لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة

يلقب بالجنرال «غير المرئي» ولا يحب التحدث مع الإعلام في الشؤون العسكرية

لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة
TT

لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة

لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة

دخل الجنرال المتقاعد لويد أوستن، يوم 22 يناير (كانون الثاني) الحالي، التاريخ كأول وزير دفاع للولايات المتحدة الأميركية من أصول أفريقية. واعتبر تعيين أوستن في هذا المنصب إنجازاً جديداً في الجهود التي تبذلها المؤسسة السياسية الأميركية لنزع صفة التفرقة العنصرية، ليس فقط في الدوائر السياسية، بل والعسكرية، وترجمتها في أكبر وأقوى جيش في العالم. وأيضاً، جاء تعيين أوستن تنفيذاً لوعد انتخابي قطعه الرئيس الأميركي الديمقراطي الجديد جو بايدن، بأن يقدّم إدارة هي الأكثر تنوعاً عرقياً وجنسياً في تاريخ الإدارات الأميركية.
بايدن كان يعلم أن اختياره لأوستن سيحظى بموافقة مجلس الشيوخ، على الرغم من التحفظ الذي يثيره عادة قرار تعيين عسكري لم يمضِ على خروجه من الخدمة 7 سنوات في منصب مدني، خصوصاً على رأس المؤسسة العسكرية. وقال بايدن خلال الإعلان عن ترشيح وزيره الجديد «لقد رأيته يقود القوات الأميركية المقاتلة في ميدان المعركة. شاهدته أيضاً ينفذ بأمانة أوامر القيادة المدنية لهذه الأمة... أعرف هذا الرجل. أعرف احترامه لدستورنا. أعرف احترامه لنظام حكمنا».

نص الدستور الأميركي واضح لجهة تشديده على الحفاظ على سيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية؛ بهدف ضمان إشراف السياسيين على قرارات تلك المؤسسة ومنع تقويض الديمقراطية. لكن استثناءات عدة شهدها هذا المنصب، وسمح بها الدستور نفسه عندما أجاز لمجلسي الشيوخ والنواب منح بعض العسكريين السماح بتخطي هذه العقبة في تصويت خاص قبل الموافقة على تعيينه وزيراً للدفاع.
وبالفعل، شغل العديد من العسكريين السابقين هذا المنصب، إلّا أن اثنين فقط قبل الوزير الجديد الجنرال لويد أوستن، هما الجنرال جورج مارشال والجنرال جيم ماتيس كانا من كبار الضباط المحترفين في الجيش الأميركي. وحصل أوستن في التصويت الخاص بالاستثناء من شرط مرور 7 سنوات على ترك الخدمة الفعلية لتعيينه على 69 صوتاً مقابل اعتراض 27 في مجلس الشيوخ، وعلى 326 مقابل 78 صوتاً في مجلس النواب، بينهم نواب ديمقراطيون على رأسهم سيث مولتون الذي حارب في العراق. ومن ثم، جرى تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ بغالبية 92 صوتاً ضد صوتين فقط. وبعد التعيين غرّد الوزير الجديد «إنه لشرف وامتياز أن أكون وزير الدفاع 28 لبلدنا، وأنا فخور بشكل خاص لكوني أول أميركي من أصل أفريقي يتولى هذا المنصب. لنبدأ العمل».

- سجلٌ عسكري حافل
تقاعد لويد أوستن من الجيش عام 2016 بعد 41 سنة أمضاها في الخدمة. وهو يتمتع بسجل طويل في المهمات العسكرية، وتربطه علاقة طويلة الأمد بالرئيس جو بايدن حين كان الأخير نائباً للرئيس السابق باراك أوباما. ولقد خدم أوستن قائداً للقوات الأميركية وقوات «التحالف» في العراق إبّان فترة ولاية أوباما الرئاسية الأولى، ثم صار عام 2012 أول أسود يشغل منصب نائب رئيس أركان الجيش، وهو ثاني أعلى مناصب الخدمة العسكرية. وبعد ذلك بسنة غدا أول قائد أسود لـ«القيادة الأميركية الوسطى» (السينتكوم) عندما حلّ محل الجنرال جيم ماتيس الذي تقاعد عام 2013. وبقي أوستن في منصبه هذا حتى 2016، حين أشرف على وضع استراتيجية عسكرية لقتال مسلحي تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وتولى تنفيذها. هذا، ووُصف نهجه كقائد للقيادة الأميركية الوسطى بأنه نهج «جنرال غير مرئي»، بسبب إحجامه عن التحدث علناً في الأمور العسكرية. وهو الأمر الذي قد يستمر معه في الفترة المقبلة وزيراً للدفاع، في مرحلة سياسية يطبعها الغموض والترقب في العديد من الملفات الحساسة، من إيران إلى أفغانستان، وكوريا الشمالية، وروسيا، والصين.

- «حرب العراق»
شارك لويد أوستن في «حرب العراق» من البداية إلى النهاية. فقد شغل منصب مساعد قائد فرقة المشاة الثالثة أثناء غزو العراق في مارس (آذار) 2003 وأشرف على الانسحاب عام 2011. وعندما تقاعد عام 2016، أشاد أوباما بـ«شخصيته وكفاءته»، فضلاً عن حكمته وقيادته. ولكن على الرغم من إشادة بايدن بقدرة أوستن العسكرية، فإنه تعرض للانتقاد من زميل عسكري مثله، هو السيناتور الراحل جون ماكين، إبّان جلسة استماع شهيرة وسيئة لأوستن في الكونغرس عام 2015 خصصت لمناقشة توصيته بشأن كيفية التعامل مع الحرب ضد «داعش» في سوريا. ويومذاك قال ماكين في الجلسة «بشكل عام، ما تقوله لنا يتناسب مع الأحوال العادية حين يكون كل شيء على ما يرام، غير أن ما نراه هو أن مئات الآلاف من اللاجئين يغادرون ويغمرون أوروبا، كما قُتل 250 ألف سوري». وجاء ذلك رداً على قول أوستن، كقائد للقيادة الأميركية الوسطى: إنه لن يفعّل التوصية بإنشاء «منطقة عازلة» للسماح للاجئين السوريين بالهرب إليها؛ لأن ذلك يتطلب وجود قوات أميركية. وأضاف ماكين لأوستن الذي بدا عليه الإحراج «لم أرَ قط في جلسة استماع من رأي خبير خارجي انفصالاً عن الواقع كما أرى منك الآن».
عام 1975 تخرّج أوستن في الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت (بولاية نيويورك) وحصل على بكالوريوس العلوم بدرجة ملازم ثان، ليختم مهمته الأولى في فرقة المشاة الثالثة الآلية في ألمانيا. وبعد ذلك حصل على دورة تدريبية متقدمة لضباط المشاة، وعيّن بعدها في الفرقة 82 المجوقلة (المُقلّة جواً) في قاعدة فورت براغ بولاية نورث كارولينا، حيث تولى قيادة سريّة الدعم القتالي، الكتيبة الثانية مشاة المجوقلة، وعمل مساعد عمليات للواء الأول الفرقة 82 المجوقلة.
وعام 1981، عيّن أوستن في مدينة إنديانابوليس، عاصمة ولاية إنديانا، بمنصب ضابط العمليات لقيادة التجنيد في المنطقة، ثم تولى قيادة كتيبة التجنيد بالجيش. والتحق بعد ذلك، بجامعة أوبورن (في ولاية آلاباما)، حيث أكمل دراساته للحصول على درجة الماجستير في التربية. ومن ثم جرى تعيينه في ويست بوينت، حيث عمل كضابط تكتيكي.
بعد اختياره وإكماله علومه في كلية قيادة الجيش والأركان العامة في فورت ليفنوورث بولاية كانساس، عيّن أوستن في الفرقة الجبلية العاشرة مشاة خفيفة في فورت دروم بنيويورك، حيث شغل منصب قائد العمليات، وبعد ذلك ضابط تنفيذي للكتيبة الثانية مشاة ومدير خطط التدريب والتعبئة والأمن فيها.
في عام 1993، عاد أوستن إلى الفرقة 82 المجوقلة في فورت براغ بولاية نورث كارولينا، حيث قاد الكتيبة الثانية المجوقلة، ويتولى لاحقاً قيادة اللواء الثالث في الفرقة. وبعد فترة وجيزة من قيادة اللواء، جرى تعيينه في مبنى البنتاغون بمدينة أرلينغتون (ضواحي العاصمة واشنطن) بولاية فيرجينيا، حيث شغل منصب رئيس قسم العمليات المشتركة، في هيئة الأركان المشتركة. وبعدها كانت مهمته التالية هي مساعد قائد الفرقة للمناورة فرقة المشاة الثالثة ميكانيكية في قاعدة فورت ستيوارت بولاية جورجيا. ومن منصبه هذا ساهم في قيادة مهام الفرقة في غزو العراق في مارس 2003، وحصل على «النجمة الفضية» عن هذه المهمة.

- مع «القيادة الوسطى»
خدم لويد أوستن من سبتمبر (أيلول) 2003 حتى أغسطس (آب) 2005 قائداً عاماً للفرقة الجبلية العاشرة، وقائداً لقوة المهام المشتركة 180 أثناء الحرب في أفغانستان. وكان منصبه التالي هو رئيس أركان «القيادة الوسطى (السينتوم) للولايات المتحدة» في تامبا بولاية فلوريدا، من سبتمبر 2005 حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2006. في نهاية ذلك العام رقّي أوستن إلى رتبة جنرال، وتولى قيادة الفيلق الثامن عشر المجوقل في فورت براغ بولاية نورث كارولينا. ثم في بداية 2008، أصبح أوستن ثاني أعلى القادة في العراق رتبة، حين تولى قيادة الفيلق المتعدّد الجنسيات. وكقائد للقوات المتعددة الجنسيات في العراق، أشرف وأدار عمليات ما يقرب من 152 ألف جندي من القوات المشتركة وقوات «التحالف» في جميع أنحاء العراق.
عام 2009 سلم أوستن قيادة الفيلق الثامن عشر ليصبح مدير هيئة الأركان المشتركة. وجاءت هذه الترقية بتوجيه من الأدميرال مايكل مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة في ذلك الوقت، الذي طُلب منه زيادة التنوع في هيئة الأركان المشتركة. وأقرّ أوستن أن ترقيته هذه دفعت مسيرته المهنية قائلاً «بعد هذه الترقية بدأ الأشخاص في التعرف على لويد أوستن».

- الحرب ضد «داعش»
عندما تولى أوستن قيادة القوات الأميركية وقوات «التحالف» في العراق عام 2010 أشرف على الانتقال من عملية «حرية العراق» والعمليات القتالية، إلى عملية «الفجر الجديد» وعمليات الاستقرار التي تركز على تقديم المشورة والمساعدة وتدريب قوات الأمن العراقية. وشارك على نطاق واسع في المناقشات الأميركية الداخلية ثم المفاوضات مع الحكومة العراقية التي أدت إلى توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية. ولقد عارض أوستن الانسحاب الكامل من العراق، مفضلاً احتفاظ الولايات المتحدة بأكثر من 10 آلاف جندي بعد الانسحاب عام 2011. كذلك أوصى بخطط لإبقاء ما يصل إلى 20 ألف عسكري هناك. وفي النهاية أشرف على سحب وإعادة نشر 50 ألف جندي ليغادر مع الآخرين العراق نهاية ذلك العام.
ومما يذكر، في هذا السياق، أنه بعد سيطرة تنظيم «داعش» على مدينة الموصل في يونيو (حزيران) 2014، أشرف أوستن على تطوير وتنفيذ خطة الحملة العسكرية لمواجهة التنظيم في كل من العراق وسوريا. واعتباراً من أكتوبر 2014، جادل أوستن بأن التركيز الأساسي للجيش الأميركي في العمليات ضد «داعش» يجب أن يكون العراق وليس سوريا. وأقر عام 2015 خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، بأن برنامج تدريب مسلحي المعارضة السورية لمحاربة «داعش» لم يكن ناجحاً. ليتحول التركيز بعد ذلك على تعزيز دور المسلحين الأكراد وتشكيل ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» التي خاضت الحرب في سوريا ضد التنظيم.
كالعديد من الجنرالات المتقاعدين، عمل أوستن - الذي يصفه عارفوه بأنه رجل «شديد الخصوصية» ويكره التحدث إلى وسائل الإعلام، وغالباً ما كان يتحدث عن نفسه بصفة الغائب – في القطاع الخاص. وشملت حياته العملية بعد التقاعد من الخدمة الفعلية، انضمامه إلى مجالس إدارة عدد من الشركات. إذ انضم بعد تقاعده عام 2016 إلى مجلس إدارة شركة المنتجات العسكرية العملاقة «رايثيون تكنولوجيز». واعتباراً من أكتوبر 2020، قدّرت قيمة ممتلكاته من أسهم الشركة وتعويضاته 1.4 مليون دولار. وفي سبتمبر 2017، عُيّن في مجلس إدارة شركة «نوكور»، وعام 2018 أصبح عضواً في مجلس إدارة شركة «تينيت هيلث». ثم إنه إلى جانب إدارته شركة استشارية، فهو شريك في «باين أيلاند كابيتال» وهي شركة استثمارية تضم أيضاً وزير الخارجية الجديد أنتوني بلينكن ونائبة وزير الدفاع السابقة ميشيل فلورنوي. بيد أنه قال خلال جلسة الاستماع الخاصة بتثبيته وزيراً للدفاع، إنه سيتنحى عن تلك المناصب لمدة أربع سنوات، حسب ما ينص عليه القانون، وهو التعهد الذي أعلن بلينكن التزامه به أيضاً.

- بطاقة هوية
ولد لويد جيمس أوستن يوم 8 أغسطس (آب) عام 1953، في مدينة توماسفيل بولاية جورجيا، حيث نشأ على يد أم كاثوليكية متديّنة، ولا يزال يصف نفسه بأنه مؤمن ويمارس واجباته الدينية.
· تخرّج عام 1975 ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ، حاصلاً على بكالوريوس علوم من الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت بولاية نيويورك.
· حصل عام 1986 على درجة الماجستير في التربية من جامعة أوبورن بولاية آلاباما. ثم عام 1989 على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة وبستر في ولاية ميزوري.
· تزوج منذ أكثر من 40 سنة من شارلين دينيس بانر أوستن التي كانت أماً لطفلين من زواج سابق. وعملت زوجته مديرةً في مؤسسة غير ربحية وفي مجلس إدارة معهد أبحاث الأسرة العسكري في جامعة بورديو بولاية إنديانا.
· حصل أوستن على أوسمة عسكرية عدة في مسيرته المهنية الطويلة، منها «وسام الخدمة الدفاعية المتميزة» و«النجمة الفضية» وميدالية إشادة من الجيش وجوائز أخرى.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.