«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

تاريخ من المصالح والتجاذبات والغيوم اقترنت دائمًا بـ«الاشتراكيين»

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية
TT

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

بعد أقل من شهر سيكون قد مر عام كامل على توتر العلاقة بين المغرب وفرنسا، بسبب حادث مثير وقع شتاء العام الماضي في باريس، وتوقع كثيرون آنذاك أن يكون مجرد سحابة صيف عابرة عكرت صفو العلاقة بين البلدين، بيد أن السحابة تحولت إلى غيوم كثيفة أمطرت سلسلة حوادث أخرى أثارت استياء الرباط ضد حليفها التاريخي والاستراتيجي.
قبل أسابيع قاطع صلاح الدين مزوار، وزير خارجية المغرب، المسيرة الكبرى التي نظمت بباريس تنديدا بالعملية الإرهابية التي تعرضت لها صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة على خلفية نشرها رسوما مسيئة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، واكتفى بتقديم التعازي للرئيس الفرنسي الاشتراكي فرنسوا هولاند، ولم يكن هذا الموقف سوى مؤشر على استمرار تأزم العلاقة بين البلدين.
وعندما كانت فرنسا بصدد استيعاب الضربة القاسية التي تعرضت لها في قلب عاصمتها تعالت أصوات تطالب بأن تسارع باريس إلى إعادة التعاون الأمني بينها وبين الرباط إلى سابق عهده، فظهرت بوادر انفراج في العلاقة بين البلدين لا سيما بعدما أعلن وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس اعتزامه زيارة المغرب، ثم صرح بعده وزير الخارجية المغربي بأنه سيزور باريس «للوقوف على مختلف أوجه تعاوننا الثنائي، وذلك في السياق الخاص والأليم الذي تجتازه فرنسا»، موضحا أن «الزيارة تعكس، مرة أخرى، الإرادة الراسخة والصادقة للمملكة المغربية لتجاوز كل العوائق التي يمكن أن تعرقل التعاون التام بين البلدين وذلك بشكل نهائي ودائم».
مصدر دبلوماسي مطلع قال لـ«الشرق الأوسط» إن تقديم الرباط لمعلومات أمنية قيمة عن المتورطين في مجزرة «شارلي إيبدو» أسهم في هذه الدينامية الجديدة، لكنه وبشكل مفاجئ ألغيت الزيارة التي كانت مقررة يوم الجمعة ما قبل الماضي. وردت باريس بلغة دبلوماسية على لسان رومان نادال، المتحدث باسم خارجيتها، بأنها «تبحث مع المغرب موعدا جديدا للزيارة، وأن مزوار موضع ترحيب».
وتزامن إلغاء الزيارة مع صدور تقارير إعلامية تتحدث عن أن المغرب طلب من فرنسا منح الحصانة لمسؤوليه من المتابعة القضائية على أراضيها، بيد أن شكيب بن موسى، سفير المغرب في باريس، نفى ذلك.
وتعود فصول الحادث الأول الذي فجر الأزمة بين البلدين إلى 20 فبراير (شباط) من العام الماضي، عندما وجه قاضي تحقيق فرنسي استدعاء إلى عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للمخابرات الداخلية المغربية، خلال مشاركته في الفترة نفسها في مؤتمر أمني إقليمي بفرنسا، قصد الاستماع إليه بشأن شكوى رفعها ضده عادل مطالسي، وهو مواطن فرنسي من أصل مغربي، لدى المحكمة الابتدائية الكبرى بباريس، واتهمه فيها بتعذيبه إبان اعتقاله في المغرب لتورطه في الاتجار في المخدرات. ثم بعدها رفع ملاكم مغربي اسمه زكريا مومني شكوى مماثلة.
واحتج المغرب بشدة آنذاك على الطريقة التي جرى بها تبليغ الاستدعاء للمسؤول الأمني المغربي عبر إرسال فريق أمني خاص إلى مقر إقامة السفير المغربي في باريس، وعدته الرباط «حادثا خطيرا وغير مسبوق»، ومنافيا لقواعد الدبلوماسية المعمول بها. وجرى على أثر ذلك استدعاء شارل فري، السفير الفرنسي في الرباط، كما علق المغرب العمل باتفاقية التعاون القضائي بين البلدين.
أما الحادث الثاني فوقع بعد نحو شهر من الحادث الأول، حيث تعرض وزير الخارجية المغربي لتفتيش مهين في مطار رواسي - شارل ديغول بباريس، رغم إدلائه بوثائق سفره الدبلوماسية.
ثم عادت الغيوم لتتلبد من جديد في سماء العلاقات المغربية - الفرنسية، في ثالث أزمة دبلوماسية بين البلدين، وذلك عقب الزيارة التي قام بها الضابط المغربي السابق مصطفى أديب، وهو معارض مقيم بفرنسا، في 20 يونيو (حزيران)، للجنرال عبد العزيز بناني، المفتش العام للقوات المسلحة الملكية السابق، في غرفته بأحد مستشفيات العاصمة الفرنسية حيث كان يتلقى العلاج، والتي كال له خلالها الشتائم والإهانات، وهو ما فتح باب التساؤلات بشأن من سمح للضابط المذكور بالدخول إلى مستشفى «فال دو غراس» العسكري في باريس، المشهور بخضوعه لإجراءات أمنية مشددة نظرا لأهمية الشخصيات التي يستقبلها. وأعلنت السلطات الفرنسية أنها ستفتح تحقيقا على الفور تحت إشراف وزارة الدفاع.
وخلف الحادث استياء كبيرا في المغرب، حيث وصف بـ«السلوك الاستفزازي» و«الاعتداء المعنوي السافر»، فيما استدعى محمد ياسين المنصوري، المدير العام للدراسات والمستندات (المخابرات العسكرية الخارجية) السفير الفرنسي في الرباط. وعد استدعاء المنصوري للسفير الفرنسي سابقة من نوعها، وإشارة إلى درجة غضب أعلى سلطات البلاد مما تعرض له الجنرال بناني.
فمن يقف وراء هذه الحوادث؟
يجيب الدكتور الحسان بوقنطار، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط، قائلا إن «الحوادث التي تعرض لها المسؤولون المغاربة تؤكد وجود لوبي لا يريد أن تبقى العلاقات المغربية - الفرنسية في المستوى الذي كانت عليه، لذلك فهو يسعى لإحباط كل محاولة إلى إعادة العلاقات إلى سكتها القديمة». وأضاف بوقنطار لـ«الشرق الأوسط» أن تلك الحوادث أزعجت المسؤولين المغاربة لأنها تضرب في الصميم علاقة بلدين ذات سيادة، كما تضرب مبدأ الاحترام المتبادل والاتفاقيات المبرمة بين الدولتين وكذا الاتفاقيات الدولية التي تنظم التعامل مع المسؤولين.
وبشأن ما قيل عن طلب المغرب منح الحصانة لمسؤوليه، قال بوقنطار إن المغرب لا يمكن أن يسمح لنفسه بهذا الطلب، وكأنه دولة خارج القانون، فالمغرب له محاكمه المختصة في النظر في جميع الدعاوى، وبالتالي طلب الحصانة يعني أن بإمكان المسؤولين ارتكاب الخروقات والإفلات من العقاب، بينما نص الدستور الجديد على مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
وزاد قائلا «لا أتصور أن مسؤولا مغربيا يطلب الحصانة لنفسه، لأنها ستعد بمثابة ضوء أخضر ليفعل ما يريد»، مشيرا إلى أن إثارة هذا الموضوع تشويش على المغرب من قبل اللوبيات التي تسعى لتخريب العلاقات المتميزة بين البلدين، لافتا في المقابل إلى أنه لا يمكن لدولة أن تسمح لقضاء أجنبي بأن يحل محل قضائها الوطني. وذكر بوقنطار أنه «إذا كانت الاتفاقيات القضائية بين البلدين قاصرة ومحتاجة إلى إعادة النظر فينبغي أن يجري ذلك من خلال الآليات الدبلوماسية». وعد تفتيش وزير الخارجية المغربي في مطار باريس «خرقا واضحا لمعاهدة دولية، كما أن القضاء الفرنسي لا يمكن أن يسمح لنفسه بتجاوز الأعراف الدبلوماسية».
خلال زيارته الأولى إلى الرباط بعد انتخابه رئيسا لفرنسا حرص فرنسوا هولاند على التأكيد على موقف بلاده من نزاع الصحراء، وقال في خطاب ألقاه أمام البرلمان المغربي في 4 أبريل (نيسان) 2013، إن «مشروع الحكم الذاتي الموسع المقترح من طرف المغرب في 2007 هو قاعدة ومنطلق جدي وذو مصداقية في أفق حل متفاوض عليه». وأضاف «أقول هنا أمامكم إن هذا المقترح يعد أساسا جديا وذا مصداقية من أجل التوصل إلى حل متفاوض بشأنه لقضية الصحراء». وظل المغرب يعد فرنسا مساندا رئيسيا له في هذا النزاع، إلا أن الأزمة الحالية جعلت بعض المراقبين يعتقدون أن هناك تقاربا فرنسيا - جزائريا أزعج الرباط. لكن إدريس بلماحي، المحلل السياسي، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الموقف الفرنسي بشأن نزاع الصحراء لم يتغير، ظاهريا على الأقل، مشيرا إلى أن العلاقات المغربية - الفرنسية مرت بعدة هزات منذ مرحلة الاستعمار حتى اليوم، لكن سرعان ما كانت تعود إلى وضعها الطبيعي لأن مصالح البلدين أقوى»، وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه بوقنطار، وقال إن «المغرب لا يمكنه التحكم في العلاقة بين دولتين ذواتي سيادة، بأن يطلب من فرنسا ألا تكون لها علاقة مع الجزائر»، وعد ذلك «طرحا غير معقول لأن لفرنسا مصالحها والمغرب كذلك».
ومرت علاقة المغرب بفرنسا بفترات عصيبة إبان العقود الماضية، كان أبرزها في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، الذي وصل إلى الإليزيه عام 1981، والذي اتخذ من ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والموقف من نزاع الصحراء سلاحا يواجه به الملك الراحل الحسن الثاني إبان فترة الاحتقان السياسي التي كانت تعيشها البلاد آنذاك. وكانت دانيال ميتران، زوجة الرئيس الفرنسي، من مؤيدي جبهة البوليساريو الانفصالية، فهل قدر المغرب أن تتوتر علاقته بفرنسا كلما وصل اليساريون إلى الحكم إلى قصر الإليزيه.. وتعيش أزهى أيامها في ظل رؤساء من اليمين، مثل جاك شيراك الذي يعد من أبرز أصدقاء العائلة الملكية، وبعده نيكولا ساركوزي؟
وقلل محمد كرين، المحلل السياسي والاقتصادي المغربي، من أهمية هذا الأمر، وقال إنه «ربما تصادف تصاعد التوتر في العلاقات المغربية - الفرنسية مع وجود الاشتراكيين في سدة الحكم في فرنسا، إلا أن هذا الأمر لا يشكل، برأيي، العنصر الحاسم في العلاقات بين البلدين لأنها أعمق بكثير من أن يؤثر فيها بشكل حاسم وصول هذا الطرف أو ذاك إلى الحكم في فرنسا».
وأوضح كرين أن «التوتر الحاصل في العلاقات المغربية - الفرنسية بغض النظر عن الأحداث الطارئة التي قد تؤجج هذا التوتر، يعبر في العمق عن أزمة حقيقية مردها إلى كون العلاقات بين البلدين جرى نسجها في القرن الماضي على أساس معطيات تغيرت اليوم ولم تعد تقبل بهذا النوع من العلاقات». فالمحيط الدولي والإقليمي، يضيف كرين، تغير، وكذلك الوزن الجيو - استراتيجي للبلدين والأوضاع المؤسساتية والداخلية في كل منهما، بالإضافة إلى المعطيات الاقتصادية والاجتماعية. وكل هذه العوامل أصبحت، بنظره «تتطلب إعادة بناء العلاقات بين المغرب وفرنسا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات على جميع المستويات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والسياسية والأمنية».
وكان وزير الخارجية المغربي قد قال أخيرا في مقابلة صحافية إن «زمن الوصاية الفرنسية على المغرب قد ولى»، وهي تصريحات تعزز ما ذهب إليه كرين، كما أن مزوار، وفي محاولة لتفسير القصد من وراء الحوادث المسيئة للمسؤولين المغاربة، صرح بأن باريس لا تنظر بعين الرضا إلى تمدد المغرب اقتصاديا في أفريقيا.
وفي هذا السياق، أوضح كرين أن تمدد المغرب في أفريقيا أصبح يتزايد منذ عقد من الزمن، وأصبحت المقاولات المغربية تأخذ مكانة أكبر فأكبر بالقارة السمراء جنوب الصحراء، لا سيما في بعض القطاعات التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية، مشيرا في هذا الصدد إلى أن البنوك المغربية تجاوزت البنوك الفرنسية في منطقة غرب أفريقيا. وأضاف أن هذه المعطيات لا تلغي أن يصبح وجود المغرب وفرنسا في القارة الأفريقية متكاملا وينتفع به البلدان وقطاعاتهما الاقتصادية والمالية والتجارية، وذلك عبر تطوير وتنمية الشراكات بين المقاولات في البلدين باعتماد مبدأ التوطين المشترك الذي قد يتجاوز البلدين ليصبح مثلثا يضم بلدانا أفريقية أخرى لا سيما في القطاعات التي أصبحت تشكل المهن الجديدة بالعالم مثل الصناعة الكيميائية والصناعات الحديدية والميكانيكية والإلكتروميكانيكية وقطاع الأدوية وغيرها.
وأعطى كرين مثالا على ذلك بمعمل «رونو» في طنجة الذي يشكل، برأيه، نموذجا ناجحا للشراكة المربحة لجميع الأطراف.
وفي غضون ذلك، توقع الباحث السياسي إدريس بلماحي أن تنتصر المصلحة العليا للطرفين في النهاية ويتجاوز البلدان هذه الأزمة، لأن التوتر الحاصل لا يصب في مصلحة البلدين لا على المستويات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية. ولفت إلى أنه كلما كانت العلاقة جيدة ما بين دولتين فإنها تنعكس إيجابا على التعاون الاستخباراتي. وأكد أن من مصلحة فرنسا أن يكون لديها تعاون كبير مع المغرب في المجال الاستخباراتي والأمني لمواجهة الإرهاب، من دون إغفال أن المغرب نفسه يعاني من مخاطر الإرهاب.
الموقف نفسه عبرت عنه كريستين توبيرا، وزيرة العدل الفرنسية، في تصريحات أدلت بها للقناة التلفزيونية المغربية الثانية، الأحد الماضي، خلال حضورها لقاء ثقافيا بالمعهد العربي بباريس الذي يحتضن معرض «المغرب المعاصر»، حيث أقرت المسؤولة الحكومية بأنه «على المستوى السياسي الأمور معقدة نتيجة الحادث الذي وقع العام الماضي، لكن أعتقد أنه ما دامت هناك مصالح مشتركة بين البلدين على مستوى محاربة الإرهاب، وأيضا من أجل حماية المواطنين الفرنسيين والمغاربة، وما يتطلبه ذلك من تعاون قضائي، فإن الأمور ستتحسن».
وكانت تصريحات سابقة لتوبيرا قد أسهمت في تأجيج الخلاف بين البلدين عندما انتقدت في حفل تكريم أحد رسامي صحيفة «شارلي إيبدو» تقييد حرية التعبير في المغرب، وقالت إنه لا يسمح برسم كاريكاتير للملك محمد السادس.
أما كرين فأكد على أن الجانب الاقتصادي سيلعب دورا كبيرا في إعادة الأمور إلى نصابها وبناء علاقات من طراز جديد بين البلدين. وأضاف أن مستوى المبادلات التجارية بين البلدين يصل إلى 10 مليارات دولار، وفرنسا تبقى من أكبر المستثمرين الأجانب في المغرب، وهناك نحو 750 شركة فرنسية تشغل نحو 120 ألف عامل، كما أن أكبر جالية فرنسية في أفريقيا توجد في المغرب، وفرنسا هي أكبر مصدر للسياح بالنسبة للمغرب.
قد تكون الأزمة الحالية بمثابة نقمة في طيها نعمة إذا ما استغلها الطرفان لإعادة بناء علاقتهما على أسس جديدة، فعلى فرنسا - يقول كرين - أن «تتكيف مع الواقع الجديد بالمغرب الذي يتطور باستمرار معتمدة على مقارنة مبنية على التجديد والابتكار في إعادة نسج علاقاتها مع المغرب، كما أن من مصلحة فرنسا والمغرب أن تعتمد باريس على مقاربة جديدة على مستوى الشراكة الاقتصادية، وأن تتوجه أكثر إلى القطاعات الاستراتيجية لتطور المغرب، مثل النقل العمومي العصري والمدن الخضراء والصناعات الفلاحية الصناعية والطاقات المتجددة، في إطار تكامل وتعاون مثمر بين البلدين مع شركائهما التقليديين، لا سيما في القارة الأفريقية، وكسب جزء من الأسواق الأخرى كالشرق الأوسط». فمعمل تصنيع السيارات «رونو» بطنجة، يوضح كرين «جعل الشركة الفرنسية تستعيد عافيتها التجارية والمالية، وجعل المغرب ينوع صادراته، حيث أصبح قطاع السيارات أكبر مصدر بالمغرب قبل القطاعات التقليدية المتمثلة في الفوسفات والمواد الفلاحية».



نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا
TT

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فيما حصل أقرب منافسيها باندوليني إيتولا على 26 في المائة فقط من الأصوات. شكَّل فوز نيتومبو الملقبة بـ«NNN»، حلقةً جديدةً في حياة مليئة بالأحداث، عاشتها المرأة التي ناضلت ضد الاحتلال، واختبرت السجن والنفي في طفولتها، قبل أن تعود لتثبت نفسها بصفتها واحدة من أبرز النساء في السياسة الناميبية وقيادية فاعلة في الحزب الحاكم «سوابو».

في أول مؤتمر صحافي لها، بعد أسبوع من إعلان فوزها بالانتخابات الرئاسية، تعهدت نيتومبو، التي ستتولى منصبها رسمياً في مارس (آذار) المقبل، بإجراء «تحولات جذرية» لإصلاح مستويات الفقر والبطالة المرتفعة في ناميبيا، الدولة الواقعة في الجنوب الأفريقي، والتي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة.

نيتومبو أشارت إلى أنها قد تنحو منحى مختلفاً بعض الشيء عن أسلافها في حزب «سوابو» الذي يحكم ناميبيا منذ استقلالها عن جنوب أفريقيا في عام 1990. وقالت نيتومبو: «لن يكون الأمر كالمعتاد، يجب أن نُجري تحولات جذرية من أجل شعبنا».

لم توضح نيتومبو طبيعة هذه التحولات الجذرية التي تعتزم تنفيذها، وإن أشارت إلى «إصلاح الأراضي، وتوزيع أكثر عدالة للثروة». وبينما يصنف البنك الدولي ناميبيا على أنها دولة ذات «دخل متوسط»، فإنها تعد واحدة من أكثر الدول التي تعاني من عدم المساواة في توزيع الدخل على مستوى العالم، مع ارتفاع مستويات الفقر التي ترجع جزئياً إلى إرث عقود الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء.

ووفق تقرير رسمي من البنك الدولي صدر عام 2021 فإن «43 في المائة من سكان ناميبيا يعيشون فقراً متعدد الأبعاد». وهو مؤشر يأخذ في الاعتبار عوامل عدة إلى جانب الدخل، من بينها الوصول إلى التعليم والخدمات العامة.

ولأن طريق نيتومبو السياسي لم يكن أبداً ممهداً، لم يمر إعلان فوزها بالانتخابات دون انتقادات. وقالت أحزاب المعارضة إنها ستطعن على نتيجة الانتخابات الرئاسية، متحدثةً عن «صعوبات فنية وقمع ضد الناخبين». لكنَّ نيتومبو، المعروفة بين أقرانها بـ«القوة والحزم»، تجاهلت هذه الادعاءات، واحتفلت بالفوز مع أعضاء حزبها، وقالت: «أنا لا أستمع إلى هؤلاء المنتقدين».

نشأة سياسية مبكرة

وُلدت نيتومبو في 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 في قرية أوناموتاي، شمال ناميبيا، وهي التاسعة بين 13 طفلاً، وكان والدها رجل دين ينتمي إلى الطائفة الأنغليكانية. وفي طفولتها التحقت نيتومبو بمدرسة «القديسة مريم» في أوديبو. ووفق موقع الحزب الحاكم «سوابو» فإن «نيتومبو مسيحية مخلصة»، تؤمن بشعار «قلب واحد وعقل واحد».

في ذلك الوقت، كانت ناميبيا تعرف باسم جنوب غرب أفريقيا، وكان شعبها تحت الاحتلال من دولة «جنوب أفريقيا»، مما دفع نيتومبو إلى الانخراط في العمل السياسي، والانضمام إلى «سوابو» التي كانت آنذاك حركة تحرير تناضل ضد سيطرة الأقلية البيضاء، لتبدأ رحلتها السياسية وهي في الرابعة عشرة من عمرها.

في تلك السن الصغيرة، أصبحت نيتومبو ناشطة سياسية، وقائدة لرابطة الشباب في «سوابو»، وهو ما أهّلها فيما بعد لتولي مناصب سياسية وقيادية، لكنها تقول إنها آنذاك «كانت مهتمة فقط بتحرير بلدها من الاحتلال»، مشيرةً في حوار مصوَّر نُشر عبر صفحتها على «فيسبوك» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن «السياسة جاءت فقط بسبب الظروف، التي لو اختلفت ربما كنت أصبحت عالمة».

شاركت نيتومبو في حملة «ضد الجَلْد العلنيّ»، الذي كان شائعاً في ظل نظام الفصل العنصري، وكان نشاطها السياسي سبباً في إلقاء القبض عليها واحتجازها، عدة أشهر عام 1973، وهي ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية. ونتيجة ما تعرضت له من قمع واضطهاد، فرَّت نيتومبو إلى المنفى عام 1974، وانضمت إلى أعضاء «سوابو» الآخرين هناك، واستكملت نضالها ضد الاحتلال من زامبيا وتنزانيا، قبل أن تنتقل إلى المملكة المتحدة لاستكمال دراستها.

تدرجت نيتومبو في مناصب عدة داخل «سوابو»، فكانت عضواً في اللجنة المركزية للحركة من عام 1976 إلى عام 1986، والممثلة الرئيسية للحركة في لوساكا من عام 1978 إلى عام 1980. والممثلة الرئيسية لشرق أفريقيا، ومقرها في دار السلام من عام 1980 إلى عام 1986.

درست نيتومبو في كلية غلاسكو للتكنولوجيا، وحصلت على دبلوم في الإدارة العامة والتنمية عام 1987، ودبلوم العلاقات الدولية عام 1988، ودرجة الماجستير في الدراسات الدبلوماسية عام 1989 من جامعة كيل في المملكة المتحدة، كما حصلت على دبلوم في عمل وممارسة رابطة الشبيبة الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي، من مدرسة «لينين كومسومول العليا» في موسكو.

ونالت الكثير من الأوسمة، من بينها وسام النسر الناميبي، ووسام «فرانسيسكو دي ميراندا بريميرا كلاس» من فنزويلا، والدكتوراه الفخرية من جامعة دار السلام بتنزانيا.

تزوجت نيتومبو عام 1983 من إيبافراس دينجا ندايتواه، وكان آنذاك شخصية بارزة في الجناح المسلح لجيش التحرير الشعبي في ناميبيا التابع لـ«سوابو»، وتولى عام 2011 منصب قائد قوات الدفاع الناميبية، وظل في المنصب حتى تقاعده في عام 2013، ولديها ثلاثة أبناء.

العودة بعد الاستقلال

بعد 14 عاماً من فرار نيتومبو إلى المنفى، وتحديداً في عام 1988، وافقت جنوب أفريقيا على استقلال ناميبيا، لتعود نيتومبو إلى وطنها، عضوة في حزب «سوابو» الذي يدير البلاد منذ الاستقلال.

تدرجت نيتومبو في المناصب وشغلت أدواراً وزارية عدة، في الشؤون الخارجية والسياحة ورعاية الطفل والمعلومات. وعُرفت بدفاعها عن حقوق المرأة.

وعام 2002 دفعت بقانون عن العنف المنزلي إلى «الجمعية الوطنية»، وهو القانون الذي يعد أحد أبرز إنجازاتها، حيث دافعت عنه بشدة ضد انتقادات زملائها، ونقلت عنها وسائل إعلام ناميبية في تلك الفترة تأكيدها أن الدستور يُدين التمييز على أساس الجنس.

وواصلت صعودها السياسي، وفي فبراير (شباط) من العام الماضي، أصبحت نائبة رئيس ناميبيا. كانت أول امرأة تشغل مقعد نائب رئيس حزب «سوابو» بعدما انتخبها مؤتمر الحزب في عام 2017 وأعيد انتخابها في مؤتمر الحزب نوفمبر 2022، مما أهَّلها لتكون مرشحة الحزب للرئاسة عام 2024، خلفاً للرئيس الحاج جينجوب، الذي توفي خلال العام الماضي، وتولى رئاسة البلاد مؤقتاً نانجولو مبومبا.

صعوبات وتحديات

لم تكن مسيرة نيتومبو السياسية مفروشة بالورود، إذ اتُّهمت في فترة من الفترات بدعم فصيل منشق في حزب «سوابو» كان يسعى لخلافة سام نجوما أول رئيس لناميبيا بعد الاستقلال، لكنها سرعان ما تجاوزت الأزمة بدعم من هيفيكيبوني بوهامبا، خليفة نجوما.

يصفها أقرانها بأنها قادرة على التعامل مع المواقف الصعبة بطريقة غير صدامية. خلال حياتها السياسية التي امتدّت لأكثر من نصف قرن أظهرت نيتومبو أسلوباً عملياً متواضعاً في القيادة، ولم تتورط -حسب مراقبين- في فضائح فساد، مما يمنحها مصداقية في معالجة مثل هذه الأمور، لكنَّ انتماءها منذ الطفولة إلى «سوابو»، وعملها لسنوات من خلاله، لا ينبئ بتغييرات سياسية حادة في إدارة البلاد، وإن تعهَّدت نيتومبو بذلك.

ويرى مراقبون أنها «لن تبتعد كثيراً عن طريق الحزب، ولن يشكل وجودها على سدة الحكم دعماً أكبر للمرأة». وأشاروا إلى أن نيتومبو التي كانت رئيسة المنظمة الوطنية الناميبية للمرأة (1991-1994)، والمقررة العامة للمؤتمر العالمي الرابع المعنيّ بالمرأة في عام 1995 في بكين، ووزيرة شؤون المرأة ورعاية الطفل 2000-2005، «لا يمكن وصفها بأنها نسوية، وإن دافعت عن بعض حقوق النساء».

خلال الانتخابات قدمت نيتومبو نفسها بوصفها «صوتاً حازماً يتمحور حول الناس، وزعيمة سياسية وطنية، مخلصة للوحدة الأفريقية، مناصرةً لحقوق المرأة والطفل والسلام والأمن والبيئة»، وتبنت خطاباً يضع الأوضاع المعيشية في قمة الأولويات، متعهدةً بـ«خلق 250 ألف فرصة عمل خلال السنوات الخمس المقبلة» ليتصدر هذا التعهد وسائل الإعلام الناميبية، لكن أحداً لا يعرف إن كانت ستنجح في تنفيذ تعهدها أم لا.

تبدأ نيتومبو فترة حكمها بصراعات سياسية مع أحزاب المعارضة التي انتقدت نتيجة الانتخابات التي جعلتها رئيسة لناميبيا، تزامناً مع استمرار تراجع شعبية الحزب الحاكم. وفي الوقت نفسه تواجه نيتومبو عقبات داخلية في ظل ظروف اقتصادية صعبة يعيشها نحو نصف السكان، مما يجعل مراقبون يرون أنها أمام «مهمة ليست بالسهلة، وأن عليها الاستعداد للعواصف».

ويندهوك عاصمة ناميبيا (أدوب ستوك)

حقائق

ناميبيا بلد الماس... و43% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر

في أقصى جنوب غربي القارة الأفريقية تقع دولة ناميبيا التي تمتلك ثروات معدنية كبيرة، بينما يعيش ما يقرب من نصف سكانها فقراً متعدد الأبعاد.ورغم مساحة ناميبيا الشاسعة، فإن عدد سكانها لا يتجاوز 3 ملايين نسمة؛ ما يجعلها من أقل البلدان كثافة سكانية في أفريقيا، كما أن بيئتها القاسية والقاحلة تصعّب المعيشة فيها. ومن الجدير بالذكر أن البلاد هي موطن صحراء كالاهاري وناميب.وفقاً لموقع حكومة ناميبيا، فإن تاريخ البلاد محفور في لوحات صخرية في الجنوب، «يعود بعضها إلى 26000 عام قبل الميلاد»، حيث استوطنت مجموعات عرقية مختلفة، بينها «سان يوشمن»، و«البانتو» وأخيراً قبائل «الهيمبا» و«هيريرو» و«ناما»، أرض ناميبيا الوعرة منذ آلاف السنين.ولأن ناميبيا كانت من أكثر السواحل القاحلة في أفريقيا؛ لم يبدأ المستكشفون وصيادو العاج والمنقبون والمبشرون بالقدوم إليها؛ إلا في منتصف القرن التاسع عشر، لتظل البلاد بمنأى عن اهتمام القوى الأوروبية إلى حدٍ كبير حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما استعمرتها ألمانيا، بحسب موقع الحكومة الناميبية.سيطرت ألمانيا على المنطقة التي أطلقت عليها اسم جنوب غربي أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، وأدى اكتشاف الماس في عام 1908 إلى تدفق الأوروبيين إلى البلاد، وتعدّ ناميبيا واحدة من أكبر 10 دول منتجة للماس الخام في العالم، وتنتج وفق التقديرات الدولية نحو مليونَي قيراط سنوياً.شاب فترة الاستعمار صراعات عدة، وتمرد من السكان ضد المستعمر، تسبَّبا في موت عدد كبير، لا سيما مع إنشاء ألمانيا معسكرات اعتقال للسكان الأصليين، وعام 1994 اعتذرت الحكومة الألمانية عن «الإبادة الجماعية» خلال فترة الاستعمار.ظلت ألمانيا تسيطر على ناميبيا، التي كانت تسمى وقتها «جنوب غربي أفريقيا» حتى الحرب العالمية الأولى، التي انتهت باستسلام ألمانيا، لتنتقل ناميبيا إلى تبعية جنوب أفريقيا، فيما تعتبره الدولة «مقايضة تجربة استعمارية بأخرى»، وفق موقع الحكومة الناميبية.في عام 1966، شنَّت المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا (سوابو)، حرب تحرير، وناضلت من أجل الاستقلال، حتى وافقت جنوب أفريقيا في عام 1988 على إنهاء إدارة الفصل العنصري. وبعد إجراء الانتخابات الديمقراطية في عام 1989، أصبحت ناميبيا دولة مستقلة في 21 مارس (آذار) 1990، وأصبح سام نجوما أول رئيس للبلاد التي ما زال يحكمها حزب «سوابو». وشجعت المصالحة بين الأعراق السكان البيض في البلاد على البقاء، وما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في الزراعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى.وتعد ناميبيا دولة ذات كثافة سكانية منخفضة، حيث يعيش على مساحتها البالغة 824 ألف متر مربع، نحو ثلاثة ملايين نسمة. ويشير البنك الدولي، في تقرير نشره عام 2021، إلى أن ناميبيا «دولة ذات دخل متوسط»، لكنها تحتل المركز الثالث بين دول العالم من حيث عدم المساواة في توزيع الدخل، حيث يمتلك 6 في المائة فقط من السكان نحو 70 في المائة من الأملاك في البلاد، وتعيش نسبة 43 في المائة من سكان ناميبيا في «فقر متعدد الأبعاد». وتدير ثروات البلاد الطبيعية من الماس والمعادن شركات أجنبية.وتمتلك ناميبيا ثروة برية كبيرة، لكنها تعاني بين الحين والآخر موجات جفاف، كان آخرها الصيف الماضي، ما اضطرّ الحكومة إلى ذبح أكثر من 700 حيوان بري من أجناس مختلفة، بينها أفراس نهر، وفيلة، وجواميس وحمير وحشية، وهو إجراء ووجه بانتقادات من جانب جمعيات البيئة والرفق بالحيوان، لكن حكومة ناميبيا دافعت عن سياستها، مؤكدة أنها تستهدف «إطعام السكان الذين يعانون الجوع جراء أسوأ موجة جفاف تضرب البلاد منذ عقود».ووفق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة منتصف العام الحالي، فإن «نحو 1.4 مليون ناميبي، أي أكثر من نصف السكان، يعانون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، مع انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 53 في المائة ومستويات مياه السدود بنسبة 70 في المائة مقارنة بالعام الماضي».