الاوسكار.. الخطأ الفادح الذي ارتكبته الأكاديمية

الكلمة الأولى للسيناريو والأخيرة للفيلم الماثل

 «قناص أميركي»: رسالة مضادة
«قناص أميركي»: رسالة مضادة
TT

الاوسكار.. الخطأ الفادح الذي ارتكبته الأكاديمية

 «قناص أميركي»: رسالة مضادة
«قناص أميركي»: رسالة مضادة

كلينت إيستوود لا يحب كتابة السيناريوهات. على أعتاب عرض أحد أفضل أفلامه قاطبة «رسائل إيوا جيما» سنة (2006) قال لهذا الناقد: «لم أحاول. بالنسبة لي هي عملية من الأفضل أن يقوم بها سواي. لا أطيق فعل الكتابة لكني أقدّر السيناريو الجيّـد وأحميه حين التنفيذ». وبالفعل وجدناه مثّـل وأنتج وأخرج وكتب موسيقى 8 أفلام وكتب أغاني 28 فيلم من أعماله، لكنه لم يكتب سيناريو واحدا.
على ذلك أن يحسن معالجة السيناريو الذي وضعه جاسون هول عن كتاب كريس كايل حول حياته كقنّـاص في المارينز الأميركي قام بقتل نحو 160 عراقيا (وقيادته تعتقد أنه قتل أكثر من ذلك)، على هذا النحو الذي يتبدّى حين مشاهدة الفيلم يعكس علاقة المخرج بالمادّة المكتوبة وفهمه الوسيلة لتحريكها من أصولها سواء أكان السيناريو كُـتب خصيصا للشاشة أو أقتبس - كما في حال هذا الفيلم - عن مادة منشورة سابقا.
جاسون هول لم يسبق له أن تعامل مع سيناريو بحجم وأهمية هذا العمل. أفلامه السابقة (ثلاثة) لم يكن من بينها ما يستدعي التوقف وآخرها «بارانويا»: دراما تشويقية طموحة حول موظّـف شاب يقوم رئيس الشركة بإرساله للعمل في شركة منافسة للتجسس عليها.
في الصفحات الأولى من كتاب كريس كايل ترد أولى العبارات العنصرية ضد العراقيين. النعت المفضّـل لذلك القنّـاص الذي وضع ذكرياته بين ضفّـتي الكتاب سنة 2012 قبل سنة وشهر واحد من مقتله على يدي مجنّـد آخر، ليس في حادث عرضي، كما كتب أحد الزملاء، بل نتيجة خلاف مع رفيق سلاح سابق حاول هذا الهرب في سهوب تكساس لكن البوليس طارده وألقى القبض عليه حيث ينتظر المحكمة.
سيناريو جيمس هول واجه من البداية معضلة ما إذا كان عليه أن يتبع الكتاب بحذافيره ووجهة نظره. وهو اختار أن يبقى قريبا من روح العمل وأحسن صنعا بذلك. لكن ما فعله إيستوود في هذا النطاق، هو أنه عرض شيئا وضمر شيئا آخر وببلاغة رائعة. ما عرضه هو أفعال كريس كايل التي تبدو كما لو أن الفيلم يؤيدها تماما. ما ضمره هو إسقاط تلك الهالة البطولية عن هذه الشخصية بالتدريج إلى أن أصبحت عارية إلا من أفعالها. وعند هذه الأفعال ترك الرأي الأخير بالنسبة إلى إذا ما كان كريس بطلا أو وهما للمشاهد.
بما أن كريس كايل لم يتوقع موته فإن كتابه لا ينتهي نهاية الفيلم. والنسخة الأولى من السيناريو أضافت مشهد مقتل كريس وكيف تم تنفيذه. لكن إيستوود قرر أن يُـغيّـب هذه النهاية ويصوّر مقتله خارج الكاميرا مكتفيا بمشهد الدفن. السبب يعود إلى أن حضور الموت قد يؤدي إلى تمجيده بينما تغييبه مع ذكر ما حدث كتابة على الشاشة، يواكب المفهوم الوارد عبر المتابعة من أن من اعتبر بطلا في الحرب مات بالعنف ذاته الذي آمن به (على طريقة «من قتل بالسيف مات به»).
بالنسبة لإيستوود فإن الفيلم هو معاد للحرب. يقول في حفلة توزيع جوائز جمعية المنتجين التي أقيمت في جادة ويلشير بوليفارد في منطقة بيفرلي هيلز أن «أفضل بيان ضد الحرب هو تصوير قسوة نتائجها على العائلات»، وأن هذا ما فعله الفيلم.
هذا صحيح. كريس كان يعود من رحى المعارك جسدا وروحا، ثم جسدا بلا روح، ولاحقا هيكل لا جسد له أو روح. كلما عاد لجولة قتل جديدة وجد نفسه ينتمي إلى تلك الدوامة العنيفة من الحياة وكلما زار زوجته وطفليه كان حضوره، كما تخبره زوجته، أقرب إلى غياب من نوع آخر.
ما الذي صنعه إيستوود مخرجا من كل ذلك سنعود إليه خلال التطرّق إلى سباق المخرجين. لكن في سباق أوسكار السيناريو فإن هناك الكثير مما يمكن الحديث فيه عن كيف التقت سيناريوهات هذه المسابقة مع نتائجها المرصودة على الشاشة

خطأ كبير!

بادئ ذي بدء، هناك ملاحظات جوهرية في الأفلام العشرة المرشّـحة في قسمي أفضل سيناريو مكتوب خصيصا للسينما وأفضل سيناريو مقتبس عن عمل مُـنتج أو منشور سابقا.
«قناص أميركي» ينتمي إلى الأعمال المقتبسة كذلك حال «لعبة المحاكاة» (كتابة غراهام مور) و«نظرية كل شيء» (أنطوني مكارتن) و«سوط» (داميان شازل) و«رذيلة متوارثة» (بول توماس أندرسون).
أما مسابقة أفضل سيناريو مكتوب خصيصا فقوامها «بويهود» لرتشارد لينكلاتر و«فوكسكاتشر» (إ. ماكس فراي ودان فوترمان) و«ذا غراند بودابست هوتيل» (وس أندرسون وأوغو غينيس) و«بيردمان» (من وضع أربعة كتّـاب تناوبوا من بينهم المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو (و«سوط» كتابة مخرجه دان غيلروي).
قبل حفلة الأوسكار في الثاني والعشرين من فبراير (شباط)، هناك، في الرابع عشر من الشهر ذاته، جوائز «جمعية كتاب أميركا» المعروفة بـWGA. وهذه تتألّـف كذلك من القسمين المذكورين. وفي قسم السيناريوهات المكتوبة خصيصا نجد أن كل الأفلام الواردة في هذا السباق ترد أيضا في ترشيحات جمعية الكتّـاب باستثناء «بيردمان». بدلا له هناك «سوط» الوارد في سباق أوسكار أفضل فيلم مقتبس.
فهل هو سيناريو مكتوب خصيصا بالنسبة لجمعية الكتاب ومقتبس عند أكاديمية الأوسكار؟ كيف يمكن ذلك؟
قبل محاولة الجواب لا بد من تلخيص الظواهر الرديفة الأخرى: معظم الترشيحات المذكورة في ركب سباق الأوسكار هي ذاتها المرشّـحة لجوائز جمعية الكتاب لكن مع اختلافات محدودة بالنسبة للأفلام المقتبسة:
موجود: «لعبة المحاكاة» و«سوط» و«قناص أميركي».
غائب: «رذيلة متوارثة» و«نظرية كل شيء».
في مكانهما: «فتاة مختفية» التي كتبته جيليان فلين عن روايتها و«حراس المجرة» لجيمس غَـن ونيكولاس برلمان اقتباسا عن رسومات «كوميكس» بنفس الاسم.

لكن ماذا عن «سوط»؟

هذا الفيلم الذي يتناول أستاذ موسيقى جاز يعنّـف شابا منخرطا في مدرسته إلى ما بعد قدرة العازف الشاب على التحمّـل، ليس مقتبسا عن أي عمل آخر بل هو نتيجة قيام المخرج بكتابة السيناريو بنفسه مستوحيا فكرته من كونه كان عضوا في فرقة جاز فعلية. قبل عامين نال السيناريو منحة من مهرجان «صندانس» ساعدت المخرج شازل على إنجازه، لكنه لم يقترب من كتاب منشور ولا هو استوحى مسرحية أو عمل فني آخر.
شازل فوجئ، مثل كثيرين من أبناء المهنة، بغلطة فادحة ارتكبتها الأكاديمية عندما أدخلت الفيلم في مسابقة أفضل سيناريو مقتبس. وعندما تكشّـفت الحقيقة لم تسارع الأكاديمية إلى معالجة الخطأ وبل لم تعلّـق عليه حتى الآن. فالتصويت تم بالفعل والخوف هو أن السيناريوهات المنافسة في هذا القسم من «قناص أميركي» إلى «نظرية كل شيء» و«لعبة المحاكاة» هي أفضل طموحا وأقوى وقعا ما سينشأ عنه، إذا ما لم يفز «سوط» (وهو الأمر المرجّـح) أو فاز مشكلة أخرى: إذا لم يفز احتج الكاتب والمخرج شازل بقوّة وإذا فاز احتجّ بعض المتنافسين الآخرين على أنه لم يكن يجب أن يدخل المسابقة أساسا.

عنف الفرد والسلطة

سيناريو «سوط» مكتوب بحدّة من بدايته: يدخل الأستاذ فلتشر مكانا يتدرّب فيه بضعة أفراد على العزف. أندرو، عازف الطبل، يتوقّـف كذلك الآخرون. الأستاذ يواجهه بالسؤال عما إذا كان يعرفه. أندرو يعرفه… نعم. «هل تدري ما أقوم به؟»: «نعم».
فلتشر: «أنت تعلم أنني أبحث عن لاعبين».
أندرو: «نعم».
فلتشر: «إذن لماذا توقفت عن العزف؟»
عندما يعود أندرو للعزف. يسأله فلتشر: «هل قلت لك أن تبدأ العزف؟».
بداية حادة لفيلم يدور حول عنف سلطوي يمارسه أستاذ على تلميذه. قد يكون أستاذ مدرسة ابتدائية أو قد يكون أستاذا رياضيا. لا يهم. المسألة هي أن السيناريو، صفحة وراء أخرى يتمحور حول عنف الأستاذ وسقوط التلميذ ضحية له. وكل ذلك قد يعكس وضعا رمزيا صريحا حتى مع اعتبار أن كلمة Whiplash (عنوان السيناريو والفيلم وبالعربية هي الإصابة الناتجة عن ضربة السوط) هي أيضا نتيجة مجازية كونها، في الفيلم، اسم الاستوديو الذي تتم فيه الأحداث.
في الصفحات 30 و31 و32 من السيناريو هناك المشهد الذي يصل فيه هذا العنف إلى أقصاه: يسأل الأستاذ تلميذه إذا ما كان يجر الضرب على الطبلة جرّا أو يستعجل. التلميذ يجيب مرّتين، مرّة أنه كان يجر الضرب (يضرب ببطء) ومرّة أنه كان يستعجل الضرب. في كل مرّة يصفعه الأستاذ (على الشاشة تكاد الصفعة تصيبك) ويسأله: وهل صفعتي بطيئة أو مستعجلة؟
بين كل الأفلام العشرة المرشّـحة لمسابقتي الأوسكار في الكتابة هناك فيلم واحد آخر يدور عن العنف ولو من باب وزاوية مختلفين وهو «قنّـاص أميركي». وكلا الفيلمين يتداخل من حيث إدانتهما، ولو على نحو متباعد، لذلك العنف.
بما أن شازل كتب السيناريو بنفسه، سمح لنفسه التدخل على الورق بما هو من خصوصيات المخرج كونه سوف يقوم بإخراجه.
لجانب «قناص أميركي» و«سوط» هناك فيلم آخر يتناول العنف، ومن باب ثالث.
«زاحف الليل» هو أيضا من كتابة مخرجه، لذلك فإن مقارنة الكتابة بالفيلم تفيد نقلا تامّـا ومفصّـلا ومن دون اختلاف يذكر. هو فيلم عن قنّـاص آخر اسمه لو (جيك جيلنهال) لكن مجال قنصه هو الفرص الجنائية. تمهيد السيناريو والفيلم له هو تجارته بمسروقات بسيطة (سياج من الأسلاك الشائكة، أدوات إلخ…). بعد ذلك ينتقل بطلهما إلى تصوير الحوادث العنيفة التي تقع كل يوم: حوادث سير، جرائم، اقتحام منازل وقتل أصحابها وحين لا يكفي ذلك يبدأ بالتدخل في سير التحقيق معيدا ترتيب الجثـث لكي تناسب تصويره. المشهد البارز على الشاشة هو ذلك الذي يصوّر فيه، وهو قنّـاص الفرص الرخيصة ليبيعها بثمن كبير لمحطة تلفزيونية، الشاب ريك الذي كان وظّـفه في عمله. هذا كان يصوّر معه حين سقط برصاصات طائشة. لو لم يهرع إليه منقذا، بل ليصوّره في لحظات حياته الأخيرة.

بلا عمق يذكر

«قناص أميركي» يكاد مرّة أخرى أن يكون المحور كونه سيرة حياة (أوتوبيوغرافي أو بيوغرافي)، وهو ليس الوحيد في هذا الشأن فـ«نظرية كل شيء» هو أيضا سيرة حياة وكذلك «لعبة المحاكاة» و«فوكسكاتشر». والتباين يصب في كل واحد من هذه الأفلام.
سيناريو أنطوني مكارتن لفيلم «نظرية كل شيء» يتّـبع كتابا وضعته زوجة العالم ستيفن هوكينغ، وأسمها جين هوكينغ، بأمانة. المسألة هي أنها صاحبة حقوق النشر والكتاب يؤرخ لوقائع لا يستطيع الكاتب (والمخرج إلى حد) إلا التقيّـد بها. لكن براعة السيناريو هو أنه بدا كما لو كان تأريخا للشخصيّـتين معا عوض أن يكون ملتزما بشخصية الكاتبة وزاويتها للموضوع.
لقاؤهما الأول يتم على الصفحة الخامسة من السيناريو وفي الدقيقة العاشرة من الفيلم تقريبا. ما يتيح للفيلم أن يستنفذ تمهيده لستيفن قبل البدء بذلك اللقاء. أكثر من ذلك يمضيان معا في تحييد جين لمزيد من الوقت قبل أن تصبح شخصية مناصفة للفيلم. لم أقرأ الكتاب بعد لكي أعرف كيف عالجت هي ذلك لأن ما يمكن صياغته على الشاشة أصعب من صياغته على الورق كونها لا تستطيع أن تتحدث، في سيرتها الذاتية هي، عن سيرته الذاتية هو.
بالنسبة لفيلم «لعبة المحاكاة» فإن العمل أكثر تحررا بكل تأكيد. بل تستطيع أن ترى ثقوبا سوداء كتلك التي في الفضاء حولنا، بين ما يمكن أن يكون قد حدث وبين رغبة السيناريو، والفيلم من بعده، دخول مناطق الترفيه عن عمد وعبر استخدام الكثير من أدوات تنميط التصرّفات والمشاعر. وهو ليس سيناريو محدد الوجهة على الإطلاق.
لا يحوي السيناريو، ومثل سواه قرأته كاملا، شيئا يذكر عن المتاهة الفعلية التي حيّـرت خبراء الشيفرات البريطانية والتي تدخل فيها ألان تورينغ (بندكت كمبرباتش) واعدا بحلها واستطاع بعد جهد طويل. في البداية هو عبقري، لكن عبقريته تترنّـح لفترة زمنية كافية لأن يشك بها المشاهد نفسه وليس فقط رؤسائه.

صياغة أكثر كلاسيكية

إذا كان من باب التنميط العاطفي ومسايرة الجمهور العام الابتعاد عن شرح خصائص تلك الشيفرات الصعبة (وهي مذكورة في الكتاب الذي تم اقتباسه على نحو شبه تفصيلي) وجعل المسألة غامضة لذاتها، فإنه من رغباتهما أيضا تقديم شخصية لا تضيف عمليا سوى هامش محدد من التأثير في صلب الأحداث هي شخصية الفتاة جوان كما تؤديها كايرا نايتلي.
ضم كل ذلك إلى الرغبة، على نحو متردد، الحديث عن شذوذ بطله الجنسي في مناطق مختارة قرب النهاية خصوصا (هناك مشاهد استرجاعية توحي بما تم فهمه بحيث لا تعد تعني بعد قليل أي قدر من التأثير) تجد أن المتاهة الحقيقية هي في حسن توجيه الفيلم فإذا به ليس تشويقا جاسوسيا ولا هو سيرة فعلية ولا هو دراما عن المثلية بل نتف من الثلاثة معا.
الحال مع «فوكسكاتشر» أفضل كتابة وهو يصيغ حياة شخصياته جيّـدا. مقتبس عن وقائع لكنها غير منشورة ويتناول، كما سنرى حين الحديث عن إخراج بَـنت ميلر له، كيف أنه لامس المحاذير بنجاح وذكاء وترك عمقا إضافيا للشخصيات الماثلة موحيا بفداحة النهاية من دون أن يضطر للنزول إلى رغبة الجمهور أو إلى أي قدر من التنميط.
طريقة كتابة سيناريو «فوكسكاتشر» مختلفة في تقنيّـتها من «زاحف الليل» و«سوط». السيناريوهان الوارد ذكرهما سابقا مكتوبان بلهفة وبحدّة. «فوكسكاتشر» ينتمي إلى صياغة أكثر كلاسيكية حتى في تفاصيل معالجة كل مشهد على حدة. لا استعجال في الوصول إلى فحوى ولا يوجد، مثل الفيلم، إيحاء بما سيلي حتى عندما تنجلي المشاهد عما يدور في نفسية كل فرد.
في بعض المشاهد، كما الحال على الصفحة 51 من سيناريو فراي وفوترمان، تكمن معرفة كيف اشتغل المخرج على إخراج المشاهد من كنيها الورقي. في المشهد الذي يتصارع فيه جون دو بونت (ستيف كارل) ودّيا مع مارك (شانينغ تاتوم) يقرأ السيناريو كيف تقع تلك المصارعة «الناعمة» (ليست جادّة ودالّـة على رغبات مثلية مكبوتة)، لكن مشاهدة الفيلم هي التي ستتيح التدليل على تلك المشاعر من دون أن تهبط بقيمة إبقائها طي الإيحاء. في مشهد الصفحة المذكورة، نرى الفارق بين ما كُـتب كسرد حركة وحوار وبين الناتج عنه من تلعثم مارك خلال قراءة إحدى الكلمات نظرا لعدم ضلعه بلغته الإنجليزية. المشهد يقترح والمخرج ينفّـذ مع تحسين.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)