في كتابها الجديد الصادر مطلع هذا العام (2021) عن دار «غيداء» في عمان، المعنون بـ«قصة القصة: دراسة ميثودولوجية في جريان القصة العراقية من المنابع إلى المصبات»، تواصل الناقدة العراقية نادية هناوي مشروعها التثويري في النقد العراقي منذ مطلع القرن الحالي، لكن البروز القوي لتجربتها النقدية كان في النصف الثاني لهذا العقد حتى الآن. ففي هذه الفترة، بدأ مشروعها النقدي المستقل بالتبلور، من خلال كثير من الدراسات والأبحاث النقدية التي نشرتها في الصحف والمجلات الأدبية والفكرية في مشرق الوطن العربي ومغربه.
في كتابها الجديد (قصة القصة)، لا تأخذ الناقدة بالسائد المتداول في تحديد بدايات القص القصير (عراقياً وعربياً)، بل تخالف الباحثين المصريين الذين ينصِّبون محمد تيمور رائداً بقصته «في القطار» 1917، وتخالف اللبنانيين الذين يبوئون ميخائيل نعيمة بقصته «سنتها الجديدة» 1914، مرجعة الريادة إلى عام 1910، بقصة «فتاة بغداد» لرزوق عيسى. كما أنها تجافي ما ثبّته الباحث الناقد العراقي الراحل الدكتور عبد الإله أحمد، ومن تبعه، في تحديد بدايات القصة العراقية، فتشير إلى بدايات مغايرة أخرى، وأسماء ريادية مغايرة أخرى. ولكن المهم في كتابها هذا هو الانقلاب الكلي على التقسيمات المرحلية السابقة، وتحديداً التجييل العقدي العاجز، إذ مرحلت القصة العراقية ارتباطاً بالتطورات الاجتماعية والحضارية، ومعطياتها التمدينية التي خلقتها أحداث اجتماعية وسياسية وإدارية وعمرانية عبر المشاريع الاستراتيجية التمدينية التي تغلغلت تأثيراتها بقوة في بنى فئات المجتمع ومناحيه المختلفة، لتخلق واقعاً مدنياً متقدماً أسهم بدوره في تحريك الوعي إلى الأمام نحو التحضر، وكان هذا هو الانعكاس الأبرز على ميدان الأدب، ومنه القصة القصيرة.
توزعت فصول الكتاب على جزأين اثنين، سبقتهما مقدمة أكدتْ فيها على طبيعة الكتاب، من حيث إنه «دراسة ميثودولوجية تتبع جريان القصة القصيرة في العراق من المنابع إلى المصبات»، وبينت طريقة تعاملها النقدي في معالجة قصص البواكير التي وصفتها بأنها «قصص الأمس برؤية اليوم»، ثم وقفت وقفة نظرية مع التقاليد السردية بصفتها مفهوماً نقدياً.
العقود الأربعة الأولى
ضم الجزء الأول ثلاثة فصول غطت العقود الأربعة الأولى من عمر القصة العراقية، معتبرة إياها مرحلة بواكير وتأسيس. والتأسيس لديها ليس تأسيساً للبدايات، بل يشملها منطلقاً إلى مراحل متقدمة عليها. والريادة في رأيها طوران: ريادة إرهاصية وريادة عينية. وقد تكون بين الطورين مسافة زمنية طويلة جداً، انطفأت خلالها جذوة البواكير الإرهاصية وتلاشت، ولكن ليس من الإنصاف تجاهلها، فهي أيضاً اجتراح عقلية طليعية نشّادة للتغيير، إلا أن ظروف ظهورها لم تكن مناسبة لإنضاجها، ومن ثم لإنجاحها.
غطى هذا الفصل تاريخ القصة العراقية من البواكير في العقد الثاني للقرن الماضي حتى مطلع خمسينياته، ودرست فيه المؤلفة نظرياً وتطبيقياً أهم التجارب القصصية لأهم الأسماء المبدعة، بدءاً بعطاء أمين ومحمود أحمد السيد، مروراً بيوسف متي وعبد الوهاب الأمين وعبد الحق فاضل وسواهم، وصولاً إلى محمد روزنامجي وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وسواهم، ممن شكلت كتاباتهم ذروة هذه المرحلة التي كانت مجموعة «نشيد الأرض» لعبد الملك نوري الممثل الفعلي لذروة إنجازاتها.
وعنونت المؤلفة الفصل الثاني بمرحلة الوضوح والتبلور، لتبحث خلاله العطاء القصصي العراقي في ربع قرن آخر، وصفته في عنوان فرعي بأنه «ربع قرن زاهٍ سردياً واجتماعياً»، وهي فترة حصلت فيها وقائع اجتماعية واقتصادية وإدارية كانت لها انعكاسات كبيرة في الحياة المدنية العراقية، ومن هذه الوقائع إنشاء مجلس الإعمار الذي كان لمشاريعه الاستراتيجية العمرانية والصحية والاقتصادية آثار كبيرة في تطوير مناحي الحياة العراقية، والبث التلفزيوني الأول في الشرق الأوسط، وانبثاق جبهة الاتحاد الوطني، ثم قيام «ثورة تموز» ومنجزاتها الكبيرة في كل الصعد، وإنشاء جامعة بغداد التي وسعت رقعة الاختلاط بين الجنسين، وهي إحدى القضايا المهمة التي أكدت أكثر من دراسة أكاديمية وغير أكاديمية أثرها في تشكيل وعي القاص وسلوكه تجاه المرأة وتناول قضاياها. ثم صدور قانون الأحوال المدنية (114) الذي منح المرأة حقوقاً ما كانت قد تحققت لها في أي بلد عربي أو إسلامي، ولم يكن استيزار أول امرأة في الوطن العربي فعلاً إعلامياً أو إجراء جاء عفو الخاطر، بل هو انعكاس لمحصلات هذا الواقع.
السرد النسائي
وتتبعت الباحثة آثار كل ذلك في السرد العراقي، فأشارت إلى تنامي السرد النسوي العراقي، وبروز دور القاصة العراقية في العطاء الثقافي العراقي، وهو أمر تغاضت عنه كل الدراسات التوثيقية للقصة العراقية وأهملته، وأشاح النقاد بوجوههم عنه. ثم تناولت المتن السردي النسوي في ربع القرن الثالث من القرن العشرين، واضعة له خط شروع تاريخي وفني هو صدور مجموعة القاصة الرائدة سافرة جميل حافظ عام 1954، وما تلاها من تطور واضح في قصص كاتبات لاحقات، مثل: سميرة المانع، وسهيلة داود سلمان، وبثينة الناصري، ومي مظفر، وصولا إلى الكاتبة لطفية الدليمي. وهو متن سردي كبير يشكل حيزاً مهماً من السرد العراقي، فضلاً عن تنوعه في موضوعاته وأشكاله وتجاربه الإنسانية، إلا أن النقاد الذكور أهملوه في أنطولوجياتهم وأبحاثهم التاريخية عن القصة العراقية. وأهم الأحداث التي عصفت بهذا الربع من القرن الماضي، وهو هزيمة الأنظمة العربية وجيوشها في عام 1967، مما هز دعائم كل المجتمعات العربية، ومنها المجتمع العراقي، فانعكست آثار ذلك في كل مناحي الحياة العربية، ومنها السرد العراقي الذي اندفع كتابه في إنتاج كمي ونوعي مميزين، اغتنيا بأساليب ورؤى وتجارب فنية جديدة.
بعد ذلك، تصل الباحثة إلى الربع الأخير من القرن العشرين الذي أطلقت عليه «ربع قرن عاصف سردياً»، مولية اهتماماً للتحولات الاجتماعية والسياسية، وتأثيراتها المباشرة على الحياة، العامة منها والأدبية، إذ شهدت هذه الفترة صعود الديكتاتورية، وعسكرة المجتمع، والحروب والحصار، وبروز قصة الحرب بصفتها ظاهرة أدبية، فلم ترس أي تقاليد كما حصل بعد حرب الأيام الحزيرانية الستة التي استنفرت في القاص العراقي مكامن الإبداع والتجريب، وجعلته يقدم نماذج قصصية متميزة، بينما حروب الربع الأخير من القرن المنصرم «دفعت القاص إلى الكتابة التحشيدية الصاخبة التي بها ضخ قصصاً سريعة تعبوية سميت قصص الحرب... انحسر الجانب النوعي في كثير منها، وتغلب الجانب الكمي».
وتؤكد الباحثة رأي أبرز القصاصين العراقيين المخضرمين وأكثرهم إبداعاً، وهو القاص محمد خضير الذي يقول فيهدد بأن «القصة دخلت طريقاً مسدوداً في عهدها هذا، إلا أن بصيصاً من النور، بل طوق نجاة، ظهر لها في كتابات قصاصين مخضرمين، ليتألقوا وتتألق القصة العراقية بنصوصهم التي دشنت مشروعاً تجريبياً جديداً عده الناقد فاضل ثامر الموجة التجريبية الثانية بعد الموجة الأولى في منتصف ستينيات القرن العشرين».
* كاتب عراقي