الاوسكار.. الخطأ الفادح الذي ارتكبته الأكاديمية

الكلمة الأولى للسيناريو والأخيرة للفيلم الماثل

 «قناص أميركي»: رسالة مضادة
«قناص أميركي»: رسالة مضادة
TT

الاوسكار.. الخطأ الفادح الذي ارتكبته الأكاديمية

 «قناص أميركي»: رسالة مضادة
«قناص أميركي»: رسالة مضادة

كلينت إيستوود لا يحب كتابة السيناريوهات. على أعتاب عرض أحد أفضل أفلامه قاطبة «رسائل إيوا جيما» سنة (2006) قال لهذا الناقد: «لم أحاول. بالنسبة لي هي عملية من الأفضل أن يقوم بها سواي. لا أطيق فعل الكتابة لكني أقدّر السيناريو الجيّـد وأحميه حين التنفيذ». وبالفعل وجدناه مثّـل وأنتج وأخرج وكتب موسيقى 8 أفلام وكتب أغاني 28 فيلم من أعماله، لكنه لم يكتب سيناريو واحدا.
على ذلك أن يحسن معالجة السيناريو الذي وضعه جاسون هول عن كتاب كريس كايل حول حياته كقنّـاص في المارينز الأميركي قام بقتل نحو 160 عراقيا (وقيادته تعتقد أنه قتل أكثر من ذلك)، على هذا النحو الذي يتبدّى حين مشاهدة الفيلم يعكس علاقة المخرج بالمادّة المكتوبة وفهمه الوسيلة لتحريكها من أصولها سواء أكان السيناريو كُـتب خصيصا للشاشة أو أقتبس - كما في حال هذا الفيلم - عن مادة منشورة سابقا.
جاسون هول لم يسبق له أن تعامل مع سيناريو بحجم وأهمية هذا العمل. أفلامه السابقة (ثلاثة) لم يكن من بينها ما يستدعي التوقف وآخرها «بارانويا»: دراما تشويقية طموحة حول موظّـف شاب يقوم رئيس الشركة بإرساله للعمل في شركة منافسة للتجسس عليها.
في الصفحات الأولى من كتاب كريس كايل ترد أولى العبارات العنصرية ضد العراقيين. النعت المفضّـل لذلك القنّـاص الذي وضع ذكرياته بين ضفّـتي الكتاب سنة 2012 قبل سنة وشهر واحد من مقتله على يدي مجنّـد آخر، ليس في حادث عرضي، كما كتب أحد الزملاء، بل نتيجة خلاف مع رفيق سلاح سابق حاول هذا الهرب في سهوب تكساس لكن البوليس طارده وألقى القبض عليه حيث ينتظر المحكمة.
سيناريو جيمس هول واجه من البداية معضلة ما إذا كان عليه أن يتبع الكتاب بحذافيره ووجهة نظره. وهو اختار أن يبقى قريبا من روح العمل وأحسن صنعا بذلك. لكن ما فعله إيستوود في هذا النطاق، هو أنه عرض شيئا وضمر شيئا آخر وببلاغة رائعة. ما عرضه هو أفعال كريس كايل التي تبدو كما لو أن الفيلم يؤيدها تماما. ما ضمره هو إسقاط تلك الهالة البطولية عن هذه الشخصية بالتدريج إلى أن أصبحت عارية إلا من أفعالها. وعند هذه الأفعال ترك الرأي الأخير بالنسبة إلى إذا ما كان كريس بطلا أو وهما للمشاهد.
بما أن كريس كايل لم يتوقع موته فإن كتابه لا ينتهي نهاية الفيلم. والنسخة الأولى من السيناريو أضافت مشهد مقتل كريس وكيف تم تنفيذه. لكن إيستوود قرر أن يُـغيّـب هذه النهاية ويصوّر مقتله خارج الكاميرا مكتفيا بمشهد الدفن. السبب يعود إلى أن حضور الموت قد يؤدي إلى تمجيده بينما تغييبه مع ذكر ما حدث كتابة على الشاشة، يواكب المفهوم الوارد عبر المتابعة من أن من اعتبر بطلا في الحرب مات بالعنف ذاته الذي آمن به (على طريقة «من قتل بالسيف مات به»).
بالنسبة لإيستوود فإن الفيلم هو معاد للحرب. يقول في حفلة توزيع جوائز جمعية المنتجين التي أقيمت في جادة ويلشير بوليفارد في منطقة بيفرلي هيلز أن «أفضل بيان ضد الحرب هو تصوير قسوة نتائجها على العائلات»، وأن هذا ما فعله الفيلم.
هذا صحيح. كريس كان يعود من رحى المعارك جسدا وروحا، ثم جسدا بلا روح، ولاحقا هيكل لا جسد له أو روح. كلما عاد لجولة قتل جديدة وجد نفسه ينتمي إلى تلك الدوامة العنيفة من الحياة وكلما زار زوجته وطفليه كان حضوره، كما تخبره زوجته، أقرب إلى غياب من نوع آخر.
ما الذي صنعه إيستوود مخرجا من كل ذلك سنعود إليه خلال التطرّق إلى سباق المخرجين. لكن في سباق أوسكار السيناريو فإن هناك الكثير مما يمكن الحديث فيه عن كيف التقت سيناريوهات هذه المسابقة مع نتائجها المرصودة على الشاشة

خطأ كبير!

بادئ ذي بدء، هناك ملاحظات جوهرية في الأفلام العشرة المرشّـحة في قسمي أفضل سيناريو مكتوب خصيصا للسينما وأفضل سيناريو مقتبس عن عمل مُـنتج أو منشور سابقا.
«قناص أميركي» ينتمي إلى الأعمال المقتبسة كذلك حال «لعبة المحاكاة» (كتابة غراهام مور) و«نظرية كل شيء» (أنطوني مكارتن) و«سوط» (داميان شازل) و«رذيلة متوارثة» (بول توماس أندرسون).
أما مسابقة أفضل سيناريو مكتوب خصيصا فقوامها «بويهود» لرتشارد لينكلاتر و«فوكسكاتشر» (إ. ماكس فراي ودان فوترمان) و«ذا غراند بودابست هوتيل» (وس أندرسون وأوغو غينيس) و«بيردمان» (من وضع أربعة كتّـاب تناوبوا من بينهم المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو (و«سوط» كتابة مخرجه دان غيلروي).
قبل حفلة الأوسكار في الثاني والعشرين من فبراير (شباط)، هناك، في الرابع عشر من الشهر ذاته، جوائز «جمعية كتاب أميركا» المعروفة بـWGA. وهذه تتألّـف كذلك من القسمين المذكورين. وفي قسم السيناريوهات المكتوبة خصيصا نجد أن كل الأفلام الواردة في هذا السباق ترد أيضا في ترشيحات جمعية الكتّـاب باستثناء «بيردمان». بدلا له هناك «سوط» الوارد في سباق أوسكار أفضل فيلم مقتبس.
فهل هو سيناريو مكتوب خصيصا بالنسبة لجمعية الكتاب ومقتبس عند أكاديمية الأوسكار؟ كيف يمكن ذلك؟
قبل محاولة الجواب لا بد من تلخيص الظواهر الرديفة الأخرى: معظم الترشيحات المذكورة في ركب سباق الأوسكار هي ذاتها المرشّـحة لجوائز جمعية الكتاب لكن مع اختلافات محدودة بالنسبة للأفلام المقتبسة:
موجود: «لعبة المحاكاة» و«سوط» و«قناص أميركي».
غائب: «رذيلة متوارثة» و«نظرية كل شيء».
في مكانهما: «فتاة مختفية» التي كتبته جيليان فلين عن روايتها و«حراس المجرة» لجيمس غَـن ونيكولاس برلمان اقتباسا عن رسومات «كوميكس» بنفس الاسم.

لكن ماذا عن «سوط»؟

هذا الفيلم الذي يتناول أستاذ موسيقى جاز يعنّـف شابا منخرطا في مدرسته إلى ما بعد قدرة العازف الشاب على التحمّـل، ليس مقتبسا عن أي عمل آخر بل هو نتيجة قيام المخرج بكتابة السيناريو بنفسه مستوحيا فكرته من كونه كان عضوا في فرقة جاز فعلية. قبل عامين نال السيناريو منحة من مهرجان «صندانس» ساعدت المخرج شازل على إنجازه، لكنه لم يقترب من كتاب منشور ولا هو استوحى مسرحية أو عمل فني آخر.
شازل فوجئ، مثل كثيرين من أبناء المهنة، بغلطة فادحة ارتكبتها الأكاديمية عندما أدخلت الفيلم في مسابقة أفضل سيناريو مقتبس. وعندما تكشّـفت الحقيقة لم تسارع الأكاديمية إلى معالجة الخطأ وبل لم تعلّـق عليه حتى الآن. فالتصويت تم بالفعل والخوف هو أن السيناريوهات المنافسة في هذا القسم من «قناص أميركي» إلى «نظرية كل شيء» و«لعبة المحاكاة» هي أفضل طموحا وأقوى وقعا ما سينشأ عنه، إذا ما لم يفز «سوط» (وهو الأمر المرجّـح) أو فاز مشكلة أخرى: إذا لم يفز احتج الكاتب والمخرج شازل بقوّة وإذا فاز احتجّ بعض المتنافسين الآخرين على أنه لم يكن يجب أن يدخل المسابقة أساسا.

عنف الفرد والسلطة

سيناريو «سوط» مكتوب بحدّة من بدايته: يدخل الأستاذ فلتشر مكانا يتدرّب فيه بضعة أفراد على العزف. أندرو، عازف الطبل، يتوقّـف كذلك الآخرون. الأستاذ يواجهه بالسؤال عما إذا كان يعرفه. أندرو يعرفه… نعم. «هل تدري ما أقوم به؟»: «نعم».
فلتشر: «أنت تعلم أنني أبحث عن لاعبين».
أندرو: «نعم».
فلتشر: «إذن لماذا توقفت عن العزف؟»
عندما يعود أندرو للعزف. يسأله فلتشر: «هل قلت لك أن تبدأ العزف؟».
بداية حادة لفيلم يدور حول عنف سلطوي يمارسه أستاذ على تلميذه. قد يكون أستاذ مدرسة ابتدائية أو قد يكون أستاذا رياضيا. لا يهم. المسألة هي أن السيناريو، صفحة وراء أخرى يتمحور حول عنف الأستاذ وسقوط التلميذ ضحية له. وكل ذلك قد يعكس وضعا رمزيا صريحا حتى مع اعتبار أن كلمة Whiplash (عنوان السيناريو والفيلم وبالعربية هي الإصابة الناتجة عن ضربة السوط) هي أيضا نتيجة مجازية كونها، في الفيلم، اسم الاستوديو الذي تتم فيه الأحداث.
في الصفحات 30 و31 و32 من السيناريو هناك المشهد الذي يصل فيه هذا العنف إلى أقصاه: يسأل الأستاذ تلميذه إذا ما كان يجر الضرب على الطبلة جرّا أو يستعجل. التلميذ يجيب مرّتين، مرّة أنه كان يجر الضرب (يضرب ببطء) ومرّة أنه كان يستعجل الضرب. في كل مرّة يصفعه الأستاذ (على الشاشة تكاد الصفعة تصيبك) ويسأله: وهل صفعتي بطيئة أو مستعجلة؟
بين كل الأفلام العشرة المرشّـحة لمسابقتي الأوسكار في الكتابة هناك فيلم واحد آخر يدور عن العنف ولو من باب وزاوية مختلفين وهو «قنّـاص أميركي». وكلا الفيلمين يتداخل من حيث إدانتهما، ولو على نحو متباعد، لذلك العنف.
بما أن شازل كتب السيناريو بنفسه، سمح لنفسه التدخل على الورق بما هو من خصوصيات المخرج كونه سوف يقوم بإخراجه.
لجانب «قناص أميركي» و«سوط» هناك فيلم آخر يتناول العنف، ومن باب ثالث.
«زاحف الليل» هو أيضا من كتابة مخرجه، لذلك فإن مقارنة الكتابة بالفيلم تفيد نقلا تامّـا ومفصّـلا ومن دون اختلاف يذكر. هو فيلم عن قنّـاص آخر اسمه لو (جيك جيلنهال) لكن مجال قنصه هو الفرص الجنائية. تمهيد السيناريو والفيلم له هو تجارته بمسروقات بسيطة (سياج من الأسلاك الشائكة، أدوات إلخ…). بعد ذلك ينتقل بطلهما إلى تصوير الحوادث العنيفة التي تقع كل يوم: حوادث سير، جرائم، اقتحام منازل وقتل أصحابها وحين لا يكفي ذلك يبدأ بالتدخل في سير التحقيق معيدا ترتيب الجثـث لكي تناسب تصويره. المشهد البارز على الشاشة هو ذلك الذي يصوّر فيه، وهو قنّـاص الفرص الرخيصة ليبيعها بثمن كبير لمحطة تلفزيونية، الشاب ريك الذي كان وظّـفه في عمله. هذا كان يصوّر معه حين سقط برصاصات طائشة. لو لم يهرع إليه منقذا، بل ليصوّره في لحظات حياته الأخيرة.

بلا عمق يذكر

«قناص أميركي» يكاد مرّة أخرى أن يكون المحور كونه سيرة حياة (أوتوبيوغرافي أو بيوغرافي)، وهو ليس الوحيد في هذا الشأن فـ«نظرية كل شيء» هو أيضا سيرة حياة وكذلك «لعبة المحاكاة» و«فوكسكاتشر». والتباين يصب في كل واحد من هذه الأفلام.
سيناريو أنطوني مكارتن لفيلم «نظرية كل شيء» يتّـبع كتابا وضعته زوجة العالم ستيفن هوكينغ، وأسمها جين هوكينغ، بأمانة. المسألة هي أنها صاحبة حقوق النشر والكتاب يؤرخ لوقائع لا يستطيع الكاتب (والمخرج إلى حد) إلا التقيّـد بها. لكن براعة السيناريو هو أنه بدا كما لو كان تأريخا للشخصيّـتين معا عوض أن يكون ملتزما بشخصية الكاتبة وزاويتها للموضوع.
لقاؤهما الأول يتم على الصفحة الخامسة من السيناريو وفي الدقيقة العاشرة من الفيلم تقريبا. ما يتيح للفيلم أن يستنفذ تمهيده لستيفن قبل البدء بذلك اللقاء. أكثر من ذلك يمضيان معا في تحييد جين لمزيد من الوقت قبل أن تصبح شخصية مناصفة للفيلم. لم أقرأ الكتاب بعد لكي أعرف كيف عالجت هي ذلك لأن ما يمكن صياغته على الشاشة أصعب من صياغته على الورق كونها لا تستطيع أن تتحدث، في سيرتها الذاتية هي، عن سيرته الذاتية هو.
بالنسبة لفيلم «لعبة المحاكاة» فإن العمل أكثر تحررا بكل تأكيد. بل تستطيع أن ترى ثقوبا سوداء كتلك التي في الفضاء حولنا، بين ما يمكن أن يكون قد حدث وبين رغبة السيناريو، والفيلم من بعده، دخول مناطق الترفيه عن عمد وعبر استخدام الكثير من أدوات تنميط التصرّفات والمشاعر. وهو ليس سيناريو محدد الوجهة على الإطلاق.
لا يحوي السيناريو، ومثل سواه قرأته كاملا، شيئا يذكر عن المتاهة الفعلية التي حيّـرت خبراء الشيفرات البريطانية والتي تدخل فيها ألان تورينغ (بندكت كمبرباتش) واعدا بحلها واستطاع بعد جهد طويل. في البداية هو عبقري، لكن عبقريته تترنّـح لفترة زمنية كافية لأن يشك بها المشاهد نفسه وليس فقط رؤسائه.

صياغة أكثر كلاسيكية

إذا كان من باب التنميط العاطفي ومسايرة الجمهور العام الابتعاد عن شرح خصائص تلك الشيفرات الصعبة (وهي مذكورة في الكتاب الذي تم اقتباسه على نحو شبه تفصيلي) وجعل المسألة غامضة لذاتها، فإنه من رغباتهما أيضا تقديم شخصية لا تضيف عمليا سوى هامش محدد من التأثير في صلب الأحداث هي شخصية الفتاة جوان كما تؤديها كايرا نايتلي.
ضم كل ذلك إلى الرغبة، على نحو متردد، الحديث عن شذوذ بطله الجنسي في مناطق مختارة قرب النهاية خصوصا (هناك مشاهد استرجاعية توحي بما تم فهمه بحيث لا تعد تعني بعد قليل أي قدر من التأثير) تجد أن المتاهة الحقيقية هي في حسن توجيه الفيلم فإذا به ليس تشويقا جاسوسيا ولا هو سيرة فعلية ولا هو دراما عن المثلية بل نتف من الثلاثة معا.
الحال مع «فوكسكاتشر» أفضل كتابة وهو يصيغ حياة شخصياته جيّـدا. مقتبس عن وقائع لكنها غير منشورة ويتناول، كما سنرى حين الحديث عن إخراج بَـنت ميلر له، كيف أنه لامس المحاذير بنجاح وذكاء وترك عمقا إضافيا للشخصيات الماثلة موحيا بفداحة النهاية من دون أن يضطر للنزول إلى رغبة الجمهور أو إلى أي قدر من التنميط.
طريقة كتابة سيناريو «فوكسكاتشر» مختلفة في تقنيّـتها من «زاحف الليل» و«سوط». السيناريوهان الوارد ذكرهما سابقا مكتوبان بلهفة وبحدّة. «فوكسكاتشر» ينتمي إلى صياغة أكثر كلاسيكية حتى في تفاصيل معالجة كل مشهد على حدة. لا استعجال في الوصول إلى فحوى ولا يوجد، مثل الفيلم، إيحاء بما سيلي حتى عندما تنجلي المشاهد عما يدور في نفسية كل فرد.
في بعض المشاهد، كما الحال على الصفحة 51 من سيناريو فراي وفوترمان، تكمن معرفة كيف اشتغل المخرج على إخراج المشاهد من كنيها الورقي. في المشهد الذي يتصارع فيه جون دو بونت (ستيف كارل) ودّيا مع مارك (شانينغ تاتوم) يقرأ السيناريو كيف تقع تلك المصارعة «الناعمة» (ليست جادّة ودالّـة على رغبات مثلية مكبوتة)، لكن مشاهدة الفيلم هي التي ستتيح التدليل على تلك المشاعر من دون أن تهبط بقيمة إبقائها طي الإيحاء. في مشهد الصفحة المذكورة، نرى الفارق بين ما كُـتب كسرد حركة وحوار وبين الناتج عنه من تلعثم مارك خلال قراءة إحدى الكلمات نظرا لعدم ضلعه بلغته الإنجليزية. المشهد يقترح والمخرج ينفّـذ مع تحسين.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».