«داعش»... تكاد هذه الكلمة تنطوي على قدرات سحرية. ذاك أن مجرد قولها كفيل بتفسير ظواهر معقدة وتبرير ممارسات كارثية والتخلص من أعباء فشل السلطات في علاج مآسٍ بادية للعيان.
هذا ما يجري في لبنان. عودة التنظيم إلى الحياة في العراق مع تفجيري ساحة الطيران في بغداد وإعلان السلطات هناك أنها تمكنت من قتل نائب الخليفة في العاصمة، أبو ياسر العيساوي. واستئناف «دولة الخلافة» هجماتها في بادية دير الزور السورية، أمور تغري كثيرين بتعليق حوادث عديدة على شماعة عودة «داعش» إلى الحياة بعد ثلاث سنوات من إعلان القضاء عليه، وتدمير عاصمته الرقة ومدينة الموصل العراقية في سياق الحرب على الإرهاب الداعشي.
المرة الأولى التي استُحضر فيها اسم التنظيم لبنانياً، بعد عملية «فجر الجرود» سنة 2017، وأُحيطت بدعاية واسعة، وأسفرت حسب الإعلام الرسمي عن القضاء على التنظيم «عسكرياً وليس أمنياً»، كانت مع جريمة بلدة كفتون في قضاء الكورة الشمالي في أغسطس (آب) الماضي حيث سقط ثلاثة من حرس بلدية القرية صرعى برصاص مجهولين طاردتهم الأجهزة الأمنية واعتقلت وقتلت بعضهم. وعلى غرار البلدان التي تفتقر إلى إعلام مستقل، اختفت هذه القضية من التداول العام من دون أن يُحسم الجدال حول هوية المرتكبين ودوافعهم. وقبل أيام أعلنت الأجهزة ذاتها عن توقيف 18 لبنانياً وسورياً في بلدة عرسال البقاعية التي كانت مسرحاً لمواجهات عنيفة في الأعوام الماضية بين «داعش» و«جبهة النصرة» من جهة وبين الجيش اللبناني من جهة أخرى. الموقوفون اتُّهموا بالانتماء إلى التنظيم وبمتابعة منشوراته وحيازة أسلحة حربية.
بيد أن العودة المسرحية لـ«داعش» إلى الساحة اللبنانية كانت بُعيد المظاهرات والاضطرابات التي شهدتها مدينة طرابلس عاصمة الشمال اللبناني وأفقر مدنه. فمدير الأمن العام عباس إبراهيم، لم يستبعد دخول التنظيم الإرهابي إلى الساحة اللبنانية من بوابة المدينة البائسة، مشيراً في مقابلة تلفزيونية إلى أنه يعمل على منع العودة.
عاد «داعش» إلى العراق وسوريا لأسباب عدة منها ما يرتبط بالمناخ الإقليمي العام ومنها ما يتعلق بالعملية السياسية في البلدين أو بالأحرى بجمودها وعدم إحرازها أي تقدم. والتنظيم، على ما عُرف عنه خلال تاريخه الأسود والقصير، لا يتورع عن أداء دور الجسر لكل من يرغب في العبور إلى هدف ما: خدمات لإيران التي تستعد لاستئناف المفاوضات مع واشنطن وإظهار إيران كقوة ضبط في منطقة متفلتة من كل عقال، في مكان. رسائل ضد إيران في مكان آخر. تعبير عن الضائقة السُّنية من تسلط الميليشيات الشيعية في العراق. ضغط على «قوات سوريا الديمقراطية» في شمال شرقي سوريا... كلها أسباب قد تصح وقد لا تصح لتفسير استحضار التنظيم الدموي في هذه المرحلة.
فلماذا، والحال على ما تقدم، لا يُستدعى «داعش» إلى الساحة اللبنانية فيُسدي خدماته المعروفة لكل من يطلبها؟ الوجود المادي -إذا جاز القول- للتنظيم في لبنان، مسألة غير قابلة للحسم بالسلب أو الإيجاب في ظل تعدد الجهات المستفيدة من التلويح بخطره والاعتماد في ذلك على السوابق العراقية والسورية.
يضاف إلى ذلك صعوبة المقارنة بين السياق الذي ظهر فيه «داعش» للمرة الأولى في لبنان على خلفية الحرب في سوريا، وبين السياق الحالي من انهيار الدولة اللبنانية وتفشي الفقر والبطالة وتحول الطائفة السُّنية التي يقول التنظيم إنه يريد إقامة الخلافة باسمها، إلى الطائفة الأضعف والأفقر والأكثر عُرضة للتنمر ضمن «سيرك» السياسة اللبنانية.
لذلك، يبدو مفيداً لأطراف ضمن ما تبقى من مؤسسات الدولة اللبنانية وخارجها، رفع هذه الفزاعة بغضّ النظر عن حقيقة الخطر أو انتمائه إلى عالم الأوهام والأساطير. وبدلاً من الاهتمام بما جرى في طرابلس في الأسبوع الماضي من وجهة نظر سياسية وتنموية، وهو ما يتطلب إدارة جدية ودولة تستحق هذا الاسم، يشرع إعلام السلطة في الترويج لمقولات غير قابلة للتأكيد أو النفي المستندَين إلى تحقيق مستقل ومهني، اللهمّ غير الإحالة إلى مصادر «موثوقة» ومسؤولين رفيعي المستوى.
أما على المستوى السياسي فليس كشفاً كبيراً القول إن «داعش» وأطيافه سيرافقون اللبنانيين ما رافقتهم أزمات الدولة والمجتمع. فالعلاج المكلف لا بد أن يكون بديله رخيصاً، وليس أرخص من بيع الأوهام والتلويح بالعفاريت والشياطين و«الدواعش» عوضاً عن الاهتمام بما أوصل لبنان إلى نكبته المقيمة.
«داعش»... العلاج المجاني لمشكلات مُكلفة
«داعش»... العلاج المجاني لمشكلات مُكلفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة