نادراً ما يقفز مُنتج جاد في النظرية السياسية إلى قوائم أكثر الكتب مبيعاً في السوق الأميركية، لا سيما إذا كان يتحدث عن قضايا مروعة، كالعنصرية والعنف والسلطة، لكن «الطائفة: الأكاذيب التي تفرق بيننا»، لإيزابيل ويلكرسون، الصادر حديثاً عن «راندوم هاوس»، دفن تلك القاعدة، وما زال منذ طرحه قبل أسابيع عدة موضع طلب متزايد من متاجر الكتب، ومثاراً لجدل واسع.
ويلكرسون كانت بدأت رحلة بحث وتنقيب في أحوال الأميركيين السود، جاء أول ثمارها «دفء شمس أخرى: القصة الملحمية للهجرة الأميركية الكبرى» الذي يتتبع هجرة سود الجنوب الفقراء إلى مدن الشمال والغرب بحثاً عن وهم العدالة، ومُنحت لأجله جائزة «بوليتزر» للكتابة الصحافية، لتكون بذلك أول أميركية من أصل أفريقي تحوز هذا التكريم المرموق. والواقع أن جديدها هذا، إلى جانب تشريحه المعمق الثاقب لجذور حالة السخط التي يعيشها الأميركيون من أصل أفريقي، هو على صعيد النص الأدبي بهجة تامة، ويأتي في وقت بدا أن أزمة العنصرية المتوارثة بالولايات المتحدة منذ ما قبل التأسيس تقترب من لحظة الانفجار الحتمي.
الطائفة والعنصرية
فرضية المؤلفة المركزية في «الطائفة: الأكاذيب التي تفرق بيننا» تقوم على موقف صريح صادم: «العنصرية»، وفق المفهوم الغربي التبسيطي، مصطلح غير كافٍ للتعبير عن ماهية القمع الممنهج للسود في أميركا، وعلى مستوى ما لا يخدم قضيتهم، إذ إن «ما يسميه بعضهم عنصرية ليس إلا مجرد مظهر واحد من مظاهر النظام الاجتماعي الأكبر في أميركا». وهي تقترح توسيع نافذة الرؤية والرصد إلى مستوى الطائفة (Caste) التي رغم وجودها في عدة مجتمعات حول العالم، فإنها تتحقق بأكثر صورها عنفاً وقسوة بالمعاملة التي يتلقاها السود الأميركيون، ويتم حبسها في أدنى مستوى داخل المجتمع، من خلال سياسات القمع والتهميش والعنف الزائد مذ وصلت أول سفن تجار العبيد إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة حتى اليوم، وكلها تستدام بشكل منهجي مؤسس من خلال القانون والنظام.
وتنقل عن عالمي الأنثروبولوجيا أودري وبريان سميدلي تأكيدهما أن «الإنجليز طوروا في مستعمرتهم الأميركية الشمالية النموذج الأكثر تصلباً وعنفاً من آيديولوجيا الاضطهاد العرقي في التاريخ». ووفقاً لويلكرسون، فإن «نظام الطوائف الاجتماعية يحدد من الأشخاص الذين يمنحهم الاحترام والمكانة والشرف والاهتمام والامتيازات والموارد، والاستفادة من التسامح القانوني الإنساني، وذلك على أساس رتبته في التسلسل الهرمي للطوائف».
وكتبت أن العنصرية والطائفة بهذا المعنى تتداخلان وتتكاملان، مشيرة إلى أن المفاهيم «يمكن أن تتعايش في الثقافة ذاتها، وتعمل على تعزيز بعضها بعضاً. فالعرق في الولايات المتحدة هو الجزء المرئي من القوة المخفية للطائفة. والطائفة هي الهيكل العظمي الذي يستند إليه النظام، والعرق هو بشرته الخارجية». والحقيقة أن ويلكرسون تدفع المفهومين معاً بشكل مقنع في أثناء وصفها لجروح عميقة فشلت أميركا في وقف نزفها، فيما تجنبت التشبيك مع مفهوم «الطبقة» الاجتماعية، كما في التحليل الكلاسيكي الماركسي، حيث لم تشر إليه إلا لماماً.
الأنظمة الطائفية الثلاثة
تستند مرافعة المؤلفة إلى الموازنة بين ما ذهبت إلى تسميته الأنظمة الطائفية الثلاثة الصارخة في التاريخ: النظام الهندي، والنظام النازي، وبالطبع النظام الأميركي؛ والأخير كان الشكل الأكثر اكتمالاً في نظر المفكرين النازيين، ومصدر إلهامهم لإنشاء نظامهم العنصري الخاص. وهي تدعم موازنتها من خلال خلاصة بحث تاريخي مفصل، كشفت عن أدلة موثقة أظهرت أن العنف تجاه السود الذي يتضمنه نظام الطوائف الأميركي كان أكثر من اللازم، حتى بالنسبة إلى المقاييس النازية التي رفض بعض منظريها، مثل هيربت كير هانز ف. ك. غونتر «الأعمال المروعة التي ترتكب تجاه السود في ظل النظام الأميركي»، ووصف بعضهم قانون الولايات المتحدة بـ«الشائن» و«المُسرف المُتجاوز للحد»، وحتى هتلر نفسه سجل إعجابه بـ«موهبة أميركية فريدة في الاحتفاظ بمزاج من البراءة الوقحة في أعقاب حفلات الموت الجماعي».
وتوازي ويلكرسون بين وضع السود الأميركيين الذين تسميهم «المنبوذين» الأميركيين ووضع هنود الداليت «المنبوذين»، بصفتهم أدنى الفئات في النظام الهندي المقيت، بينما يهمين ذو البشرة البيضاء في أميركا على نسق هيمنة البراهما الهندية. وعندها، يعتمد النظام الطائفي على تجريد الآخر من إنسانيته، وهو أكثر ما يفسر استخدام اليهود (في ألمانيا) والسود (في أميركا) موضوعاً لتجارب مروعة من قبل الأنظمة الطائفية المهيمنة في البلدين، إذ تقول: «لقد أجرى أطباء الجيش الألماني أكثر من عشرين نوعاً من التجارب على اليهود، وغيرهم من المحتجزين، واستخدم الأطباء الأميركيون الأفارقة -رجالاً ونساءً وأطفالاً- بصفتهم سلسلة إمداد للتجارب، محرومين من حق الموافقة أو حتى الحصول على التخدير».
وتذكر مثلاً العنف الممنهج الذي قام به الدكتور ج. ماريون سيمز (يشاد به بصفته مؤسساً لعلم أمراض النساء الأميركية) على أجساد النساء السود: «لقد حقق الدكتور سيمز كل إنجازاته الطبية من خلال الحصول على نساء مستعبدات من ولاية ألاباما، وإجراء العمليات الجراحية الوحشية الاستكشافية عليهن التي انتهت في كثير من الأحيان إلى تشوهات دائمة أو الموت. وقد رفض دائماً استخدام التخدير، معتبراً أن الجراحات المهبلية التي كان يجريها لم تكن مؤلمة بما يكفي لتبرير التكلفة. وكثيراً ما كان يدعو كبار أعيان المدينة والطلاب المتدربين للمشاهدة».
تنقل ويلكرسون كثيراً من هذي الشواهد على الصيغة المغرقة بالعنف المنفعل المتعسف التي عومل بها الأميركيون السود عبر المراحل التاريخية، حتى من قبل قيام الولايات المتحدة كما نعرفها الآن، مُعتلية صوتها الأدبي الفريد الذي يجمع بين الصورة الشعرية والتوصيف التفصيلي على نحو يسمح ببناء علاقة شخصية مع حياة أولئك الذين كانوا ضحايا الوحشية القاسية للسجل التاريخي، وتبني من آلامهم نصباً تذكارياً شاهقاً لأولئك الذين انتهكهم عنف الطائفة.
وبحسب المؤلفة، فإن استمرار وجود «المنبوذين» ضرورة أساسية لديمومة النظام الطائفي، ولذا يقاوم حتى فقراء الطائفة المهيمنة أي تغيير حقيقي، ويستمرون في انتخاب النخب الفاسدة ذاتها، ليقينهم بأنهم ليسوا الطائفة المستضعفة، في مقابل السود. وتلحظُ «المأساة الكبرى بين البشر بأن كثيراً ممن تم تعيينهم، أو يُنظر إليهم على أنهم مؤهلون لتولي مناصب كبرى مؤثرة: رؤساء تنفيذيين، أو مدربين، أو مخرجين سينمائيين، أو عمداء كليات، أو حتى رؤساء بلدان، لم يتم ذلك بالضرورة على أساس موهبة القيادة الفطرية أو المكتسبة لديهم، بل هو نتاج جانبي لحتمية تاريخية، كونهم ولدوا للطبقات المهيمنة أو العرق المهيمن أو الأسرة (المناسبة) داخل المنظومة». ولا شك أن هؤلاء لن يسمحوا بدورهم بأي تغيير جوهري في النظام الذي منحهم امتيازاتهم، وسيمنحها تالياً لنسلهم.
وتُنهي «الطائفة: الأكاذيب التي تفرق بيننا» بشيء من الأمل، عبر تقديم ألمانيا مثالاً لإمكان تفكيك نظام طائفي بنجاح، ولكنها تهمل الإخبار بأن إنهاء تلك الحالة تم حصراً بعد حرب عالمية مدمرة كلفت عشرات الملايين من الأرواح، وتناست كيف تقدم الهند المعاصرة مثالاً نقيضاً عن استحالة تفكيك نظام الطوائف الاجتماعية، ما دام المستفيدون من النظام يتولون مناصب المسؤولية والتأثير، ويعيدون اجترار التركيبة تماماً كما تركها المحتل البريطاني عند رحيله، دون تعديل يذكر. إنها معركة طويلة شاقة.
وجود «المنبوذين» ضرورة لديمومة النظام الطائفي
كتاب «الطائفة ـ الأكاذيب التي تفرقنا» ما زال موضع طلب متزايد ومثاراً لجدل واسع منذ طرحه في الأسواق قبل أسابيع
وجود «المنبوذين» ضرورة لديمومة النظام الطائفي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة