هجرة الكتاب السوري إلى الخارج

نحو ألف دار نشر كانت موجودة في البلاد

دار «البشائر» لم تطبع كتابا واحدا منذ 4 سنوات
دار «البشائر» لم تطبع كتابا واحدا منذ 4 سنوات
TT

هجرة الكتاب السوري إلى الخارج

دار «البشائر» لم تطبع كتابا واحدا منذ 4 سنوات
دار «البشائر» لم تطبع كتابا واحدا منذ 4 سنوات

تُجمع كثير من المصادر المعنية والمتابعة والمهتمة بالشأن الثقافي السوري أن حركة نشر الكتاب التي كانت نشطة قبل الحرب والأزمة السورية المستمرة منذ 4 سنوات أن هناك نحو ألف دار نشر كانت موجودة في سوريا منها 200 دار منتسبة لاتحاد الناشرين السوريين والباقي ما بين مرخص بشكل رسمي أو يعمل دون ترخيص. ومع بداية الأزمة السورية أغلقت المئات من هذه الدور أبوابها وانكفأت عن النشر، خاصة وأن معظم مطابع هذه الدور توجد في مناطق الريف الدمشقي الذي يشهد معارك يومية، فيما هاجر كثير منها خارج سوريا وما بقي منها في الداخل حاول التأقلم مع مفرزات الأزمة لكنه يطبع خارج سوريا ليوزع كتبه في البلدان العربية.
هيثم حافظ رئيس اتحاد الناشرين السوريين وصاحب دار الحافظ للنشر شرح لـ«الشرق الأوسط» وضع الدور حاليا وهجرة الكتاب السوري خارج سوريا قائلا: «بصراحة مهنة دور النشر كانت من أكثر المهن تأثرا بالأزمة على صعيد العمل داخل سوريا، لكن على صعيد الكتاب السوري ما زال الكتاب السوري موجودا وبشكل فاعل في المعارض العربية وفي الأسواق العربية بشكل جيد، فالكتاب السوري يعتبر من أهم الكتب العربية من حيث جودة المحتوى. لكننا عانينا كناشرين سوريين من أن أغلب مطابعنا موجودة في الأماكن الريفية التي شهدت وتشهد معارك يومية. وهذا أثر علينا فهاجرت أغلب دور النشر خارج سوريا. والدول التي احتضنت الناشرين السوريين بشكل كبير هي لبنان ومصر والإمارات العربية المتحدة والجزائر، وهي أمكنة للطباعة وليست ناشرة، أي تطبع فقط كتب الناشر السوري. وأغلب دور النشر أبقت على مكاتبها بدمشق تستقبل الكتاب وتحرر الكتاب وتنظمه وتدققه وتحققه وتجهزه للطباعة الذي يكون خارج سوريا. إن أكثر من 50 في المائة من دور النشر، يؤكد حافظ، ما زالت تعمل بدمشق ولكن هناك تحديات كثيرة أمامها أفرزتها الأزمة ومنها الشحن والتأشيرات. فبعض الدول لا تعطي تأشيرات دخول للناشر السوري للمشاركة في معرض يقام في هذه الدول وبعض الدول لم تدعونا للمشاركة في معارض الكتاب لديها بسبب أن وزارة الداخلية في تلك الدول لم تعد تعطي تأشيرات للسوريين، وهناك مشكلة ارتفاع تكاليف الشحن، ومشكلة ثالثة وهي التنقل في الطائرات، فبعض الناشرين لم يتمكنوا من الوصول إلى مطار بيروت والسفر منه. وكانت هناك خدمة الشحن السريع للكتاب لكنها توقفت تقريبا وكذلك الحال بالنسبة للشحن الجوي.
في شارع 29 أيار وسط العاصمة دمشق، أغلقت دار «المدى»، لصاحبها الكاتب العراقي فخري كريم، الذي كان من أنشط الناشرين، أبوابها، ونقلت نشاطاتها للعاصمة اللبنانية بيروت، فيما ما زالت «دار البشائر»، المجاورة لـ«المدى»، تصارع على البقاء. يقول صاحبها عادل عساف: «أسست الدار قبل 25 سنة وكنت أطبع سنويا 10 كتب ولكن حاليا ومنذ 4 سنوات لم أطبع أي كتاب وأعيش على ما أبيعه في مكتبتي وهو لا يتجاوز الألفي ليرة في اليوم أي بالكاد يكفي مصروف أسرتي المعيشية اليومية».
أما عمار طباع مدير داري «الفيحاء» و«المنهل»، الذي قام ومع بداية الأزمة بطباعة كتبه خارج سوريا وبدأ مؤخرا بالعودة للطباعة بدمشق فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «مع بداية الأزمة انخفضت مطبوعات الدار داخل سوريا نحو 70 في المائة واضطررنا للطباعة خارج سوريا في لبنان وشحنها لمستودعاتنا في دمشق بعد أن نقلناها من الريف. ولكن مع بداية العام الماضي عدنا وبشكل تدريجي للطباعة في دمشق بعد أن استطعنا تأمين مطبعة داخل المدينة لكون منشورات دارنا مطلوبة داخل سوريا. وتتوزع منشوراتنا على ثلاثة أقسام: كتب المدارس والتراث والأطفال والأدب والموسوعات العلمية. ونعتمد حاليا على السوق العراقية التي تستورد الكتاب السوري بشكل كبير خاصة وأن الشحن مؤمن ما بين دمشق وبغداد والنجف وأربيل».
ويقول يزن يعقوب، صاحب دار «صفحات» السورية للنشر، الذي كان من أوائل أصحاب دور النشر الذين هاجروا خارج سوريا بعد الأزمة، ويقيم الآن في دبي ويطبع كتبه هناك، في اتصال معه لـ«الشرق الأوسط»: «مع بدء اشتداد الأزمة في سوريا اتجهت للإمارات وأسست فرعا لداري تحت اسم دار (صفحات للنشر والتوزيع). وباشرت بتوزيع كتب الدار في دولة الإمارات كما شاركت الدار باسم دبي في عدة معارض. ولكن استمرت الدار، في الوقت نفسه، بطبع كتبها في دمشق، فذلك يوفر لنا جهدا كبيرا لنا رغم قسوة الظروف من حيث الطباعة والتخزين والشحن وما زلنا نشارك في أغلب المعارض العربية باسم دار «صفحات سوريا» وما زلنا نتعاون مع دور النشر العراقية حيث تقوم الدار بتنفيذ وطباعة الكتب بدمشق ومن ثم إرسالها للعراق. أي أن دمشق كانت وما زالت الركيزة الأساسية للدار ونشاطنا من دبي ساهم في توزيع كتب الدار بشكل أقوى وخصوصا في دول الخليج».
أما الباحث علي القيم، وهو عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الناشرين السوريين ورئيس اللجنة الثقافية فيه ورئيس تحرير مجلة «المعرفة» التي تصدرها وزارة الثقافة السورية فيقول: «كان الكتاب السوري يحتل الصدارة لأن تكلفته كانت أقل بكثير من تكلفة طباعته في البلدان العربية الأخرى. ولا شك أن ظل الأزمة قد انعكس على صناعة النشر، فهناك كثير من دور النشر هاجرت إلى البلدان العربية، ونتيجة الحصار الاقتصادي تضاعف سعر الورق أكثر من 6 أضعاف مما انعكس سلبا على القيمة الشرائية وعلى الكتاب الذي تضاعف سعره. الأمر الآخر هو أن هناك نوعا من الحصار الجائر على توزيع الكتاب خارج سوريا مما أثر على سوقه وتراجع عدد الكتب المطبوعة، وبالتالي تأثر الكتاب كثيرا بالأزمة، كما أن الكثير من المطابع ودور النشر التي كانت موجودة خارج العاصمة في الريف وفي بعض المحافظات السورية أغلقت بسبب الأزمة أو بسبب السرقة أو التعديات التي تمت على هذه الدور والمطابع وهذا أثر بشكل كبير على حركة الكتاب وعلى نشره، وكذلك انقطاع التيار الكهربائي وارتفاع أسعار المحروقات أثر سلبا على طباعة الكتاب، وهي أحد أسباب هجرة الكتاب خارج سوريا. وهناك أمر آخر وهو انعكاس الأزمة على تفكير الناس وسلوكهم وحركتهم وعلى إبداعاتهم، حيث أثرت سلبا على عملية الإبداع والتأليف والتواصل مع الكتاب وهذا أيضا كان له تأثير سلبي على الكتاب، فمنهم من توقف عن الكتابة أو هاجر إلى بلدان أخرى وبالتالي تأثرت حركة الكتاب في سوريا». كانت دور النشر السورية، يتابع القيم، تطبع قبل الأزمة من الكتب المهمة والمطلوبة نسخا تصل لعشرة آلاف، حاليا أهم كتاب لا يطبع منه أكثر من ألف أو 500 نسخة. وحاليا أهم كتاب سوريا لا تطبع لهم دور النشر الموجودة حاليا في سوريا إلا على حسابه حيث عليه دفع تكلفة الكتاب ليطبعوه له. وفي حالات قليلة من الممكن أن تطبع له دار نشر ما الكتاب مجانا ويعطوه 50 نسخة هدية، أي لا يعطيه أي مكافأة أو تعويض عن تعبه في تأليف الكتاب».
وحسب مصدر مسؤول في الهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة، فضل عدم ذكر اسمه، فإن الهيئة وحدها ما زالت مستمرة بنشاطها ولو أنه خف قليلا في سنوات الأزمة، فعدد العناوين التي أنجزتها الهيئة في عام 2014 تجاوز 130 عنوانا في مختلف المجالات السياسية والأدبية والتراثية وكتاب الطفل وإذا قسمنا هذا الرقم على عدد أشهر السنة يعني هناك 12 كتابا شهريا أي كتاب كل يومين، وهذا الرقم في ظل أزمة خانقة تعيشها البلاد أمر جيد، حسب قوله.
وما زالت الهيئة تعطي مكافأة النشر للكاتب والمؤلف ولو أن التسعيرة ظلت كما هي منذ 30 سنة!



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.