«النوبلي» الفيزيائي ويلتشيك يقدم 10 مفاتيح لفهم الواقع البشري

الهجمات المضادة للفكر الفلسفي تكشف عن فقر الخيال ونقص المعرفة

«النوبلي» الفيزيائي ويلتشيك يقدم 10 مفاتيح لفهم الواقع البشري
TT

«النوبلي» الفيزيائي ويلتشيك يقدم 10 مفاتيح لفهم الواقع البشري

«النوبلي» الفيزيائي ويلتشيك يقدم 10 مفاتيح لفهم الواقع البشري

يعود البروفسور فرنك ويلتشيك (Frank Wilczek)، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء، لإمتاعنا بكتابه الجديد «الأساسيات: عشرة مفاتيح للواقع (Fundamentals: Ten Keys to Reality)» الذي نُشر في 12 يناير (كانون الثاني) 2021. وبهذا الفعل، يواصل ويلتشيك مشروعه الرائع في جعل الفهم العام للمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها وجودنا البشري، دعامة أساسية للثقافة العامة التي ما عادت محض خزان معلوماتي بقدر ما برهنت على أهميتها الاستراتيجية في الارتقاء بالحياة البشرية ووضع الفرد في سياق دوره المجتمعي؛ إذ لا يمكن أن نتوقّع دوراً دينامياً للفرد في مجتمعنا المعقّد بكل ما يواجهه من تهديدات مربكة، من غير فهم رصين لأساسيات العلم الفيزيائي.
لا تقتصر ضرورة الفهم المجتمعي العام على هذه الضرورة التي يمكن توصيفها بـ«الضرورة البراغماتية»؛ بل إن شحذ الجهاز الفلسفي للفرد وقدراته التحليلية وشغفه المعرفي يعمل على تعزيز أريحيته الفكرية وتذوّق جماليات الحياة وعلاقاتها المشتبكة.
يُعرَف عن ويلتشيك ولعه الفلسفي بالموضوعات الخاصة بما تسمّى «الأسئلة الكبرى (The Big Questions)» التي يمكن إجمالها في ثلاثة أسئلة تأصيلية: أصل الكون، وأصل الحياة، وأصل الوعي. وهو يخالف وجهة نظر بعض الفيزيائيين المعاصرين (من أمثال ستيفن هوكينغ، ولورنس كراوس، ونل ديغراسه تايسون) التي تقول بموت الفلسفة؛ بل هو يؤكّدُ أن هذه الهجمات المضادة للفكر الفلسفي تكشف عن فقر في الخيال ونقص في المعرفة بشأن الموضوعات التي تتمحور عليها الفلسفة.
يرى ويلتشيك أن ثمة الكثير في هذا العالم إلى جانب قوانين الفيزياء والظواهر الفيزيائية، ولدينا نتاج خبرة صراعية امتدت قروناً مع المعضلات الفكرية الكبرى في محاولة حثيثة لتحسين المفاهيم؛ لذا لن يكون من الحكمة أن نشطب على كل هذا التراث الفكري الحافل.
وسبق للبروفسور ويلتشيك أن صرح من قبلُ بأنه تحصّل على كثير من الإلهام المشرق (كما فعل آينشتاين قبله) عبر التفكّر في الحصيلة المتراكمة من الأدبيات الفلسفية التي شحذت عقله ووسائله الفكرية بعدما قرأ أعمالاً فلسفية رائعة كتبها (على سبيل المثال) ديفيد هيوم أو إرنست ماخ أو برتراند راسل.
يبدأ الكتاب الجديد للبروفسور ويلتشيك بتقديم ذي عنوان ينطوي على قصدية واضحة «مولودٌ ثانية (Born Again)»، وهي إشارة إلى أن فهم التفاصيل العلمية الخاصة بالمفاهيم الأساسية التي يتأسس عليها الكون والوجود البشري، وبكل حمولتها الفلسفية، إنما يمثل انعطافة مفصلية يمكنها إعادة تشكيل نظرة الفرد تجاه الوضع البشري بالكامل.
رؤية فلسفية لتقدم البشرية
تعقبُ التقديم مقدّمة ذات جمال فلسفي أخّاذ، ثم يواجهنا المتن الرئيسي للكتاب، الذي جعله ويلتشيك في قسمين رئيسيين اثنين:
القسم الأول: عنوانه «ما الذي يوجد هناك»، ويتناول فيه الكينونات الموجودة في الكون، ويلاحظ أن المؤلف يستخدم أسلوباً سردياً لم نعهده في الأدبيات الفيزيائية السابقة التي تناولت تأريخ العلم وفلسفته؛ فهو يوظف منطق الكثرة والقلة في توصيف هذه الموجودات الجوهرية: الكثير من الفضاء (Space)، الكثير من الزمن، القليل من المواد الأساسية المشكّلة للكون، القليل من القوانين، الكثير من المادة والطاقة.
القسم الثاني: عنوانه «بدايات ونهايات»، ويتناول فيه المؤلف الموضوعات الأساسية التالية: «التاريخ الكوني كتاب مفتوح»، و«انبثاق التعقيد (Complexity)»، و«الكثير من الأشياء الإضافية التي ينبغي علينا توقعها»، و«الغموض سيبقى ملازماً للوجود البشري»، و«مفهوم التكاملية (Complementarity) يوسّع العقل».
يختتم المؤلف كتابه بحصيلة ختامية يقدّم فيها رؤيته الفلسفية لرحلتنا البشرية في هذا الكون والسيناريوهات المتوقعة لها.
عقب قراءتي الأولية الاستكشافية لهذا الكتاب تعمّقت قناعتي بأن الفيزيائيين هم بعض أفضل فلاسفة عصرنا (لكنهم ليسوا الوحيدين)، وأن فهماً علمياً وفلسفياً أفضل لعالمنا لن يكون متاحاً ما لم نحصل على معرفة أولية بأفكار أهمّ فيزيائيي عصرنا، خصوصاً أن هؤلاء قادرون على تخليق تشبيكات متداخلة بين الحقول المعرفية، وهو ما بات يُعرف بـ«نظرية التعقيد (Theory of Complexity)» التي أصبحت تشغل موقعاً ريادياً في جبهات العلم المتقدمة في عالم اليوم.

نظرية الأنساق المعقدة
يمثل البروفسور ويلتشيك - كما أرى - واحداً من أرقى العقول الفيزيائية التي تعاملت مع «نظرية الأنساق المعقّدة»، وهو عقل فلسفي غاية في الثراء والفرادة. نشر ويلتشيك أفكاره الفلسفية في عدد من الكتب السابقة المنشورة له، وسعى ويلتشيك منذ بداياته إلى فهم التصاميم الشائعة في الطبيعة، وقد نما لديه هذا الشغف منذ أن كان طالب رياضيات شاباً، وهو يقول في هذا الشأن:
«أحببتُ دوماً اللعب مع الأنماط، والتفكير بشأن ذلك النوع من التجريد. كنتُ مولعاً دوماً بالمنطق الرياضياتي الذي أراه فرعاً من الفلسفة، كما تملّكني شغف لا حدود له بالنظرية الخاصة بكيفية عمل العقل. درست شيئاً من البيولوجيا العصبية وعلم الحاسوب وأنا في خضم محاولاتي الحثيثة للكشف عن كيفية تداخل الأنماط المجردة في عمل العقل».
ويلتشيك ليس فيزيائياً نظرياً ذا ريادة في ميدانه فحسب؛ بل هو دارس مولع للفلسفة، وعاشق محبّ للشاعر الإنجليزي ويليام بليك (WILLIAM BLAKE)، فضلاً عن عشقه العظيم للأدب والتاريخ.
ويلتشيك أحد روّاد «نظرية التعقيد»؛ لذا أرى أن الفصل الخاص بانبثاق التعقيد ذو أهمية متفرّدة في الكتاب، خصوصاً أن مثل هذه المفاهيم المتقدمة قلّما يتناولها كتاب فيزيائي موجّهٌ للجمهور العام.
يكتب ويلتشيك في تقديمه للكتاب العبارات الافتتاحية التالية:
«هذا كتاب حول الدروس الأساسية التي يمكن أن نتعلمها من دراسة العالم الفيزيائي (المادي). قابلتُ كثيراً من البشر الشغوفين بالعالم الفيزيائي والمتلهّفين لتعلّم ما الذي تقوله الفيزياء الحديثة حول هذا العالم.
قد يكون هؤلاء محامين أو أطباء أو فنانين أو طلبة أو معلّمين أو آباءً أو - ببساطة - أناساً شغوفين فحسب ممن يمتلكون الذكاء؛ لكن تعوزهم المعرفة. حاولتُ في هذا الكتاب أن أقدّم لهؤلاء وسواهم الرسائل الأساسية للفيزياء الحديثة بأبسط طريقة ممكنة من غير الإخلال بالدقة المطلوبة، وقد حاولتُ - ما استطعتُ - الإبقاء على أصدقائي الشغوفين وأسئلتهم حاضرين دوماً في عقلي وأنا أكتب هذا الكتاب.
إن هذه الدروس الأساسية - بالنسبة لي - تنطوي على ما هو أكبر من الحقائق المجرّدة بشأن كيفية عمل العالم الفيزيائي. إن هذه الحقائق ذات سطوة طاغية من جانب؛ وجميلة بشكل فائق الغرابة من جانب آخر. هذا شيء مؤكّد؛ لكن الأسلوب الفكري الذي يتيحُ لنا اكتشاف هذه الحقائق هو إنجاز عظيم أيضاً. إنه أمرٌ فائق الأهمية أن نفهم الكيفية التي تعمل بها هذه الحقائق الأساسية في وضعنا - نحن البشر - بصورة متناغمة ودقيقة في إطار الصورة الكبرى».
أرشّحُ هذا الكتاب ليكون حاضراً بقوة في مقدّمة جدول قراءات الشغوفين بمثل هذه الكتب لسنة 2021.

* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.