نظرة جديدة لمفهوم أدب الرحلات، ومقدرته على تعزيز الشوق الإنساني، وإشباع روح المغامرة والتعرف على ثقافات وحضارات وتقاليد وعادات شعوب، تطالعنا في كتاب «أدب الرحلات»، للكاتب البريطاني كارل طومسون، المحاضر في جامعة نوتنجهام وصاحب عدد من المؤلفات في هذا السياق منها «معاناة المسافر والخيال الرومانسي» و«غرق السفن في الفن والأدب».
الكتاب صدر حديثا عن المركز القومي بالقاهرة وترجمه محمد الجندي، أستاذ الأدب الإنجليزي بأكاديمية الفنون. ويشير المؤلف إلى أن هذا النوع من الأدب يعتبر في الوقت الحالي مزدهرا للغاية، ففي كل عام يخرج تيار من قصص الرحلات الجديدة من المطابع ويظهر كاتبوه مثل مايكل بالين وبيل بريسون وبول تيرو بانتظام في قوائم أصحاب الكتب الأكثر مبيعا في كل من أوروبا وأميركا. ودفع هذا الإقبال من جانب القراء الناشرين لإعادة إصدار عدد من قصص الرحلات القديمة في صورة سلاسل. وذلك على عكس معظم فترات القرن العشرين حين كان نقاد الأدب والمعلقون الثقافيون عادة ما يرفضون هذا النوع الأدبي باعتباره ينتمي إلى الأدب المتوسط.
جذور تاريخية
يستقصي المؤلف جذور أدب الرحلات، مشيرا إلى أنه في عام 1130 قبل الميلاد كان هناك كاهن فرعوني يسمى «وينامون» قام برحلة من «طيبة» إلى لبنان لشراء إرسالية من خشب الأرز لمعبده، ولكن الرحلة كانت كارثة فقد تعرض للسرقة وتعقبه بعض القراصنة، وكان على وشك الموت، ومع ذلك كانت لهذه الرحلة نتيجة مهمة، حيث كتب الكاهن الفرعوني سردا عن هذه المغامرة التعسة، وبقي هذا السرد عبر الزمن رغم حالته السيئة، وهو يشكل وفقا للمؤرخ ليونيل كاسون أول سرد أدبي تفصيلي عن رحلة بالشكل القريب مما نعرفه اليوم.
ويذكر أنه قبل ذلك التاريخ، هناك بدايات غير ناضجة لأدب الرحلات تكاد تشمل كل حكايات السفر التي تناقلها البشر عبر الزمن بصورة شفوية. لافتا إلى أن المعالجات الأولية لموضوع السفر تتضح كما في ملحمة جلجامش والأوديسة لهوميروس وسفري النشوء والخروج في الإنجيل. ورغم أن ذلك سرد خيالي لرحالة أسطوري، تفتتح الأوديسة التراث الغربي من أدب الرحلات بصفة خاصة ما يعني أنها من أوائل قصص الرحلات المكتوبة، ومن أوائل النصوص التي كان لها تأثير على أدب الرحلات اللاحق من القصص، لا سيما تركيزها الموضوعي على كوارث الرحلة والعودة المحفوفة بالمشاكل وتقديمها للبطل الرحالة كشخص.
إن العصور الوسطى، كما يقول طومسون، أنتجت مثلما أنتج العصر الكلاسيكي وفرة من نصوص السفر، ولكن القليل من تلك النصوص يتوافق مع مفهمونا الحديث لأدب الرحلات، فغالبا ما تكون تقارير الرحلة منسوجة داخل الجغرافيا والتاريخ الطبيعي وكتب الحيوانات والعجائب الخاصة بالعصور الوسطى، لافتا إلى أن قارتي آسيا وأفريقيا كانتا بصفة خاصة مصدر إبهار للقراء الأوروبيين، وأدت إلى ظهور أدب ثري وتأملي بشكل كبير في الغالب. ومع ذلك فالقليل جدا من تلك التقارير هي قصص عن السفر بصيغة المتكلم يحكي فيها المسافر تجربته الخاصة، ولذلك فهي بشكل نمطي مجموعات من المعلومات تندمج فيها ملاحظات المصادر الكلاسيكية مثل هيرودتس وبليني مع التقارير الأحدث التي تسربت إلى مراكز النشاط العقلي في أوروبا عبر سلسلة من الوسطاء في الغالب. ويبدو الكثير من نصوص السفر في العصور الوسطى مزيجا مثيرا للفضول من الواقعي والخرافي، حيث إنها تجمع بين وصف معقول للشعوب والأماكن مع حكايات عن كائنات متوحشة أو خارقة قد تمثل إسقاطا للمخاوف والخيالات الأوروبية كالحصان المجنح والرجال الذين لهم رؤوس كلاب والمرأة المسترجلة.
ويتحدث طومسون عن نوع آخر من «الرحلات». ففي أوروبا كان الرجال يسافرون كجواسيس ليكتبوا التقارير للجيوش قبل الغزو. ونقلت الحملة الصليبية الكثيرين من المسيحيين الأوروبيين إلى الشرق الأدنى والأقصى، وأصبح الكثيرون منهم على دراية بالمنطقة من خلال العديد من الأحداث اللاحقة هناك، كما كان أيضا يتم إرسال البعثات التبشيرية والسفارات من حين لآخر إلى مناطق الصين والهند وأفريقيا.
وكانت البعثة الدبلوماسية إلى بلاط الإمبراطور المغولي «قبلاي خان» وراء إنتاج أشهر تقارير السفر في تلك الفترة وهي رحلات «ماركو بولو» التي تم تداول نسخ مختلفة منها تحت عناوين مختلفة منذ نهاية القرن الثالث عشر وما تلاه وقد أبهر وصف بولو لثروات وثقافة الصين المعقدة أهل ذلك العصر.
وفي العالم الإسلامي بدأت كتابات الرحلة مع القاضي المغربي «ابن بطوطة» صاحب رحلة الحج الملحمية التي يبلغ طولها 75000 ميل حول شمال أفريقيا والهند والصين وجنوب شرقي آسيا.
الرحلة والاستعمار
ويستعرض المؤلف أزمة المصداقية التي يمكن أن تواجه هذا النوع من الأدب من خلال تأرجحه بين الحقيقة والخيال، حيث يتعين على القراء الصراع مع أسئلة تتعلق بصحة المعرفة التي يقدمها أدب الرحلات، وعلى سبيل المثال كيف يستطيع الشخص تحديد موثوقية أي سرد عن السفر، وكيف يستطيع انتقاء الملاحظات الدقيقة من الفهم الخاطئ الناتج عن السهو أو الخداع، وكيف يستطيع الفصل بين سردين مختلفين عن نفس الأماكن والشعوب، وما معايير الحكم على سرد بأنه أجدر بالثقة من آخر؟
ويجيب على ما طرحه من أسئلة، مؤكدا أن أدب الرحلات ظل لوقت من الأوقات يمثل شكلا ثقافيا منغمسا في المواقف والأخيلة الاستعمارية «الإمبريالية»، وهناك نص يوضح هذا الجانب بطريقة صارمة ومتطرفة بصفة خاصة عبر تقديم عمل هنري مورتون ستانلي في كتابه «عبر القارات» الذي حقق أفضل المبيعات، وهو سرد عن رحلة شاقة في قلب أفريقيا استمرت لمدة ثلاث سنوات باستخدام عربة تجرها الحيوانات قاد فيها ستانلي حوالي 350 حمالا ومرشدا من «زنزبار» في المحيط الهندي إلى بحيرة فكتوريا وتنجانيقا في شرق أفريقيا قبل تتبع مجرى نهر لولابا ونهر الكونغو للوصول لساحل أفريقيا على الأطلنطي. ولم تكن هذه الرحلة من أجل الغزو الاستعماري، فقد سافر الرجل كمستكشف يسعى لجمع المعلومات الجغرافية والعرقية، وأثبتت تلك البيانات بمرور الزمن أنها مفيدة بشكل هائل للمشروعات الاستعمارية الأوروبية في شرق ووسط أفريقيا، كما أثبتت رواية «عبر القارة المظلمة» أنها مفيدة آيديولوجيا من خلال رسم صورة سلبية نمطية لأفريقيا وسكانها، فبدا الأمر وكأنها تشجع وتبرر المشروع الاستعماري.
الإسهام النسائي
ويختتم كارل طومسون كتابه بالإشارة إلى إسهام النساء في أدب الرحلات، ويرى أنه في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين استمرت المرأة في تقديم إسهامات مهمة لأدب الرحلات تماما مثلما فعلن منذ بداية القرن التاسع عشر. ساعد على ذلك أنه على العكس من العصور السابقة، وجود القليل من القيود على الموضوعات التي تتناولها المرأة في قصص الرحلات، يعزز ذلك أن الفرص التعليمية والمهنية أصبحت متاحة للمرأة بشكل أكبر على الأقل في الغرب، فقد أصبح بإمكان المرأة أن تسافر وتنشر أعمالها. لكن سيكون من السذاجة، كما يستدرك، افتراض أن كاتبات أدب الرحلات لا يواجهن قيودا اليوم بالمرة، إذ يبقى الخوف من العنف وخاصة العنف الجنسي يشكل قلقا أكثر إلحاحا للمسافرات أكثر منه بالنسبة للرجال.
ونستشهد هنا بما تقوله ماري موريس: «يؤثر الخوف من الاغتصاب سواء أثناء عبور الصحراء الكبرى أو عبور شارع في مدينة ليلا بشكل هادئ على طريقة تحرك النساء في العالم»، كما أنه أحيانا تتطلب المجتمعات التي تزورها المرأة سلوكا وزيا مختلفين، كما قد يختلف استقبالها عند العودة لوطنها عن استقبال الرجال بشكل كبير، مشيراً إلى «روبين دافيسون» التي قطعت رحلتها المضنية لمسافة ألف ميل عبر المناطق النائية في أستراليا بركوب جمل، قد أصبحت تسمى في وسائل الإعلام بـ«سيدة الجمل» وهو ما كانت تستاء منه بمرارة.