خريطة طريق لنموذج وطني لكردستان... والعراق

كتاب باللغة الكردية عن اللامركزية وبناء الدولة المدنية

خريطة طريق لنموذج وطني لكردستان... والعراق
TT

خريطة طريق لنموذج وطني لكردستان... والعراق

خريطة طريق لنموذج وطني لكردستان... والعراق

صدر حديثاً باللغة الكردية في إقليم كردستان العراق كتاب بعنوان «اللامركزية، خريطة طريق لإقليم كردستان - العراق»، لمؤلفه لاوك صلاح.
الكتاب يسلط الضوء على مسألة اللامركزية التي تعتبر مسألة شائكة ومعقدة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة إعادة بناء وتنظيم الدولة المدنية في العراق بشكل عام وإقليم كردستان العراق بشكل خاص. ويرى المؤلف أن اللامركزية، كآلية استراتيجية، من المؤمل أن تساعد تدريجياً، على خلق تنمية سياسية مستدامة على المدى المنظور، وذلك من أجل تجاوز التراكمات والنزاعات السياسية التي رسمت الحياة السياسية العراقية لعقود طويلة من الزمن، والتي خلقت الخلل والشرخ الواسع في بناء الدولة العصرية المنشودة بعد تاريخ طويل من وجود حكم خارج الإرادة السياسية الوطنية، امتدت من الحكم العثماني إلى الاحتلال البريطاني، وتميزت بعدم وجود التمثيل السياسي والإداري والنيابي الشرعي والطبيعي في مناطق مختلفة في العراق، وأنتج كذلك نمطاً غير عادل في إدارة الدولة ومواردها. وقد استمر هذا النمط من الحكم، بعد ذلك، بنفس الأسلوب الذي يُوصف ويُقيّم من قبل المراقبين السياسيين بالأسوأ في ظل الحكومات المتعاقبة، والتي كانت ضمنياً حكومات عسكرتارية.
ويرتكز الكتاب، كما هو واضح في المقدمة، على تجربة عملية غنية للكاتب مع المنظمات والمؤسسات الأجنبية الرسمية العاملة في العراق، تمتد لأكثر من 25 عاماً في كثير من مناطق العراق، والبحث الدؤوب في تجارب البلدان التي شهدت تجارب مماثلة، بحثاً عن كيفية تعاطي تلك البلدان مع مسألة الحُكم والحَوكمة واللامركزية، مع أخذ بنظر الاعتبار خصوصية كل تجربة، وكذلك تحليل برامج المؤسسات الرسمية مثل الأمم المتحدة والصندوق الدولي ووكالة المساعدات الخارجية التابعة لوزارة الخارجية الأميركية في هذا النطاق، إضاقة إلى مراقبة مراحل تطبيق اللامركزية في وسط وجنوب العراق وإقليم كردستان العراق.
وتركز المواضيع المطروحة على جوانب مهمة تخص اللامركزية تعطي القارئ فكرة لمشروع ما، أو محاولة لتكوين رؤية ما، أو تحديد معالم مسألة ما، أو مقارنة بين البيئات التي أعدت فيها برامج ومشروعات اللامركزية كآلية لترجمة الأسس والمفاهيم الديمقراطية مثل النظام الاتحادي، ومنها آليات التنفيذ. ويحدد الكاتب في المحاور الأولى البيئات التي شجعت على تبني اللامركزية، إن كانت ادعاءً أو تبنياً جدياً، بدءاً من فصول الربيع العربي وتغير النظام في العراق وبقية الأنظمة في بعض البلدان العربية. وفي هذا السياق، يذكّر الكاتب بأن اللامركزية لم تطرح ضمن برنامج وطني شامل، رغم أن التوجه في البداية كان إيجابياً قبل أن تبدأ الصراعات السياسية بالظهور واستغلالها من قبل البعض.
وبعد ذلك، يشرح الكاتب الأركان الأساسية لمسألة اللامركزية، فضلاً عن النماذج المتبعة في العالم لتقصي العقبات والتحديات أمام كل نموذج، ومن أجل الإلمام بجميع النواحي الأساسية المتعلقة باللامركزية، ومن ثم البحث عن هوية لمفهوم اللامركزية في إقليم كردستان بشكل خاص، والعراق بشكل عام، كما يتطرق الكاتب إلى علاقة اللامركزية بالدستور ومسألة التعديل وتجربة المنظمات في العراق والإقليم والتهديدات التي تصاحب عملية التطبيق وأنواع اللامركزية، مثل اللامركزية السياسية والمالية والإدارية، وذلك من أجل استنباط الدروس والعبر التي تساعد على رسم برامج جديدة من خلال المراجعة والتقييم.
وكجزء من التقييم لما جرى من تطبيق للتحديات التي واكبت برنامج اللامركزية، يلخص الكاتب السلبيات في عدم وصول الأطراف السياسية إلى اتفاق سياسي شامل كحجر أساس لصياغة قانونية للمبادئ الأساسية، وكذلك عدم العمل على إعداد برامج تمهيدية لتقوية الكفاءات السياسية والقانونية والإدارية التي كان من المفروض التركيز عليها منذ البداية، وتليها ممارسة ضغط مدني وقانوني على أصحاب القرار السياسي.
وفي القسم الأخير، يقترح الكاتب منهجاً للعمل الميداني الذي يساعد على تبني وتطبيق اللامركزية، بدءاً من تنظيم مؤتمر دولي تخصصي لإعداد توصيات بشأن النمط الذي من الممكن أن ينجح، وبعد ذلك، عمل مسح ميداني شامل يساعد على فهم المعوقات والتحديات بشكل أفضل.
ويؤكد الكاتب عبر صفحات الكتاب أنه ينبغي «خلق نموذج حل محلي» بآليات معرفية دولية تعكس الخبرة النظرية والعملية، وتُظهر الفهم السياسي العميق للإشكالات السياسية والهياكل التي من خلالها تم الترويج لأفكار لم تساعد على إيجاد حلول وطنية. ويستخدم الكاتب اصطلاح «الوطنية» ليشير إلى ضرورة تجسيد حل محلي، وليس شعاراً سياسياً بدون معنى، أو ضمن المفهوم السياسي التقليدي للوطنية، فالمقصود بالوطنية هنا «الحلول المحلية الممكنة ضمن مراحل التنمية السياسية المجتمعية».



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».