلية ببلادنا، وقبله سنة 1951 تأسست جمعية للفنون في مدينة بنغازي، وفي سنة 1960 تأسس نادي الرسامين بمدينة طرابلس، وها هو معرض «نوافذ تشكيلية» يحتفي اليوم بإتمام إشهار الجمعية الليبية للفنون التشكيلية، فوجب زفّ التهاني والتبريكات لجميع التشكيليين في ليبيا بهذا المنجز الفني.
ويقول الفنادي، إن الفن التشكيلي «ظل جزءاً من ثقافتي المرئية البصرية التي علّمتني زاوية النظر، والتأمل في اللوحة التشكيلية، والغوص في ثنايا ألوانها وخطوطها؛ بحثاً عن دلالات ومعاني تلك البانوراما التي تتشكل بها عناصر ومكونات إبداعية عديدة. أما الصورة الفوتوغرافية، فقد كانت بالنسبة لي أكثر سهولة في التوغل والاستيعاب، باعتبار أنها ناقلة ومجسدة لماديات محسوسة وكائنات موجودة، بينما لوحة الرسم التشكيلي سواء السريالي والحروفي وحتى التجريدي بها نفحة من خيال، ودفقة روحانية عميقة، تحرك الوجدان والعقل لحظة الوقوف أمامها والتجلي في محرابها».



من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
TT

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

في الدورة الرابعة من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، تنافست أعمال استثنائية نقلت قصصاً إنسانية مؤثّرة عن واقع المرأة في إيران وأفغانستان. وسط أجواء الاحتفاء بالفنّ السينمائي بوصفه وسيلةً للتعبير والتغيير، قدَّم فيلما «السادسة صباحاً» للإيراني مهران مديري، و«أغنية سيما» للأفغانية رؤيا سادات، شهادتين بارزتين على تحدّيات النساء في بيئاتهن الاجتماعية والسياسية.

«السادسة صباحاً»... دراما الصراع مع السلطة

يروي الفيلم قصة «سارة»، الشابة الإيرانية التي تتأهّب لمغادرة طهران لإكمال دراستها في كندا. تتحوّل ليلة وداعها مواجهةً مفاجئةً مع «شرطة الأخلاق»؛ إذ يقتحم أفرادها حفلاً صغيراً في منزل صديقتها. يكشف العمل، بأسلوب مشوّق، الضغط الذي تعيشه النساء الإيرانيات في ظلّ نظام تحكمه الرقابة الصارمة على الحرّيات الفردية، ويبرز الخوف الذي يطاردهن حتى في أكثر اللحظات بساطة.

الفيلم، الذي أخرجه مهران مديري، المعروف بسخريته اللاذعة، يجمع بين التوتّر النفسي والإسقاطات الاجتماعية. وتُشارك في بطولته سميرة حسنبور ومهران مديري نفسه الذي يظهر بدور مفاوض شرطة يضيف أبعاداً مرعبة ومعقَّدة إلى المشهد، فيقدّم دراما تشويقية.

لقطة من فيلم «أغنية سيما» المُقدَّر (غيتي)

«أغنية سيما»... شهادة على شجاعة الأفغانيات

أما فيلم «أغنية سيما»، فهو رحلة ملحمية في زمن مضطرب من تاريخ أفغانستان. تدور الأحداث في سبعينات القرن الماضي، حين واجهت البلاد صراعات سياسية وآيديولوجية بين الشيوعيين والإسلاميين. يتبع العمل حياة «ثريا»، الشابة الشيوعية التي تناضل من أجل حقوق المرأة، وصديقتها «سيما»، الموسيقية الحالمة التي تبتعد عن السياسة.

الفيلم، الذي أخرجته رؤيا سادات، يستعرض العلاقة المعقَّدة بين الصديقتين في ظلّ انقسام آيديولوجي حاد، ويُظهر كيف حاولت النساء الأفغانيات الحفاظ على شجاعتهن وكرامتهن وسط دوامة الحرب والاضطهاد. بأداء باهر من موزداح جمال زاده ونيلوفر كوخاني، تتراءى تعقيدات الهوية الأنثوية في مواجهة المتغيّرات الاجتماعية والسياسية.

من خلال هذين الفيلمين، يقدّم مهرجان «البحر الأحمر» فرصة فريدة لفهم قضايا المرأة في المجتمعات المحافظة والمضطربة سياسياً. فـ«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة، مع الإضاءة على دور الفنّ الحاسم في رفع الصوت ضدّ الظلم.

في هذا السياق، يقول الناقد السينمائي الدكتور محمد البشير لـ«الشرق الأوسط»، إنّ فيلم «السادسة صباحاً» ينساب ضمن وحدة زمانية ومكانية لنقد التسلُّط الديني لا السلطة الدينية، واقتحام النيات والمنازل، وممارسة النفوذ بمحاكمة الناس، وما تُسبّبه تلك الممارسات من ضياع مستقبل الشباب، مثل «سارة»، أو تعريض أخيها للانتحار. فهذه المآلات القاسية، مرَّرها المخرج بذكاء، وبأداء رائع من البطلة سميرة حسنبور، علماً بأنّ معظم الأحداث تدور في مكان واحد، وإنما تواليها يُشعر المُشاهد بأنه في فضاء رحب يحاكي اتّساع الكون، واستنساخ المكان وإسقاطه على آخر يمكن أن يعاني أبناؤه التسلّط الذي تعيشه البطلة ومَن يشاركها ظروفها.

على الصعيد الفنّي، يقول البشير: «أجاد المخرج بتأثيث المكان، واختيار لوحات لها رمزيتها، مثل لوحة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للهولندي يوهانس فيرمير، ورسومات مايكل أنجلو على سقف كنيسة سيستينا في الفاتيكان، وغيرها من الرموز والاختيارات المونتاجية، التي تبطئ اللقطات في زمن عابر، أو زمن محدود، واللقطات الواسعة والضيقة».

يأتي ذلك تأكيداً على انفتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، ومراهنته على مكانته المرتقبة في قائمة المهرجانات العالمية، وترحيبه دائماً بكل القضايا المشروعة.

ونَيل «أغنية سيما» و«السادسة صباحاً» وغيرهما من أفلام هذه الدورة، التقدير، وتتويج «الذراري الحمر» للتونسي لطفي عاشور بجائزة «اليُسر الذهبية»، لتقديمه حادثة واقعية عن تصفية خلايا إرهابية شخصاً بريئاً... كلها دليل على أهمية صوت السينما التي أصبحت أهم وسيلة عصرية لمناصرة القضايا العادلة متى قدّمها مُنصفون.

وأظهر المهرجان الذي حمل شعار «للسينما بيت جديد» التزامه بدعم الأفلام التي تحمل قضايا إنسانية عميقة، مما يعزّز مكانته بوصفه منصةً حيويةً للأصوات المبدعة والمهمَّشة من مختلف أنحاء العالم.