عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث

الحاكم في اليمن بالتحكم.. لم يتلق أي تعليم نظامي.. ويمارس السباحة ويكتب الشعر

عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث
TT

عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث

عبد الملك الحوثي.. الإمام الثالث

بعد أن ثبتت الحركة الحوثية قواعدها بقوة السلاح على الساحة اليمنية، منذ 21 سبتمبر (أيلول) العام الماضي، ومن ثم استولت على القصر الرئاسي الأسبوع الماضي، وأجبرت للرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته على الاستقالة، تتوجه الأنظار إلى زعيم الحركة، عبد الملك الحوثي، لمعرفة الخطوة التالية.. هل هي إعادة دولة أسلافه (الإمامة) ليصبح الإمام الثالث، في المملكة المتوكلية اليمنية، التي كانت تحكم البلاد منذ عام 1918، وحتى 1962. وليكون امتدادا للإمام يحيى حميد الدين ومن بعده نجله الإمام أحمد، أم يسير على خطى حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، أم يشق طريقا ثالثا لنفسه برعاية إيران خارجيا، وعلي عبد الله صالح داخليا.

يرى منتقدو الحركة أن الهدف الحقيقي للحوثي هو استعادة الحكم الذي سلب من سلالتهم المذهبية. وفي هذا الإطار يقول الباحث اليمني زايد جابر، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحوثيين يسيرون على خطى الأئمة، من حيث السيطرة والقتل والتفجير ضد خصومهم.. وإن عبد الملك الحوثي يسير على نهج من سبقوه من الأئمة، كي يثبت أنه أصبح مؤهلا للإمامة.
ويعتقد الحوثيون أن «الولاية العامة»، تنحصر في سلالة الرسول الكريم، الذي يعود نسبهم إليه كما يقولون، لذا لا ينفك عبد الملك الحوثي نفسه عن التحدث عن أهمية التمسك بالولاية التي يعتبرها ولاية إلهية. ففي خطابه بمناسبة «عيد الغدير» 2014. أكد أن «مبدأ الولاية مبدأٌ قرآني إيماني، لأنه يرتبط أساسا بولاية الله سبحانه وتعالى، وولاية الرسول هي امتداد لولاية الله». وبحسب مقربين من الجماعة فإن تزعم عبد الملك للحركة جاء بعد خلافات عميقة داخل قيادتها بعد مقتل مؤسسها في الحرب الأولى، حيث كانت القائد الميداني عبد الله الرزامي هو المرشح الأبرز لتولي زعامة الحركة، إلا أن الأب الروحي للحركة بدر الدين الحوثي رفض ذلك وقدم ابنه ليكون هو قائد الحركة. وترتبط الظاهرة الحوثية بتخريج زعامات من سلالة محددة من البشر، يحاطون بتعظيم مبالغ فيه، كما هو الحال مع زعيم الحركة عبد الملك الحوثي الذي يبدو كنموذج مصغر من زعيم حزب الله في لبنان حسن نصر الله، حيث يرفعان شعارات محاربة إسرائيل وأميركا.
لقد أصبحت الحركة الحوثية وقيادتها منذ 21 سبتمبر 2014، محط الأنظار باعتبارها الحركة الشيعية المسلحة التي سيطرت على عاصمة بلد وتمكنت خلال وقت قصير من تحقيق أهدافها بقوة السلاح، وقد ظهرت الحركة المدعومة من إيران، قبل 22 سنة على يد مؤسسها حسين الحوثي شقيق زعيم الحركة الحالي، واتخذت من المذهب الزيدي الذي ينتشر أتباعه في أقصى شمال البلاد، غطاء للتوسع وتجنيد الأتباع والتأثير على أبناء المناطق القبلية.
كان عبد الملك في العقد الثاني من عمره حين ورث زعامة الحركة، بعد مقتل شقيقه حسين بدر الدين الحوثي على يد الجيش عام 2004، في نهاية الحرب الأولى بين جماعته والسلطات المركزية، ليتوارى بعدها في كهوف الجبال الوعرة والتضاريس الجغرافية القاسية، بمعقل الحركة في محافظة صعدة، بعد إعلان السلطات ملاحقة كل من ينتمي للحوثي، ليقود بعدها أتباعه في 5 حروب ضد السلطات وكان آخرها عام 2010. وخلال 11 سنة «2004 - 2015»، استطاع الشاب وبدعم مباشر من إيران والرئيس السابق علي عبد الله صالح، أن يقود ميلشياته التي هي خليط من القبائل المحيطة بصنعاء، ومقاتلين تدربوا على يد خبراء إيرانيين وحزب الله، وسيطروا على مقاليد الحكم في صنعاء التي كانت تدار منها الحروب الست ضد جماعته أثناء حكم صالح، الذي تحالف مع الجماعة بعد الإطاحة به عام 2011.
يحيط الغموض تفاصيل الحياة الشخصية والاجتماعية، لعبد الملك الحوثي بسبب الإجراءات الأمنية المشددة التي يحيط بها نفسه، فهو قليل الظهور بالإعلام، وإن ظهر فعبر خطابات متلفزة تنقلها فضائية «المسيرة» التابعة للحركة التي تبث من بيروت، ويطلق عليه أتباعه لقب «سيد» وهو لقب يطلق عادة في اليمن على من ينتمي إلى الهاشميين ممن ينحدرون من سلالة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حسب اعتقادهم.
يعد والده بدر الدين الحوثي من أبرز المراجع الفقهية للمذهب الزيدي، لكنه شهد تحولا جذريا في فكره بعد سفره إلى إيران، التي تأثر بها فتحول مذهبه إلى المذهب الجارودي، القريب من المذهب الإثني عشري، بعد إقامته في إيران خلال الفترة ما بين 1994 و2002 كما يقول الباحثون. ولا يعرف عن عبد الملك التحاقه بالتعليم النظامي إذ اعتمد على والده المرجع الزيدي، لتلقي العلوم الدينية، فكان المفضل عنده من بين إخوته، فكان مرافقه في كل مكان يذهب إليه، وعندما تم نفي والده من البلاد 1994، رافقه في سفره إلى إيران، حيث تشكلت شخصيته الفكرية والآيديولوجية بحسب المقربين منه.
وظهرت حركة «أنصار الله» وهو الاسم الرسمي الذي يطلقون على أنفسهم، كتنظيم شبابي فكري عام 1992، ليدب الخلاف بين مؤسسي التنظيم الذي كان يسمى «منتدى الشباب المؤمن»، وكان يموله الرئيس السابق، بسبب سعي حسين الحوثي إلى التمرد على المذهب الزيدي وهو ما رفضه مؤسسو التنظيم، ما دعا حسين إلى الاستقلال عنهم وتكوين حركته الخاصة. وبات الشاب عبد الملك ممسكا بزمام قيادة الحركة.
ويقول الناطق الرسمي للجماعة محمد عبد السلام في تصريحات سابقة مع «الشرق الأوسط» إن «السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي هو من يصدر القرارات ويتشاور مع المجلس السياسي في أي نشاط مطلوب»، أما عن البنية الهيكلية للحركة فإن المعلومات حولها تبدو شحيحة، إذ لا يعرف عن الجماعة إلا أنها تتكون وحدات قتالية بقيادة شقيق زعيم الحركة عبد الخالق الحوثي الذي أدرج مجلس الأمن اسمه ضمن العقوبات الدولية، إضافة إلى قائد آخر هو عبد الله الحاكم، والرئيس السابق علي عبد الله صالح، وهذه الميليشيات المسلحة ترتبط مباشرة بزعيم الحركة، أما العمل السياسي فهو منوط بالمجلس السياسي الذي يقوده صالح الصماد الذي عين مؤخرا مستشارا في الرئاسة اليمنية، ويقع مقره في منطقة الجراف أحد أحياء العاصمة صنعاء الشمالية.
وتقول المصادر إن عبد الملك ولد عام 1399هـ، الموافق للميلادي 1978، في قرية تسمى «الجمعة»، وانتقل بعدها إلى عزلة مران بمديرية حيدان، وتلقى تعليمه في حلقات الدروس الدينية التي كان والده يدرسها في مساجد صعدة، منذ كان عمره 18 سنة، ويقول الكاتب الصحافي عابد المهذري إن عبد الملك رافق والده إلى طهران عندما قررت السلطات نفيه لأسباب ذات أبعاد سياسية ومذهبية كما يقول، ويصف المهذري الذي كتب السيرة الذاتية عنه بأنه «كان منضبطا في حياته، يصحو وينام باكرا، ويقرأ كثيرا ويطالع الصحف ويتصفح الإنترنت ويلاعب الأطفال، يمارس رياضة السباحة والمشي ويحرص على الالتقاء بأصدقائه القدامى ورفاق الطفولة، مرح يحب النكتة البريئة، يكتب الشعر وتطربه الأناشيد والفنون الإسلامية».
ويرفض عبد الملك أي تهديدات دولية تجاه جماعته، وقد أكد في آخر خطاب له أن «قرارات مجلس الأمن لا تخيفهم، وأنهم على استعداد كامل لمواجهتها في حال تعارضت مع مصلحة الشعب اليمني»، أما عن علاقتهم بإيران فهو يفضل عدم التحدث في خطابتها عنها، فيما يترك ذلك للقيادات التي تحت أمرته والذين بدورهم لا ينفون هذه العلاقة وقد برزت هذه العلاقة في قضية سفينة السلاح «جيهان 1»، التي تم الإفراج عن طاقمها الإيراني بعد ضغوطات من الجماعة على السلطات، إضافة إلى أن إفادة بعض المصادر بوجود خبراء إيرانيون يدربون مقاتلي الجماعة منذ حرب عمران وحتى اقتحام العاصمة صنعاء، وقد برز الدعم الإيراني بقوة بعد ذلك كان آخرها قبل أيام حين أكد مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، أمير عبد اللهيان، أن إيران باتت اليوم الأكثر نفوذا في المنطقة، وأنها تستخدم هذا النفوذ لضمان أمنها القومي ومصالحها القومية وأمن المنطقة.

* نموذج مصغر
يظهر عبد الملك شبيها بحسن نصر الله من حيث ظهوره الإعلامي، وطريقه خطاباته وحركاته، وحراسته التي تتشابه مع زي الحرس الإيراني، وينتهز عبد الملك المناسبات الدينية ليظهر إلى أتباعه في خطابات متلفزة طويلة، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهم لمشاهدة زعيمهم الذي يعيش في معقل الحركة بمحافظة صعدة، ويرفض دخول العاصمة صنعاء حتى بعد سيطرة أتباعه عليها، بمبرر الأوضاع الأمنية غير المستقرة، يقول أحد القيادات السياسية التي زارت عبد الملك ضمن وفد رسمي قبل بضعة أشهر، إن الإجراءات الأمنية التي يحيط عبد الملك نفسه بها مشددة، إذ يم تجريد كل أعضاء الوفد من جميع الأجهزة الإلكترونية والأقلام، ثم يتم نقلهم من مكان إلى آخر، عبر سيارات خاصة وصولا إلى المقر الدائم له.
يظهر عبد الملك في خطابته المتلفزة، مرتديا الزي الشعبي المكون من ثوب وخنجر يتوسط خصره والذي يسمى شعبيا «الجنبية»، ويتدلى من كتفيه الشال، ويفضل أن يظهر بخاتم من العقيق على إصبع «الخنصر»، ويقدم فيها خطابات تتجاوز مدتها ساعة كاملة، وتستهدف غالبا دغدغة العواطف الشعبية، عبر مواضيع الفساد والدين، والقضايا الإسلامية كقضية فلسطين والعداء مع إسرائيل وأميركا. ويقول الخبير الإعلامي محمد السامعي إن الظهور الإعلامي لعبد الملك الحوثي، دائما ما يكون مختلفا عن القيادات السياسة في اليمن، فوسائل الإعلام التابعة له تحاول أن تظهره كأنه قائد يحاط بهالة من القداسة والاختلاف، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «خطاباته تعتبر أطول خطابات عرفها اليمن، ويلتفت لها الكثير ليس لتأثرهم بها بل لمعرفة رأي الجماعة التي باتت تتحكم بالمشهد اليمني في مختلف المجالات بقوة السلاح بتنسيق وتحالف واضحين مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح». مشيرا إلى أن شخصيته الخطابية التي يحاول فيها أن يظهر بحماسة وثقة كبيرتين دون أي ابتسامة هو تقليد لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، ويوضح «كثير من اليمنيين يعتقدون أن خطاباته وظهوره الإعلامي مملان بشكل مستمر؛ فالكثير منهم يعتقدون أن ما يقوله هو عكس ما يفعله».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».