«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

تاريخ من المصالح والتجاذبات والغيوم اقترنت دائمًا بـ«الاشتراكيين»

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية
TT

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

بعد أقل من شهر سيكون قد مر عام كامل على توتر العلاقة بين المغرب وفرنسا، بسبب حادث مثير وقع شتاء العام الماضي في باريس، وتوقع كثيرون آنذاك أن يكون مجرد سحابة صيف عابرة عكرت صفو العلاقة بين البلدين، بيد أن السحابة تحولت إلى غيوم كثيفة أمطرت سلسلة حوادث أخرى أثارت استياء الرباط ضد حليفها التاريخي والاستراتيجي.
قبل أسابيع قاطع صلاح الدين مزوار، وزير خارجية المغرب، المسيرة الكبرى التي نظمت بباريس تنديدا بالعملية الإرهابية التي تعرضت لها صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة على خلفية نشرها رسوما مسيئة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، واكتفى بتقديم التعازي للرئيس الفرنسي الاشتراكي فرنسوا هولاند، ولم يكن هذا الموقف سوى مؤشر على استمرار تأزم العلاقة بين البلدين.
وعندما كانت فرنسا بصدد استيعاب الضربة القاسية التي تعرضت لها في قلب عاصمتها تعالت أصوات تطالب بأن تسارع باريس إلى إعادة التعاون الأمني بينها وبين الرباط إلى سابق عهده، فظهرت بوادر انفراج في العلاقة بين البلدين لا سيما بعدما أعلن وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس اعتزامه زيارة المغرب، ثم صرح بعده وزير الخارجية المغربي بأنه سيزور باريس «للوقوف على مختلف أوجه تعاوننا الثنائي، وذلك في السياق الخاص والأليم الذي تجتازه فرنسا»، موضحا أن «الزيارة تعكس، مرة أخرى، الإرادة الراسخة والصادقة للمملكة المغربية لتجاوز كل العوائق التي يمكن أن تعرقل التعاون التام بين البلدين وذلك بشكل نهائي ودائم».
مصدر دبلوماسي مطلع قال لـ«الشرق الأوسط» إن تقديم الرباط لمعلومات أمنية قيمة عن المتورطين في مجزرة «شارلي إيبدو» أسهم في هذه الدينامية الجديدة، لكنه وبشكل مفاجئ ألغيت الزيارة التي كانت مقررة يوم الجمعة ما قبل الماضي. وردت باريس بلغة دبلوماسية على لسان رومان نادال، المتحدث باسم خارجيتها، بأنها «تبحث مع المغرب موعدا جديدا للزيارة، وأن مزوار موضع ترحيب».
وتزامن إلغاء الزيارة مع صدور تقارير إعلامية تتحدث عن أن المغرب طلب من فرنسا منح الحصانة لمسؤوليه من المتابعة القضائية على أراضيها، بيد أن شكيب بن موسى، سفير المغرب في باريس، نفى ذلك.
وتعود فصول الحادث الأول الذي فجر الأزمة بين البلدين إلى 20 فبراير (شباط) من العام الماضي، عندما وجه قاضي تحقيق فرنسي استدعاء إلى عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للمخابرات الداخلية المغربية، خلال مشاركته في الفترة نفسها في مؤتمر أمني إقليمي بفرنسا، قصد الاستماع إليه بشأن شكوى رفعها ضده عادل مطالسي، وهو مواطن فرنسي من أصل مغربي، لدى المحكمة الابتدائية الكبرى بباريس، واتهمه فيها بتعذيبه إبان اعتقاله في المغرب لتورطه في الاتجار في المخدرات. ثم بعدها رفع ملاكم مغربي اسمه زكريا مومني شكوى مماثلة.
واحتج المغرب بشدة آنذاك على الطريقة التي جرى بها تبليغ الاستدعاء للمسؤول الأمني المغربي عبر إرسال فريق أمني خاص إلى مقر إقامة السفير المغربي في باريس، وعدته الرباط «حادثا خطيرا وغير مسبوق»، ومنافيا لقواعد الدبلوماسية المعمول بها. وجرى على أثر ذلك استدعاء شارل فري، السفير الفرنسي في الرباط، كما علق المغرب العمل باتفاقية التعاون القضائي بين البلدين.
أما الحادث الثاني فوقع بعد نحو شهر من الحادث الأول، حيث تعرض وزير الخارجية المغربي لتفتيش مهين في مطار رواسي - شارل ديغول بباريس، رغم إدلائه بوثائق سفره الدبلوماسية.
ثم عادت الغيوم لتتلبد من جديد في سماء العلاقات المغربية - الفرنسية، في ثالث أزمة دبلوماسية بين البلدين، وذلك عقب الزيارة التي قام بها الضابط المغربي السابق مصطفى أديب، وهو معارض مقيم بفرنسا، في 20 يونيو (حزيران)، للجنرال عبد العزيز بناني، المفتش العام للقوات المسلحة الملكية السابق، في غرفته بأحد مستشفيات العاصمة الفرنسية حيث كان يتلقى العلاج، والتي كال له خلالها الشتائم والإهانات، وهو ما فتح باب التساؤلات بشأن من سمح للضابط المذكور بالدخول إلى مستشفى «فال دو غراس» العسكري في باريس، المشهور بخضوعه لإجراءات أمنية مشددة نظرا لأهمية الشخصيات التي يستقبلها. وأعلنت السلطات الفرنسية أنها ستفتح تحقيقا على الفور تحت إشراف وزارة الدفاع.
وخلف الحادث استياء كبيرا في المغرب، حيث وصف بـ«السلوك الاستفزازي» و«الاعتداء المعنوي السافر»، فيما استدعى محمد ياسين المنصوري، المدير العام للدراسات والمستندات (المخابرات العسكرية الخارجية) السفير الفرنسي في الرباط. وعد استدعاء المنصوري للسفير الفرنسي سابقة من نوعها، وإشارة إلى درجة غضب أعلى سلطات البلاد مما تعرض له الجنرال بناني.
فمن يقف وراء هذه الحوادث؟
يجيب الدكتور الحسان بوقنطار، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط، قائلا إن «الحوادث التي تعرض لها المسؤولون المغاربة تؤكد وجود لوبي لا يريد أن تبقى العلاقات المغربية - الفرنسية في المستوى الذي كانت عليه، لذلك فهو يسعى لإحباط كل محاولة إلى إعادة العلاقات إلى سكتها القديمة». وأضاف بوقنطار لـ«الشرق الأوسط» أن تلك الحوادث أزعجت المسؤولين المغاربة لأنها تضرب في الصميم علاقة بلدين ذات سيادة، كما تضرب مبدأ الاحترام المتبادل والاتفاقيات المبرمة بين الدولتين وكذا الاتفاقيات الدولية التي تنظم التعامل مع المسؤولين.
وبشأن ما قيل عن طلب المغرب منح الحصانة لمسؤوليه، قال بوقنطار إن المغرب لا يمكن أن يسمح لنفسه بهذا الطلب، وكأنه دولة خارج القانون، فالمغرب له محاكمه المختصة في النظر في جميع الدعاوى، وبالتالي طلب الحصانة يعني أن بإمكان المسؤولين ارتكاب الخروقات والإفلات من العقاب، بينما نص الدستور الجديد على مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
وزاد قائلا «لا أتصور أن مسؤولا مغربيا يطلب الحصانة لنفسه، لأنها ستعد بمثابة ضوء أخضر ليفعل ما يريد»، مشيرا إلى أن إثارة هذا الموضوع تشويش على المغرب من قبل اللوبيات التي تسعى لتخريب العلاقات المتميزة بين البلدين، لافتا في المقابل إلى أنه لا يمكن لدولة أن تسمح لقضاء أجنبي بأن يحل محل قضائها الوطني. وذكر بوقنطار أنه «إذا كانت الاتفاقيات القضائية بين البلدين قاصرة ومحتاجة إلى إعادة النظر فينبغي أن يجري ذلك من خلال الآليات الدبلوماسية». وعد تفتيش وزير الخارجية المغربي في مطار باريس «خرقا واضحا لمعاهدة دولية، كما أن القضاء الفرنسي لا يمكن أن يسمح لنفسه بتجاوز الأعراف الدبلوماسية».
خلال زيارته الأولى إلى الرباط بعد انتخابه رئيسا لفرنسا حرص فرنسوا هولاند على التأكيد على موقف بلاده من نزاع الصحراء، وقال في خطاب ألقاه أمام البرلمان المغربي في 4 أبريل (نيسان) 2013، إن «مشروع الحكم الذاتي الموسع المقترح من طرف المغرب في 2007 هو قاعدة ومنطلق جدي وذو مصداقية في أفق حل متفاوض عليه». وأضاف «أقول هنا أمامكم إن هذا المقترح يعد أساسا جديا وذا مصداقية من أجل التوصل إلى حل متفاوض بشأنه لقضية الصحراء». وظل المغرب يعد فرنسا مساندا رئيسيا له في هذا النزاع، إلا أن الأزمة الحالية جعلت بعض المراقبين يعتقدون أن هناك تقاربا فرنسيا - جزائريا أزعج الرباط. لكن إدريس بلماحي، المحلل السياسي، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الموقف الفرنسي بشأن نزاع الصحراء لم يتغير، ظاهريا على الأقل، مشيرا إلى أن العلاقات المغربية - الفرنسية مرت بعدة هزات منذ مرحلة الاستعمار حتى اليوم، لكن سرعان ما كانت تعود إلى وضعها الطبيعي لأن مصالح البلدين أقوى»، وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه بوقنطار، وقال إن «المغرب لا يمكنه التحكم في العلاقة بين دولتين ذواتي سيادة، بأن يطلب من فرنسا ألا تكون لها علاقة مع الجزائر»، وعد ذلك «طرحا غير معقول لأن لفرنسا مصالحها والمغرب كذلك».
ومرت علاقة المغرب بفرنسا بفترات عصيبة إبان العقود الماضية، كان أبرزها في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، الذي وصل إلى الإليزيه عام 1981، والذي اتخذ من ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والموقف من نزاع الصحراء سلاحا يواجه به الملك الراحل الحسن الثاني إبان فترة الاحتقان السياسي التي كانت تعيشها البلاد آنذاك. وكانت دانيال ميتران، زوجة الرئيس الفرنسي، من مؤيدي جبهة البوليساريو الانفصالية، فهل قدر المغرب أن تتوتر علاقته بفرنسا كلما وصل اليساريون إلى الحكم إلى قصر الإليزيه.. وتعيش أزهى أيامها في ظل رؤساء من اليمين، مثل جاك شيراك الذي يعد من أبرز أصدقاء العائلة الملكية، وبعده نيكولا ساركوزي؟
وقلل محمد كرين، المحلل السياسي والاقتصادي المغربي، من أهمية هذا الأمر، وقال إنه «ربما تصادف تصاعد التوتر في العلاقات المغربية - الفرنسية مع وجود الاشتراكيين في سدة الحكم في فرنسا، إلا أن هذا الأمر لا يشكل، برأيي، العنصر الحاسم في العلاقات بين البلدين لأنها أعمق بكثير من أن يؤثر فيها بشكل حاسم وصول هذا الطرف أو ذاك إلى الحكم في فرنسا».
وأوضح كرين أن «التوتر الحاصل في العلاقات المغربية - الفرنسية بغض النظر عن الأحداث الطارئة التي قد تؤجج هذا التوتر، يعبر في العمق عن أزمة حقيقية مردها إلى كون العلاقات بين البلدين جرى نسجها في القرن الماضي على أساس معطيات تغيرت اليوم ولم تعد تقبل بهذا النوع من العلاقات». فالمحيط الدولي والإقليمي، يضيف كرين، تغير، وكذلك الوزن الجيو - استراتيجي للبلدين والأوضاع المؤسساتية والداخلية في كل منهما، بالإضافة إلى المعطيات الاقتصادية والاجتماعية. وكل هذه العوامل أصبحت، بنظره «تتطلب إعادة بناء العلاقات بين المغرب وفرنسا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات على جميع المستويات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والسياسية والأمنية».
وكان وزير الخارجية المغربي قد قال أخيرا في مقابلة صحافية إن «زمن الوصاية الفرنسية على المغرب قد ولى»، وهي تصريحات تعزز ما ذهب إليه كرين، كما أن مزوار، وفي محاولة لتفسير القصد من وراء الحوادث المسيئة للمسؤولين المغاربة، صرح بأن باريس لا تنظر بعين الرضا إلى تمدد المغرب اقتصاديا في أفريقيا.
وفي هذا السياق، أوضح كرين أن تمدد المغرب في أفريقيا أصبح يتزايد منذ عقد من الزمن، وأصبحت المقاولات المغربية تأخذ مكانة أكبر فأكبر بالقارة السمراء جنوب الصحراء، لا سيما في بعض القطاعات التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية، مشيرا في هذا الصدد إلى أن البنوك المغربية تجاوزت البنوك الفرنسية في منطقة غرب أفريقيا. وأضاف أن هذه المعطيات لا تلغي أن يصبح وجود المغرب وفرنسا في القارة الأفريقية متكاملا وينتفع به البلدان وقطاعاتهما الاقتصادية والمالية والتجارية، وذلك عبر تطوير وتنمية الشراكات بين المقاولات في البلدين باعتماد مبدأ التوطين المشترك الذي قد يتجاوز البلدين ليصبح مثلثا يضم بلدانا أفريقية أخرى لا سيما في القطاعات التي أصبحت تشكل المهن الجديدة بالعالم مثل الصناعة الكيميائية والصناعات الحديدية والميكانيكية والإلكتروميكانيكية وقطاع الأدوية وغيرها.
وأعطى كرين مثالا على ذلك بمعمل «رونو» في طنجة الذي يشكل، برأيه، نموذجا ناجحا للشراكة المربحة لجميع الأطراف.
وفي غضون ذلك، توقع الباحث السياسي إدريس بلماحي أن تنتصر المصلحة العليا للطرفين في النهاية ويتجاوز البلدان هذه الأزمة، لأن التوتر الحاصل لا يصب في مصلحة البلدين لا على المستويات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية. ولفت إلى أنه كلما كانت العلاقة جيدة ما بين دولتين فإنها تنعكس إيجابا على التعاون الاستخباراتي. وأكد أن من مصلحة فرنسا أن يكون لديها تعاون كبير مع المغرب في المجال الاستخباراتي والأمني لمواجهة الإرهاب، من دون إغفال أن المغرب نفسه يعاني من مخاطر الإرهاب.
الموقف نفسه عبرت عنه كريستين توبيرا، وزيرة العدل الفرنسية، في تصريحات أدلت بها للقناة التلفزيونية المغربية الثانية، الأحد الماضي، خلال حضورها لقاء ثقافيا بالمعهد العربي بباريس الذي يحتضن معرض «المغرب المعاصر»، حيث أقرت المسؤولة الحكومية بأنه «على المستوى السياسي الأمور معقدة نتيجة الحادث الذي وقع العام الماضي، لكن أعتقد أنه ما دامت هناك مصالح مشتركة بين البلدين على مستوى محاربة الإرهاب، وأيضا من أجل حماية المواطنين الفرنسيين والمغاربة، وما يتطلبه ذلك من تعاون قضائي، فإن الأمور ستتحسن».
وكانت تصريحات سابقة لتوبيرا قد أسهمت في تأجيج الخلاف بين البلدين عندما انتقدت في حفل تكريم أحد رسامي صحيفة «شارلي إيبدو» تقييد حرية التعبير في المغرب، وقالت إنه لا يسمح برسم كاريكاتير للملك محمد السادس.
أما كرين فأكد على أن الجانب الاقتصادي سيلعب دورا كبيرا في إعادة الأمور إلى نصابها وبناء علاقات من طراز جديد بين البلدين. وأضاف أن مستوى المبادلات التجارية بين البلدين يصل إلى 10 مليارات دولار، وفرنسا تبقى من أكبر المستثمرين الأجانب في المغرب، وهناك نحو 750 شركة فرنسية تشغل نحو 120 ألف عامل، كما أن أكبر جالية فرنسية في أفريقيا توجد في المغرب، وفرنسا هي أكبر مصدر للسياح بالنسبة للمغرب.
قد تكون الأزمة الحالية بمثابة نقمة في طيها نعمة إذا ما استغلها الطرفان لإعادة بناء علاقتهما على أسس جديدة، فعلى فرنسا - يقول كرين - أن «تتكيف مع الواقع الجديد بالمغرب الذي يتطور باستمرار معتمدة على مقارنة مبنية على التجديد والابتكار في إعادة نسج علاقاتها مع المغرب، كما أن من مصلحة فرنسا والمغرب أن تعتمد باريس على مقاربة جديدة على مستوى الشراكة الاقتصادية، وأن تتوجه أكثر إلى القطاعات الاستراتيجية لتطور المغرب، مثل النقل العمومي العصري والمدن الخضراء والصناعات الفلاحية الصناعية والطاقات المتجددة، في إطار تكامل وتعاون مثمر بين البلدين مع شركائهما التقليديين، لا سيما في القارة الأفريقية، وكسب جزء من الأسواق الأخرى كالشرق الأوسط». فمعمل تصنيع السيارات «رونو» بطنجة، يوضح كرين «جعل الشركة الفرنسية تستعيد عافيتها التجارية والمالية، وجعل المغرب ينوع صادراته، حيث أصبح قطاع السيارات أكبر مصدر بالمغرب قبل القطاعات التقليدية المتمثلة في الفوسفات والمواد الفلاحية».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.